الخيوط
لم أنسَ. وكيف أنسى خيوطاً أعطتها لي الحياة. الحياةُ النجيلةُ مثل عصى. أنتَ وما تسحبُ. ومع تلك الحياة أتتنا الخيوط. ومنها نسجَ لنا الأهلُ ثياب عيد، وسداري مدارس، وبدلات فتوّة. وكل عام في صف. ولا انتهاء في الأفق للصفوف. السادس. والسابع. والثامن. والتاسع. و”اترك من يدك”. و”إلى دراستك”. وعندما نتأخرُ خارج البيت يسألُوننا:
“أين كنتم ؟”.
فنجيبهم:
“كنا هنا. عند رأس الحارة”.
“يعني لم تذهبوا مع غالب؟”.
“لا لم نذهب معه”.
ونكون قد ذهبنا، وغمّقنا. وتركنا صفوف البيوت، التي ينتهي عندها المخيّمُ، وبعدها إلى البيادر، وبستان “أبو أنيس″، ومنه إلى أعماق الغوطة. وكيف سنعود متى تشابهت الأمكنة، وتشابه معها السواد؟ وتكون النباتات التي هاشت عند ضفاف السواقي قد شدّتنا إلى الطين. ولن نخرج منه إلا بعد بكاء مرير.
أغصانٌ مخادعة تشدّنا إلى الرُكَب. وتجرّنا إلى القلب الرجراج والمخادع.
وعندها فقط كنا نسأل “غالب”:
“أين تأخذنا؟”.
وكان يُجيبنا:
“امشِوا. امشِوا ولا تخافوا. ولا تبكوا كالأطفال”.
وكان الأقوى، والأجرأ. ويوم أن أمسكوه مع “سعاد” في البستان حلَفَ أبوه أمام أهلها الذين هاصوا بالسكاكين والعصيّ، وأمام الناس أجمعين، أن يجعل من ابنه عبرةً لمن يعتبر. وصلبه على عمود الكهرباء الذي رُكِّب حديثاً عند رأس الحارة.
وبكاء “غالب” وتوسّلاته ملأت الحارة، والحارات المجاورة، وجمّعت عليه الناس من أرجاء المخيّم قاطبةً. ثمّ، ومِن بعد الضرب والتجريص في الشوارع مَن عاد يقدر عليه. على قدّيسنا الصغير. نموذجنا الأعلى. وكنا ساعة نختلي به نرجوه مثل شحّاذين:
” قل لنا كيف؟”.
” قل لنا كيف؟”.
وكنا بذلك كَمَن يخاطبُ زجاجاً سميكاً. فالزجاجُ الكتيم الذي صُنعت منه نفوس البشر لا يقول شيئاً. وكيف يقول؟ ومن أين يبدأ؟ وكلُّ قولٍ كان سيفكُّ السحر.
وها هي تحيّةُ “سعاد ” لي تخلط الأزمان. الماضي حاضراً والحاضرُ ماضٍ. وأنا لم أنسَ. كنتُ، فقط، بحاجةٍ إلى بعض الوقت. وبعض الوقت لا يأتي متى ما أردتُه. وبالأخصّ، عندما انبثقت كلماتُها على نحوٍ عجائبيّ. نبتةٌ وسط الصحراء. إنها الاستحالةُ تطلُّ برأسها مثل معلّم عجوز. تشرحُ لي الدرس الذي أعرفه. أهي المجاملة عندما نصطدم وجهاً لوجه؟ أم الرغبة في قول شيء ما؟ فمن المؤكّد أنها لم تكن تسألني عن صحّتي:
“كيفك يا احمد؟”.
هكذا جاءني صوتُها الذي لا أخطئُهُ. وقبل أن أجيب، أكملت:
“شو انسيت؟”.
“انسيتني ما هيك؟”.
وأنا لم أنسَ. بل كنتُ أتمنى. لو ينفَعُ التمنّي. أأكون مضحكاً لو تمنّيتُ أن التحيّة التي أسمعُها الآن، كانت قد قيلت لي أيام ذاك. في وقت حاجتي الحقيقية لها. عندما حاولتُ أن أثقب الشرنقة التي خنقتنا بداخلها أسطورة “غالب”. ويومها كنتُ أطمحُ أن أكونه. أمشي فتسبقني حكايةٌ لا تشبه الحكايات. فلماذا؟ لماذا لم تكن “سعاد” التي تُحيّيني الآن مثل “سعاد” التي مضت تكزدر مع “غالب” في البساتين، وصاغت له أسطورته. “غالب كمشوه مع ‘سعاد’ في البستان”. ما كان أروعها من كلمات. ألهبت مخيّلتنا زمناً، قبل أن تقشر لنا الحياةُ عن اللّب الزائف وراء تلك الكلمات وأمثالها.
وأعرف أن طلبي الذي شفعَتُهً أيامذاك، بهديّة مُعتَبَرة: قلم حبر بعلبته كان ضعيفاً، وممزوجاً بكثير من الطين والضجيج. والأسطورة التي توسّلتُها أيّامذاك لن تحقّقها “سعاد” بل المقهى. المقهى. المقهى. أسطورة الأساطير. وكل “دمشق” أساطير. المقاهي والمطاعم والحارات والحانات. والعمل السياسيِّ.
وكبكوبةُ الخيطان التي كانتها المدينةُ في أوّل تعرّفٍ لي بها ناولتني رأس أحد الخيوط. وكان المقهى أوّل خيوطِي. وكانت مرآتُهُ الممتدة على طول الجدار الداخلي قد أرتني نفسي عشرات المرّات. في كل روحةٍ إلى “التجهيز″، وفي كل عودةٍ منها.
وها أناذا ببدلة الفتوة. جندي صغير. بشارب خفيف. ولحية أخفّ. أوشك أن أمسك ذلك الخيط فيسمّرني الخوف. وماذا؟ أأنا خائف؟ ألا أريدُ للشرنقة أن تُثقَب؟ ألا أريد للاكتمال أن يتحقّق؟. وماذا؟ أهو شيء آخر غير مقهى؟
إن كنتُ سأتردّد وأفكّر بالأمر طويلاً فليس أمام الباب. بل عند الزاوية. أو على الرصيف المقابل. وسأترك مسافة أمان. لن أترك لأبطالي الجُدُد أن يروني. سأباغتهم وفي الزاوية التي أراهم منها ولا يرونني سأقف. وأزيّن الأمور.
ولكن إلى متى سأظلّ أزيّن الأمور؟ وبأيِّ ميزان سأزيّنها؟ لقد زنتُها وأشبعتُها زيناً. فإن قطعتُ الشارع الذي أقف عند زاويته مثل لصّ فسأصبح أمام المقهى من جديد. ومتى صرتُ هناك فقد تحتّم عليَّ الدخول. وعندما أصل فلن أسمح لمزيدٍ من التردد بأن يلتهم عزيمتي. إن قطعتُ الشارع فأكون قد اخترتُ أن أكسر المرآة. وسأقفز منها. فهي لم تعد لي. إحدى الطاولات ستصير لي. وهذا ما أكّده النادل عندما سألني:
” شو بيطلب الشبّ؟”.
الشبُّ. الشبُّ. الكلمة التي أخرجتني من المرآة وقادتني برفق نحو إحدى الطاولات.
ولحظتها، سمعتُ النداء الوحشي والمغوي:
“اتبعوني عميقاً. وبعيداً. لا تخافوا. ولا تكونوا كالأطفال”.
ولكأنما أتاني من أعماقٍ خفيّة. نداء بساتين الغوطة التي فصفصنا عظامها حتى أزلنا عنها كلَّ مهابة. نداءً سمعتُهُ فحثثتُ الخطى وأنا أعبر الشارع. أحطّم أسطورةً كي أبني أخرى.
وهناك، في قلب المقهى، وأنا أجلس على إحدى الطاولات سوف أسمع كلماتٍ ولا أشهى. كلمات لن تقلَّ بهاءً عن الكلمات التي أسمعُها الآن من “سعاد”.
وبدلاً من أن أسمع:
“كيفك يا أحمد؟”.
فإنني سأسمع النادل العجوز يسألني بجفاف:
“شو بيطلب الشبّ؟”.
والآن وبعد أن نطقتُ بجرأة كبيرة:
“واحد شاي”.
أحسستُ، أنا الذي كنتُ ما أزال طفلاً، بأنني غدوتُ بقفزةٍ جبّارة واحداً من أقوياء هذا العالم. يأمرُ فيُطاعَ. وبالأخصّ بعد أن ردّد النادل طلبي بأعلى صوتٍ سمعتُه في حياتي:
“وعندك واحد شاي”.
و”عندك واحد شاي”. أشبهت في مدلولها الجملة-الأسطورة: “غالب أمسكوه في البستان مع سعاد”. وحينها، كانت أمثالُ تلك الكلمات ترتفعُ بنا إلى الذُرى. كانت كلمات أنهت الحارة، كي تبدأ المدينة. وأيّ مدينة! نعم. أيَّ مدينة! وكان ذلك فيما مضى. كان ذلك فيما مضى.