الدهليز الضيق
كأنني سرابٌ بين البشر، لستُ موجوداً، لكنني حاضرٌ بينهم. هكذا وصفتُ نفسي عندما كنتُ مستغرقاً في سماع موسيقى موزارت، حينما كنتُ جالساً بين مجموعةٍ من أصدقائي في إحدى المقاهي. كان الجميع منهمكاً في لعب الورق أو الدومينو أو الكلام عن الأمور التي تخص الشباب، كالفتيات، أو التدخين، أو التفاخر بامتلاك قطعة كبيرة من المعدن يدعونها (سيارة). قاطع انتشاء الموسيقى أحد أصدقائي عندما أخبرني أنه يود الذهاب لقضاء حاجته، فطلب مني أن أجلس مكانه. وقفت وأبصرت ما حولي، إنها فوضى تحاول الانتظام، كان الجميع منهمكاً في الصياح والتدخين، جالسين على تلك المقاعد المتهالكة، لا يفكرون بأيّ شيء غير الفوز في تلك الألعاب السخيفة. جلست في مكان صاحبي الذي بدأ بالركض نحو الحمام، وأخذت أوراقه.
كانت هناك ثلاث فئات من الملك، وثلاثة من الملكات، وشاب وفئة العشرة والتسعة من الكوبا، وأربعة أوراق متنوعة غير مرتبطة. نظرت إلى صديقي الذي يجابهني، ثم أعدت ناظري إلى الأوراق، إنه يشبه إلى حد كبير الشاب في الورق، بل إنه هو نفسه. ركزت ناظري في أعين صاحبي، ثم في عين الشاب، إنهما يحملان الرتابة والبلادة ذاتها، أطفأ صاحبي عقب سيجارته ولاحظ شخوص نظري نحوه، فحدق في عيني أيضاً. تلاقت العيون لكن الكلام لم يجرئ أن يُخلق بيننا، كنتُ أريد أن أقول له عن شبهه بالورقة لكنني خشيت أن يحسب أصدقائي أنني أحاول الغش، فالتزمت الصمت كما فعل صاحبي. سحبت الورقة التالية، كانت أربعة من فئة الآص، فرميتها ورأيت قدوم صديقي عائداً من الحمام، فوقفت واعتذرت من أصدقائي، ودفعت ثمن الشاي الرديء الذي احتسيته وخرجت في دربي نحو البيت، أو نحو المجهول، أو نحو لا شيء. أثقلت في خطواتي وأنا أشعل سيجارتي بينما الناس يمشون حولي بسرعة. لا أظن أنهم يدركون وجودي بينهم، فكان كل شخص يمشي وهو يتكلم، يفكّر أو يفعل شيء يبعده عن رتابة المشي وحيداً. كنت بينهم كقطرات المطر الخفيفة التي تهطل في بداية الامطار، لا يلاحظها أحد إلا تلك الأرواح المهجورة، التي تلاحظ التفاصيل الصغيرة، على أمل أن تملأ وقتها ولو بأشياء عديمة الفائدة. كان الشارع الطويل الذي قادتني قدماي إليه مليئاً بالضجيج، والبشر. لكنني لم أسمع شيئاً من هذا الضجيج ولم أر أحداً من هؤلاء البشر، كنتُ أرى قدماي أمامي تمشي، ولا شيء سواها. توقفت وأشخصت نظري لوهلةٍ في السماء، كيف لها أن تكون صافيةً إلى هذا الحد، كيف يمكنني رؤيتها وأنا في وسط هذا الزحام الشديد، إن السماء ليست شيئاً يجب رؤيته في أيّ وقت، إنها جمال، والجمال يظهر أحياناً، ويختفي كثيراً. في تلك اللحظة رأيت شاباً يحمل بيده ورقة الشاب كوبا، كالتي كنت أحملها قبل قليل، يا للصدفة الجميلة، رأيته يحملها وهو يلتفت بين الناس كأنه يحاول إخفاءها، لكنني كنتُ أراها بوضوح بيده، تقدمت تجاه الشاب وهو يسبقني بخطواتٍ متوترة، يلتفت بين الفينة والأخرى أملاً أن يصل إلى مكانٍ ما. لكن عيني مازالت تطارد ورقة الشاب التي في يده، لم أشأ أن أجعله يلاحظني، لكنني أحسست أن شيئاً ما على وشك الحصول، ويجب عليّ أن أعرف ماهيته. لاسيما أن الشاب يبدو متوتراً للغاية. لاحظت بعد عدة خطوات أكملها الشاب أنه قد صدم امرأة واتجه فجأة إلى إحدى الأزقة التي لا أذكر أنني قد ولجتها سابقاً. تتبعت مسيره، فإذا بالزقاق يفضي إلى دهليز ضيق، كان الدهليز ضيقاً وطويلاً لدرجة أنني لم أتمكن من رؤية نهايته، كان السقف والحائط مطليان باللون الأحمر القاتم، لم أر في الحائط أيّ شقوق أو فواصل، كان يبدو كأنه قد بُني وصُبغ لتوه. أسهبت في تفكيري عن ماهية دخولي في الدهليز أو العودة إلى البيت، لكنني لم أشأ حقاً رؤية رتابة البيت التي تركته بها، أن أعود وأرى عائلتي تلومني على الماضي الذي لم أقترف به شيئاً مخالفاً للصواب، على الكلام البليد الذي يُعاد دوماً، عندما رأيت شريط الذكريات هذا يمر أمام عيني، أكملت طريقي دون أن أفكر حتى في عواقب فعلتي.
كان الشاب قد اختفى منذ أن ولج الدهليز، لم أره حينها ولم ألحظ وجوده، كان قد تلاشى، وهذا أحد الأسباب الذي جعلني أيضاً أكمل مسيرتي الغامضة، عفواً لا أودّ أن أجعلها مغامرة وجودية، مسيرتي التافهة، نحو هذا اللغز الذي بدأ يزداد غموضاً.
أخذتُ نفساً عميقاً، وبدأتُ خطواتي في داخل الدهليز، وبدأت أصوات الخارج تتلاشى شيئاً فشيئاً، حتى اختفت نهائياً. بدأت بالتقدم أكثر لكنني لا أجد نهايةً لدربي، يا للعنة، لماذا أنا بهذا الغباء، لماذا أخوض أشياءً لا تعني لي أي شيء. بدأت خطواتي في الخمود إثر الإحباط الذي أصابني، لا يبدو أن هناك نهاية، أو حتى بداية، لا يبدو أن هناك شيئا، كنتُ أمشي وأرى تغير ألوان حائط الدهليز، الأصفر، الأحمر، الأبيض، الأزرق، الخ….، يبدو أن هذا الدرب اللازوردي بلا هدف، إنه وهم، أمشي به إلى المجهول، إلى العدم. وصلت في لحظةٍ ما إلى مفترق دهاليز، كانت ثلاثة دهاليز، كان الذي أمامي مليئاً بالسواد، أما الذي على يميني فكان مطلياً باللون الأبيض، وكان الذي على يساري مطلياً باللون الرمادي. أين المسير يا تُرى؟ أين أذهب؟ أأذهب إلى الأسود؟ لا إنه لون مشؤوم ولا أعتقد أنني سأكون بخير إذا ذهبت في هذا الطريق، هل أذهب إلى الدهليز الأبيض؟ لا أعتقد أنه يفي بالغرض، يجب عليّ أن أذهب إلى الرمادي، لأنني حسبما أذكر، أن خير الأمور أوسطها. دخلت في الدهليز الرمادي بغية إيجاد شيءٍ يجعلني أفهم ماهية المتاهة المغلقة التي أدخلني إياها هذا الشخص الغريب الذي يحمل ورقةً غبية، اللعنة على جميع الأوراق، وعلى جميع البشرية، بل اللعنة على كل الحياة. أردفت خطواتي في الدهليز الرمادي، فمشيت عدة خطوات، حتى جابهني بابٌ متوسط الحجم، خشبي، قهوائي اللون، كانت هناك لوحةٌ معلقة على وسط هذا الباب، كانت ورقة الشاب الكوبا، يا للعنة، إن هذه الورقة اللعينة تلاحقني في كل مكان، رفست الباب بلوحته، فانكسرت اللوحة، وفُتح الباب على مصراعيه، فتهيأ لي مرحاضٌ خزفي، شاخصاً أمامي، تقدمت نحوه ببطء، حتى اقتربتُ منه، كانت رائحة السيراميك والمنظفات تطغي على المكان، أخيراً بإمكاني الإحساس بشيءٍ ما. اقتربت قليلاً ولمست حافة المرحاض، فلم أر أيّ رد فعلٍ يذكر، لا أعلم إن كنتُ أتوقع أن ينهض المرحاض ويقتلني بورقةٍ حادة، علها تكون ورقة الشاب كوبا. التفتّ خلفي، فلم أر الباب الخشبي، بل رأيت باباً من الألمنيوم، ناصع البياض، تمسكت بقبضته، فخرجت من الباب، ورأيت أنني في حمامات المقهى التي كنتُ أجلس فيها، ورأيتُ الورقة، إنها الشاب كوبا التي كان يحملها الشاب الذي كنت ألحقه، قلّبتها، حاولت أن أحرقها، لكن ولاعتي لم تنجدني بشعلتها الخافتة، فقررت الخروج من المقهى. والبحث عن محل للولاعات كي أبتاع واحدة وأقوم بحرق هذه الورقة الملعونة، مررت بشارع السوق المزدحم، فنظرت خلفي، هناك شخصٌ يلاحقني، يبدو أنه يريد أن يأخذها مني، التفتّ لرؤية وجهه، لكنني لم أتمكن من ذلك، التفتّ كثيراً لكنني لم أستطع، يجب علي أن أضيعه، وبين التفاتاتي المتعددة صدمتني امرأة، واندفعت نحو دربٍ أعرفه.