الذات والعالم
الفرديّة مرتبطة بالزمن على مستويات مختلفة. فالفرد مرتبط بماضٍ هائل ومستقبلٍ لا محدود وهو على عكس عناصر أخرى في الطبيعة لم يستسلم للدورة الطبيعية ووظائف بيولوجية فقط، بل كان ولازال يتدخل في دورة الطبيعة نفسها ويحاول تطويعها لغاياته، بما يجعله يخلق الجديد الذي لم يكن، ويحقّق الذي لم يكن متأتيًّا له بيولوجيًّا، كأن يطير مثلاً، أو يُبحر، أو يجعل صورًا تغادر خياله، أو عالمه، وتصير مرئية حتى لأجيال تأتي بعده. تحقيقه لذاته قد يتجاوزه غيابه فيزيائيا ويمتد إلى المستقبل.
أسرد هنا واقعة متعلقّة بلوحة “الموناليزا” لليوناردو دافنشي التي سرقت من متحف اللّوفر عام 1911. في ذلك العام وصل عدد زوار المتحف رقما قياسيًّا وقد كانوا يصطفون أمام مكان اللّوحة الغائبة. الكاتب ماكس برود زار المتحف أيضا في تلك الفترة؛ بالتقريب ثلاثة أسابيع بعد الحادثة؛ رفقة صديقه فرانز كافكا وكتب في مذكراته بأنّ أثر سرقة اللّوحة كان مثيرًا للدهشة، إذ رغم الغياب الفعليّ للّوحة فإنّ صورتها كانت كلية الحضور في المتحف. دافنشي قدم للعالم حضورًا جديدا لم يكن موجودا من قبل لكنه صار باقيا.
الفرديّة لا تعني تقديس الأنا
الإنسان الذي يميّزه الوعي بذاته المختلفة عن الآخر وبصفاته وما يريده لا تتحقّق له الاستثنائيّة الفرديّة إذا كان مجرَّدَ مستنسخ لسلوكٍ وميولِ غيره في الجماعة، وإذا كان مستسلمًا لدورة اجتماعيّة تشبه الدّورة الطّبيعية التي تستلم لها كائنات غيره. وهو إذ يجنح للأنانية والنّرجسيّة وهو يتطرّف، إنما يبتعد عن الفردية بالتّأكيد. فالفردية لا يجب أن تكون تقديسا للأنا، بل أن تحث على تقدير الفرد. فلا تنفي المرء لا عن المجتمع ولا عن الإنسانيّة.
وعي المرء بفرديته يترتبّ عليه وعيه بفرديّة غيره من البشر وإحساسه بأنّ ما يريده من خيرٍ وأمانٍ وعدالةٍ وحريّةٍ لنفسه يجب أن يريده لغيره أيضا. فرديّته تلّحُ عليه بأن يكون مشتركا في المصير الجماعيّ، وتطالبه بالأثر والفعل الإيجابيّ.
هؤلاء الذين يكتفون بنيل إدانات مجتمعاتهم باستمرار ويعبّرون عن رضاهم عن كونهم مختلفين، أو اختاروا لأنفسهم مسارًا آخر يعتبرونه معاصرًا أو بعيدًا عن همجيّةٍ وجهلٍ سائدين، لا يخلقون من حولهم العداء وحسب، لكّنهم يفشلون في جعل تمزقهم دافعًا لتحقيق مستقبل جماعيٍّ أفضل يطالبهم به دورهم كأفراد. إنهم يقدّمون فقط نفيًا وانقسامًا ولا يأتون بأيّ بدايات منيرة جديدة، لكونهم أساسًا يتغاضون عن البحث في الأسباب ويتجاهلون أو يستخفون بكون الموجود الحاضر نتيجة أو نتائج، وأنَّ أيّ هدمٍ يطالب بتحقيق تناغم اجتماعيٍّ يحافظ على الكرامة واحترام القيم الإنسانيّة.
الفردية لا تطمح للفوضى أو تحقيق أناركيّة ما، بل تطمح لسموّ الفرد وارتقائه بما يترّتب عن ذلك من ارتقاء لمجتمع بأكمله وحرص على قيّم مشتركة تحفظ الحقوق.
الوعي بالفرديّة يحتّم التّساؤل والتفكير وكذلك التذكّر بما في ذلك من بحثٍ في الأسباب ونبشٍ في الماضي وهذا أمرٌ يعيد المرء إلى انتمائه وإلى المجتمع ويقدِّمُ فرصة المراجعة والسعي للتغيير نحو الأفضل. السّعي نحو فرديّة حقيقية لا يواجهنا بالسؤال: ما الذي أريده؟ بل بالأسئلة: ما الذي كان؟ ما الموجود أو المتحقّق؟ ما الممكن وكيف؟
إنّه لا يدفعنا للانزواء وإقصاء الذات، بل لمشاوير ذهاب وإيّاب ذات آثارٍ إيجابيّة على النّفس والغير، تسمح بتحقيق الفرد كعنصرٍ فاعلٍ ومؤثِّرٍ. فهو إذ يكتشف قدراته وشغفه والعوائق التي أمامه ويسعى لتجاوزها قد يقدِّمُ تغييرًا فارقًا طويل الأمد.
الماضي المقيم في الظلام
لنعد إلى الماضي الذي يقول عنه فوكنر “الماضي لم يمت أبدًا إنّه حتّى لم يمض”. بالنسّبة إلى فردٍ من العالم العربيّ الذي تصنف دوله حاليًّا كدولٍ غير متقدّمة أو في طريق النّمو، فإنّ أقل ما يمكن قوله عنه أنّه ماض زاخرٌ بالمجهول، الذي لم يستكشف بما يكفي، وبالمغلوط الذي تم استحداثه من أجل تيسير سيطرة سلطة أو مصالح ما. آثار الاستعمار والنفوذ الغربي لوحدها تصيب الفرد بشكل مباشر، إذ أنّ المستعمر القديم يتدخلّ حتى الآن بأذرعه العديدة في مجالات حيويّة تؤثر على تشكيل الفرد وتوجّهه وذائقته.
ليس في التقليد والسعي إليه أيّ تحقيق للفردية بل إنه قد يحمل في طياته انفصاما لا يدعم إلاّ التبعيّة وتكريس تعالي ثقافة على حساب أخرى، وهذا لا يحقّق تقدّما منشودا. فخطر تقمص نماذج من مجتمعات أخرى وتقديمها على أنّها حلول مثالية أو ناجعة، لتحقيق تقدّم أو حداثةٍ ما يكمن في إلغاء استثنائية الماضي والموروث الثّقافي، قد يكون في ذلك ضمنيا أيضا تجاوز لاختلافات فارقة أخرى.
المثقفون والفنانون الذين يسقطون في فخِّ التقليد والتكرار فقط، دون ملاءمة أفكار أو ممارسات غريبة عن واقعهم، لا يسدّون تلك الفجوة بينهم وبين العموم، ولا يخلقون ذلك الفضاء المشترك الضروريّ لتواصلٍ فعّالٍ. إنّهم لا يقفون على تلك الحافة التي تدعو للتحدّي، وتحفّز على تعلّم أو تجديد، بل يختارون ضفّة أخرى بعيدة قد تؤدي للمزيد من الاغتراب أو لا تغري بأيِّ مغامرة أصلاً.
أقدّم هنا كمثال مشهدًا من الفيلم الفرنسي “بلديون” (أنديجان)؛ الذي يسلّط الضوء على مشاركة مجندّين مغاربيين إلى جانب فرنسيين في الحرب الفرنسية التي لا تخصهم؛ للترفيه يُقَدَّم عرضُ باليه للجنود ما لا يحقّق لهؤلاء القادمين من ثقافة أخرى أيّ متعة، بل بالعكس يستفزّهم ويشعرهم باللاّفهم والرفض، وهو ما يجعل بعض الجنود الأفارقة يغادرون، بينما يهتف أحد الجنود المغاربيين “ما هذا الرّوث؟”.
أمرٌ مشابه قد يحدث لعموم الجمهور أمام خطابٍ ثقافيّ أو عمل فنيٍّ يبقى بعيدًا عن عالمهم، ويفشل في إيصال خطابه ودوافعه، التي لم يسبقها تأسيس لجسورٍ بين المثقف/المبدع والمتلقّي. وهذا أمر لا يُشعر بتفوّق المثقف ولا بمسايرته لحداثة غيره، بل، ومع كل الأسف، لأنّ هذا الأخير منعزل وبعيد ولا يسهم بما يفترض أن يسهم فيه بشكل فعّال.
نحن مدينون لغيرنا
الإنسان المؤهل بالعقل والحوّاس وإدراك النّفس والإرادة يشبه غيره من بني جنسه ولا يتطابق مع أحدٍ تمامًا، ممّا يسمح له بالفهم والالتقاء والتواصل مع الآخر، وفي نفس الوقت بالتّميز. وعيه بأحاسيسه وإرادته وقدراته الذِّهنية يتيح له أن يكون فاعلاً ومُبادرًا، وأيّ خمول من جانبه واستسلام للرداءة ينتقص من أدائه وتميزه ويعتبر تقصيرًا منه تجاه نفسه وغيره. هناك إحساس بالواجب عبّر عنه روسو؛ وقد يكون مفكرون آخرون سبقوه؛ قال “أعتقد أنّني قد صرت إنسانا مدنيا تعاقدت بمديونية هائلة مع الجنس البشريّ، وأنّ حياتي وكلّ ملاءماتها التي مردّها لانتمائي له يجب أن تكون في خدمته.
إنّني أرى بشكل أفضل بأنّني حتى لو منحت نفسي نوعا من الراحة الخاصة، وبعض المتع المشكوك فيها، مخصّصا كل شيء لنفسي فقط، لن أضمن لنفسي حالة من السلام والرضا طويل الأمد إلا في مجتمع منظم بشكل جيّد. إنّني أرى بأنني إذا لم أحترم في الآخر الحقوق التي يجب أن تحترم فيّ سأجعل نفسي العدّو المشترك للجميع، ولن أمتلك باستحواذٍ شرّير على ممتلكاتي أمانًا يختلف عن ذاك المتاح لقطاع طرق يلتهمون جثث ضحاياهم سيئي الحظ في الكهوف. هذا الواجب الذي يحتم عليّ العقل الاعتراف به ليس قطّ واجبا من شخص لشخص، لكنه عامّ كالحقّ الذي يفرضه.
لأنّ الأفراد الذين أدين لهم بالحياة؛ هؤلاء الذين زودوني بالضروريّ وأولئك الذين هذّبوا روحي وغيرهم ممن تواصلوا معي بمواهبهم، قد يكونون غير موجودين، لكن القوانين التي حمت طفولتي لا تموت أبدا؛ الأعراف الطيبة التي اكتسبت منها عاداتي السعيدة؛ الإغاثات التي وجدتُ عندما كنت في حاجة إليها، الحرية المدنية التي تمتعت بها؛ الفوائد التي جنيت، المتع التي تذوقت، كلها أدين بها لهذه الشرطة الكونية اللامرئية التي تحرص على العناية العامة لصالح جميع الناس؛ تلك التي تبينت حاجاتي قبل مولدي والتي ستحترم رفاتي بعد مماتي. هكذا فإنّ من أحسنوا إليّ قد يغيبهم الموت، لكن مادام هناك ناس فعليّ أن أعيد للإنسانية أفضالها عليّ”.
إنّنا مثله مدينون لغيرنا بكلّ ما تجمّع لدينا من حُبٍّ وثقة وكلّ ما لمسنا من جمال وخلق سعادتنا التي سكنت الذاكرة فلنكن أفرادًا أقلّ لامبالاة وأكثر دأبًا وصدقًا في المحاولة.