الذاكرة الجمعية المكانية والاستخفاف بالمعرفة التاريخية

الثلاثاء 2020/12/01
لوحة: فؤاد حمدي

في الشهور الأولى من وصولي إلى منفاي في أقصى جنوب الجنوب، حضرت احتفالية للجاليات، والتقيت برجل عراقي ممثل الحركة الديمقراطية الآشورية في ذلك المنفى الذي يقع جنوب شرق أُستراليا بحوالي 2000 كلم ماء، وفي أثناء حديثنا سمعتُ منه ولأول مرة هذه الجملة التي شاءت الأقدار أن أسمعها كثيرًا بعد ذلك بل أشعر أنها أصبحت إحدى المسَـلَّمات بين عدد كبير من النخب العربية نفسها على امتداد العالم العربي والمنافي؛ الجملة هي: مثلما لا يمكن عَدّ الناطقين بالإسبانية في المكسيك وأميركا الجنوبية والوسطى والكاريبي، بوصفهم إسبانًا؛ وكذلك الحال يسري على الناطقين بالعربية اليوم، فهم ليسوا عربًا، ومن حق العراقي أن يقول إنه سومري وأكدي وآشوري، ولكن ليس من حقه أن يقول إنه عربي، وحين رأى نظرتي المستغربة أكمل: وليس من حقه القول إنه كُردي.

تقع النخب الثقافية والأكاديمية صرعى تكريس السرديات، فأيّ كذبة يمكن ترديدها آلاف المرات عبر عدد كبير من الكتب ووسائل التواصل القديمة والحديثة مثل البحوث الجامعية والصحافة المقروءة والمرئية والمسموعة، تتحول إلى مقدس، ولاسيما حين يُسهم فيها مَن لا يمكن عدّه من هذه الفئة أو تلك، وكثير من النخب تعتقد بأن العرب فعلًا أحرقوا مكتبة الإسكندرية التي تعرضت للحرق 6 مرات قبل الإسلام آخرها نهاية القَرن الرابع الميلادي بعد تبني السلطات الرومانية الديانة المسيحية. ولم ينتبه هؤلاء إلى أنّ فاجعة قتل الفيلسوفة “هيباتيا” بطريقة بشعة لا تنفصل عن تدمير مكتبة الإسكندرية وتداعياتها، ومن المؤسف أن يأتي مؤرخ بعد الفتوحات بحوالي ستة قرون ويتهم فاتح مصر عمرو بن العاص بحرقها.

ولم يقرأ المصدقون بهذا الحدث في كتب التاريخ، ولم يبصروا أن جميع مؤرخي صدر الإسلام حتى نهاية القَرن السادس الهجري، لم يذكر أحد منهم أو يُشر إلى مكتبة الإسكندرية. وأن موفق الدين عبداللطيف البغدادي (ت 1231 ميلادية) الذي توفي بعد فتح مصر بستة قرون، هو أول مَن ذكرها، ونقل عنه ابن العبري، وبمرور الأيام تَقَدَّس “افتراء” موفق الدين عبداللطيف البغدادي، ومع فشل المشروع القومي وصعود الهُويّات الضيقة، انتشر هذا الافتراء بوصفه حقيقة مقدسة مطلقة. (رحلة عبداللطيف البغدادي في مصر، أو كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1998 ميلادية، ص 98).

أعتقد أن كثيرًا من الذين دافعوا عن الحضارة العربية الإسلامية ومنجزاتها وإسهامات العرب فيها، لم يلمسوا جذور الاتهامات التي تُوَجّه للعرب، هذه الاتهامات التي في تفكيكها وتعريتها يتهاوى البناء الفوقي، أي تتهاوى السرديات التي تصر على “صحراوية العرب وبدويتهم” و”بدوية الإسلام” التي تزعم أن سكان الصحارى القاحلة لا يمكن لهم بناء حضارة مَدَنية ثقافية مزدهرة، وبذلك يتم طعن هذه الحضارة والناطقين بها. وفي الوقت نفسه لم يتم التطرق للخطاب المضمر في هذه الاتهامات، ويتلخص هذا الخطاب المضمر، بهذا السؤال:

لو كان العرب سكان الصحارى القاحلة، قد خلفوا لنا بلغتهم أكبر تراث تدويني عرفته البشرية (حوالي خمسة ملايين كتاب تراثي) ولديهم حوالي مئة وعشرين شاعرة ولدنَ قبل الإسلام أو الهجرة النبوية، فهل شركاء الوطن وجيرانهم يملكون تراثًا تدوينيًّا ضخمًا سبق الإسلام؟ أو حتى تراثًا يعود إلى عشرة قرون؟ وهل هؤلاء شركاء الوطن كانوا جميعًا بلا استثناء يعيشون على الأراضي – المدن والبلدات والقرى – التي يعيشون عليها اليوم على مدى القرون الطويلة التي عاش فيها العرب؟ ألم تهاجر أعداد كبيرة منهم من مناطق خارج العالم العربي أو على أطرافه البعيدة؟ كيف لمجموعات لغوية شفاهية تزعم وجودًا عريقًا في مناطق ذات كتابة وتدوين تمتد لقرون طويلة جِـدًّا؟ وتتهم أصحاب المنجز التدويني الأكبر بأنهم غزاة وبعض هذه المجموعات اللغوية كانت شفاهية حتى عشرينات القَرن العشرين، وكل ما خُـطَّ في هذه المدن والبلدات بغير لغاتها؟

العروبة وعاء ثقافي حضاري وليست قومية عرقية، فالغالبية العظمى من اللغات لم تستطع أن تجعل من الناطقين بها أن يصلوا إلى أعلى مراتب القومية أي الأمة، أو لم يتمكن الناطقون بها إلى هذه المرحلة إلّا مؤخرًا، وما تزال بعض هذه المجموعات تعيش مرحلة الإثنية، وأسباب ذلك كثيرة، أهمها افتقار هذه المجموعات لمشروع حضاري – ثقافي، أو لمشروع سياسي مثلما عليه الحال عند اليونانيين والرومان والعرب والفرس والأتراك، ولكن من عجائب الأمور والأقدار أن اللغتين اليونانية والرومانية (اللاتينية) اللتين أنجزتا لنا تراثا قبل قرون طويلة، ليستا لغتين للتداول اليومي والثقافي في آن واحد في يومنا هذا، حتى أنه ليس بإمكان غير المختصين اختصاصًا رفيعًا قراءتهما، أي مثلهما مثل الأكدية والسومرية، ولم تكن الفارسية والتركية بأحسن حال، فهاتان اللغتان لا تمتلكان تاريخًا تدوينيًّا أعرق من اللغة العربية.

ويُعدّ شاعر الشاهنامة “الفردوسي” (ت 1020 م) أحد أقدم الشعراء الذين كتبوا باللغة الفارسية، أما اللغة التركية فأقدم كتاب تستند إليه كان قد أُلّف باللغة العربية في نهاية القَرن الحادي عشر الميلادي، وهو “ديوان لغات الترك”، وقد بحثت في كتاب “تاريخ الأدب التركي” فوجدت نهجًا متبعًا عند المجموعات اللغوية المتعايشة مع العرب والمجاورة لهم، إذ تقرأ كلامًا كثيرًا عن أدب عريق ولكن لا أحد من هؤلاء باستثناء السريان، يذكر أسماء شعراء وأدباء، مع محل وتاريخ ولادتهم ووفاتهم ونماذج من شعرهم، مثلما عليه الحال حين يكون الحديث عن الأدب العربي. ومن المفارقات أن نخبنا تتلقى هذا الكلام العائم، والمرسل، بوصفه أدلة وحقيقة مطلقة، في حين تنكر على العرب وجود أدب لهم سبق الإسلام بحجج واهية منها أن الشعر والخطب أُنتجا بلغة معيارية، والباحث سعيد الغانمي، أحسن الإجابة العلمية على هذه المزاعم (راجع، ينابيع اللغة الأولى، سعيد الغانمي).

في حين استطاعت اللغة العربية وفي وقت مبكر من الارتقاء بالناطقين بها من مجموعة لغوية في مراحلها المبكرة أي العرق، إلى الأمة – القومية في أعلى مراتبها – وتجاوزت مرحلة الإثنية خلال مدة زمنية قصيرة قياسًا ببقية المجموعات اللغوية، (راجع “القومية والإثنية والعرق .. محاولة في فكّ الاشتباك” المنشور في مجلة الجديد، العدد 16، 1 أيار- مايو 2016)،” ولم يعد العرب مجموعة لغوية (عرق، أو إثنية) بل قومية في أعلى مراحلها أي مرحلة الأمة، لأنهم نتاج تزاوج شعوب المنطقة وما جاورها من غرب وجنوب الصين حتى جنوب فرنسا.

تفتقد سرديات المجموعات اللغوية في المنطقة إلى الإيمان بالتعايش التاريخي أي الاعتراف بأن الآخر له وجود تاريخي مثلها، وأن المدن والبلدات ذات تنوّع لغوي وعقائديّ، وتتميز بتَضَخّم الأنا والتاريخ الـمُتَخَيّل، وكل مجموعة لا تجد مجدها إلّا بالنظر إلى الآخر الشريك بوصفه محتلًّا غازيًا، ضاربين عَرض الحائط التزاوج والتعايش السلمي بين عامة الناس، هذا التعايش الذي لولاه لما رأينا تنوعًا لغويًّا ودينيًّا ومذهبيًّا، وهو الذي أنتج لنا الحضارة العربية الإسلامية، فقد آلفت اللغة العربية بين هذه المجموعات اللغوية، وكانت النتيجة إسهاماتها في هذه الحضارة التي تستحق الإشادة بها واحترامها، لكن بروز التطرف الهُويّاتي الضَّيّق بُعيد ما يُطلق عليه بـ”الاستقلال”، مستغلين كل جملة سيئة ذكرها مؤرخ أو أديب في تراثنا واعتمدها المستشرقون، ليتلقفها متطرفو المجموعات اللغوية، والمنبهرون بالمستشرقين معًا، لبناء سرديات خلاصة فحواها أن الأرض ليست عربية، وأن الحضارة العربية الإسلامية لا صلة للعرب بها سوى أنها كُتبت بلغتهم لا أكثر.

الاستخفاف بالمعرفة التاريخية

للل

ما كان للآراء النمطية أن تشيع بين عامة الناس في جميع المجتمعات، وتتحول إلى أحكام ثابتة ومُطلقة بل ومقدّسَة، لولا الاستسهال الذي مارسته “النخبة” بتبني هذه الآراء النمطية من دون بحثٍ علميّ تأصيليّ مُعَـمّق، وبسبب الفشل الذريع لمشروع القومية العربية، والانحطاط السياسي والتراجع الحضاري والثقافي الذي نعيشه في عالمنا العربي، الذي أصبح أرضًا خصبة لانتشار الأفكار والطروحات والمعلومات العشوائية غير البريئة. أفكار وطروحات ومعلومات بعيدة عن الحقيقة وغير خاضعة لأيّ ضوابط علمية، وبعضها لا يخلو من حسّ عاطفي جيّاش تحـرّكه الغريزة، غريزة دافعها ردة فعل على ما آلت إليه أوضاع المنطقة من خراب شامل، وهذه “النخبة” أثبتت أنها ابنة بارّة لهذه الأوضاع وجزء من الخراب، ولم تجعل من شهاداتها العلمية المرموقة ولا إبداعاتها ولا احتكاكها بالثقافات الأخرى، دافعًا لقراءة وتحليل وتفكيك هذه الأوضاع وهذا الخراب والانحطاط الذي نعيشه، فهي تعاني من الاستلاب أمام الآخر مهما كان هذا الآخر، حتى لو كانت مجموعة لغوية قليلة العدد، ولا ترفض أو تُعرّي سردياتها بل ترددها بلا تمحيص، وكأن هذه السرديات حقيقة مطلقة، والعلم يخلو من الحقائق المطلقة عادة.

وأما النخب الأخرى أي من أبناء المجموعات اللغوية المتعايشة مع العرب، فالدافع الأكبر لطروحاتهم وسردياتهم وتبنيهم لكل الآراء النمطية السلبية بحق العرب لغة وثقافة وحضارة وتاريخًا، غريزة انتقامية تحركها دوافع شتى تبدأ من جرائم الأنظمة الحاكمة بحق التنوع اللغوي والعقائدي، ولا تنتهي بـ”الغيرة القاتلة” كما أطلق عليه، فهؤلاء جميعًا لا يملكون تراثًا حقيقيًّا سبق التراث العربي، أو تراثًا يوازيه من حيث الكم والتنوع. ويتعاملون مع التراث العربي بانتقائية عدوانية، فهم بدلًا من تبنيه وعَدّه تراثهم لأنهم جزء منه وهذه حقيقة لا يمكن التغافل عنها، يقومون بالحديث عنه إما لتسفيهه، أو لسرقة هذا التراث ونسبته لهم، لتأكيد مزاعم عنصرية انتقامية مدّعية أن “لا علاقة للعرب بالحضارة العربية الإسلامية سوى اللغة”.

وأَدّت الهجرة الجماعية الكبيرة من العالم العربي إلى دول اللجوء والهجرة، لاسيما العالم الجديد، أن اقتبس كثير من ناشطي الـهُويّات الفَرعية، التجربة المختلفة للسكان الأقدم لتلك البلدان، عادّين أنفسهم السُّكّان الأصليين في حين أن العرب غزاة طارئون، مثلهم مثل الأوروبيين في العالم الجديد، وهذه واحدة من أخطر التلفيقات التي حدثت عبر الاحتكاك بالعالم الجديد، أخطر التلفيقات لأنها عبارة عن “نسخ ولصق”. متجاهلين الذاكرة الجمعية المكانية العريقة، التي أصبحت ضميرًا جمعيًّا لكل سكان المنطقة، فلا تراث للمنطقة له هيمنته في الوعي واللاوعي الجمعي مثل التراث العربي.

رأي ابن خلدون

لكل عالم أو باحث أو منظّر نقاط ضعف أو “كبوات” في مشروعه، أو آرائه، وابن خلدون في مقدمته بعض الأقوال التي إما أنها منحولة، أو أنها يجب أن تُقرأ في سياق خاص، وإلّا فالنتائج تفرض أنها “كبوات” لا تُغتفر، فعلى سبيل المثال وفي معرض “ازدرائه” العرب، ذكر بناء العرب لمدينة البصرة، وعدّ هذا أحد أدلته على جهل العرب بالمدنية والعمران والحضارة، فسارعوا إلى بناء الكوفة، وهنا تتبادر عدة أسئلة، أولها، أليس مبادرتهم ببناء مدينة أخرى، دليل إدراكهم لحاجتهم لمدينة أفضل؟ فلو كانت البصرة دليل بداوة العرب، فشكرًا لهذه البداوة التي منحتنا مدينة استطاعت أن تُقدّم للحضارة العربية الإسلامية التي يُعدّ ابن خلدون أحد أعلامها، ما قَصرت عنه مجتمعات ولغات وقوميات وأمم وبلدان.

ولأني مهووس بالتراجم والمكتبات والمنجزات التدوينية للغة العربية وبقية اللغات في العراق والعالم، قادني هذا الهوس إلى نتيجة مفادها أن البصرة ومنذ الأعوام الأولى لتأسيسها بدأت بإنتاج المعرفة، ولم تمض عدة عقود أو أجيال حتى أصبحت مهدًا مهمًّا للحضارة العربية الإسلامية، يكفي هذه المدينة ومَن بناها فخرًا أنها موطن لمجموعة من العلوم أولها النحو، ومنها خرج المعتزلة وإخوان الصفا، والعالم الشهير ابن الهيثم، وفي ربوعها قضى الفراهيدي معظم حياته، الذي لم يكن في العرب أذكى منه بعد صاحبه رسول الله (ص) بحسب ابن سلام. ومن أبنائها المدائني المولود عام 132 هجرية، وهو الذي ذكر حدود العراق وهي أكبر بكثير من مساحته اليوم، وتفاصيلها في معجم الأدباء لياقوت الحموي.

وإذا كان ابن خلدون يرى في البصرة دليلًا على بداوة العرب وبعدهم عن الحضارة، فهذا عالم من علماء الحضارة العربية، وأحد كبار مبدعيها وابن البصرة البار، أضع رأيه في البصرة، يقول أبومحمد القاسم الحريري “يا أهل البصرة، بلدكم أوفى البلاد طهر، وأزكاها فطرة.. وأسعها دجلة، وأكثرها نهرًا ونخلة، وأحسنها تفصيلًا وجملة، دهليز البلد الحرام، وقبالة الباب والمقام، وأحد جناحي الدنيا، لم يتدنس ببيوت النيران، ولا طيف فيه بالأوثان، له آية المد الفائض والجزر الغائض، منكم مَن استنبط علم النحو ووضعه، والذي ابتدع ميزان الشعر واخترعه، وما من فخر إلّا ولكم فيه اليد الطولى”.

إنّ ما أنجبته من كُتب باللغة العربية، ومنجز علمي معرفي، مدن البصرة والكوفة وواسط وبغداد قبل الحرب العالمية الأولى بألف عام، لم تستطع مئات اللغات في العالم أن تنجب مثله حتى القَرن التاسع عشر الميلادي، بل وهناك لغات لم تستطع أن تنجب عُشْر مِعشاره حتى الحرب العالمية الثانية، فهل نصم الناطقين بهذه اللغات بالبداوة والجهل؟

إن قول ابن خلدون “من الغريب الواقع أن حَمَلَة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم”، لو طبقناه على اللغات الأخرى فسوف نحذف ملايين العلماء والأدباء والكُتّاب من اللغات الأخرى ذوات المنجز الحضاري الفاعل، كالإنجليزية والإسبانية والفرنسية وغيرها، وعلى سبيل المثال أن الحاكمين الفعليين للولايات المتحدة الأميركية هم البيض من أصل إنجليزي أو بريطاني ومَن تربّى في أحضانهم ورضع سلوكهم ومفاهيمهم وطرائق تفكيرهم، وقدّمَت الولايات المتحدة ملايين الكتب وآلاف العلماء والمبدعين باللغة الإنجليزية وهم من غير الإنجليز الأقحاح، فما الذي سيحدث لو حذفنا غير الإنجليز دمًا وعرقًا ونسبًا؟ بكل تأكيد سوف تخسر اللغة الإنجليزية بوصفها حسب مفهوم ابن خلدون لغة عرق كثيرًا جدًّا من منجزها.

جهل ابن خلدون بالبصرة ناتج عن جهله بالعراق، وذلك بقوله “ما دامت الحضارة في العجم، وبلادهم من العراق وخراسان وما وراء النهر”، فقد جعل العراق من بلاد العجم، ولكن تراث العراق وآثاره “سامية” وعربية، وباستثناء “طاق كسرى” الإشكالي، فلا أثر للعجم في العراق، ويَكاد يجمع المؤرخون والبلدانيون (الجغرافيون) على عروبة العراق مثلما يجمعون على حدوده، وهذا صاحب كتاب “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” المقدسي البشاري (ت 990 ميلادية) الذي توفي قبل وفاة ابن خلدون بأكثر من 400 سنة، يحدد الأقاليم العربية بأنها ستة أقاليم ويضع العراق الإقليم الثاني بعد شبه الجزيرة العربية، فكيف أصبح عند ابن خلدون من بلاد العجم، علمًا أن المتفق عليه عراق العرب يمتد للجبال، أي أن العراق الحالي هو عراق العرب باستثناء قمم الجبال العالية الوعرة التي لا تُشكل سوى النزر اليسير من مساحته. فهل بعد هذا نعتمد ابن خلدون فيما زعمه باطلًا “أن حَمَلَة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم”؟

الذاكرة الجمعية المكانية واشتراطاتها

ببب

ليس الغزاة هم الذين يأتون بأسلحتهم ويقتحمون البلاد ويتحكمون بها وربما ينسبونها لهم فقط، بل الغزاة  أيضًا كل مجموعة لغوية مهاجرة تستوطن مدن هذه البلاد وبلداتها وأريافها، والفيصل بينهما أنّ كل منجزات هذه المدن والبلدات الكتابية والتدوينية والثقافية بعامة مكتوبة ومؤرخ لها بغير لغتهم (أي بغير لغة المهاجرين)، ومع ذلك تنسب هذه المدن والبلدات وأريافها لهؤلاء، وتنجز سردية أسطورية عن تاريخها وعراقتها في المكان، ولا تكتفي بهذا بل تتهم الذين كُتبَ تراث المنطقة بلغتهم بأنهم غزاة.

بعبارة أخرى، إن الغزاة هم كل مجموعة لغوية تصر على نسبة المكان (مدن وبلدات وقرى) إليها، وتُقصي الآخر أما بعَـدِّه محتلًّا غازيًا، أو طارئًا، متفضلين عليه بالعيش في المكان بوصفه أقلية وأن المكان مسكنهم الأصلي وليس مسكنه أو وطنه، وهم وحدهم أصحاب الحق التاريخي والسياسي والعسكري فيه، على حين هؤلاء الغزاة (المجموعة اللغوية) لم يبصروا في أنفسهم أنهم شعوب شفاهية إلى وقت قريب من الحرب العالمية الأولى. وهذه المفارقة تحدث اليوم فعلًا في مكان تدويني مثل بغداد ودمشق وحلب والموصل والبصرة وواسط وتكريت وغيرها من مدن موطن الكتابة والتدوين، أي مدن العراق وسوريا وغيرها من الحواضر التاريخية التدوينية.

ولا تولد الذاكرة الجمعية المكانية، إلّا بعد بضعة أجيال، قد تزيد على عشرة أجيال أي تزيد على ثلاثة قرون، وتتميز بكونها تستمد قوتها وهيمنتها من عراقتها وقِدَمِها، فلا يمكن الحديث عن ذاكرة جمعية تدوينية مكانية في مكان “مدينة” لم ينجز أبناؤها تراثًا بلغتها شِعرًا وأدَبًا وتنوعًا معرفيًّا قبل عدة قرون، وقد وضعت الحرب العالمية الأولى نقطة لما قبل ولما بعد، والتراث عندي ما سبق هذه الحرب بقَرنين كَـحَدٍّ أدنى، إن لم يكن أربعة قرون. وكلما ذهبنا بعيدًا كلما كانت الذاكرة أقوى وأكثر هيمنة، أي ما أُنجز قبل الحرب العالمية الأولى بستة قرون وسبعة وعشرة قرون وأكثر.

قد يقول قائل: وماذا عن المدن الحديثة التي تأسست في القرون الأخيرة، مثلًا مدينة الناصرية وهي مركز محافظة ذي قار في جنوب العراق تأسست في عام 1869 ميلادية، فهل أبناء هذه المدينة محرومون من الذاكرة الجمعية؟ الجواب إن حوض نهر الفرات والمناطق المتاخمة له شرقًا وغربًا، ترتبط ثقافيًّا بمدن عريقة أنجزت تراثًا هو الأضخم بين لغات العالم وإذا كان ليس للناطقين بالعربية تراث في بقية مدن العالم العربي مثل دمشق وحلب والقاهرة وتونس ومئات المدن الأخرى من المحيط إلى الخليج، فإن ما أنجزته هذه المدن يُعَدّ مفخرة للغة العربية والناطقين بها ولما نطلق عليه “العالم العربي” اليوم، وهذه المدن تقف في مقدمتها بغداد والبصرة والكوفة – ثم النجف – والحلة والأنبار وبقية مدن وبلدات حوض نهر الفرات والمناطق المتاخمة لها أي المدن الواقعة على نهر دجلة.

إن منجز اللغة العربية في حوض نهر دجلة من أقصى شمال العراق في مدن زاخو ونوهدرا وأربيل وعاصمة شماله مدينة الموصل هبوطًا مع النهر والمدن الواقعة في الوادي (المناطق ما دون الألف متر فوق مستوى سطح البحر) وحتى مدن واسط وميسان وشمال البصرة – قبل أن يلتقي بنهر الفرات – مرورًا بالعاصمة بغداد، أقول إن منجز اللغة العربية فيها من الضخامة والسعة بحيث يمنحنا دهشة مشوبة بالفخر والاعتزاز، وهذا التراث الضخم أُنجز قبل الاحتلال المغولي، أي أنجز قبل وصول الأوروبيين إلى العالم الجديد بثمانية أجيال، وبداياته المبكرة تعود إلى نهايات القَرن السابع الميلادي أي حوالي ثمانية قرون سبقت سقوط غرناطة والوصول إلى الأميركيتين.

ثمانيةُ قرونٍ.. حقبةٌ زمنيةٌ طويلةٌ جدًّا، تصنع ذاكرة جمعية مكانية شديدة القوة والعمق، وهو ما تفتقد إليه الثقافات الأوروبية خارج أوروبا، لأن غالبية الناطقين باللغات الأوروبية في الأميركيتين وأستراليا وزي الجديدة “نيوزيلندا” لا وشائج قربى تربطهم تاريخيًّا مع هذه اللغات، أي يفتقرون للذاكرة الجمعية المكانية التي تتأسس عبر قرون وأجيال وأجيال، ولأنهم مهاجرون ولاجئون فميراثهم الثقافي يعود إلى لغات ذويهم الذين هاجروا إلى هذه الأماكن، العالم الجديد يخلو من منجز تدويني سبق القَرن السادس عشر الميلادي، وغزارة الإنتاج الأدبي والمعرفي في معظمها لا ترقى إلى نهايات القَرن الثامن عشر الميلادي، أي بعد بناء بغداد بألف عام.

إذن.. حين يتلَـفّت المواطن الأميركي أو البرازيلي أو الأرجنتيني أو الأُسترالي، فلا يجد في أرضه تراثًا يسبق الحرب العالمية الأولى بعدة قرون، فضلًا عن افتقاده – إلّا ما ندر – لتراث نَسَـبي “بايلوجي” يرتبط به ومعه، لأن جده الأول أو الثاني أو حتى السابع كانت لغته مختلفة وأرضه مختلفة، أعني أن الغالبية العظمى من شعوب هذه الدول لم يتوارثوا اللغات الوطنية عبر أجيال وأجيال مثلما يتوارثها الناطقون بالعربية في العالم العربي، بل و يتوارثها شركاء الوطن معهم من غير الناطقين بالعربية، الذين لديهم دورهم في الحضارة العربية الإسلامية، بل أغلب هذه الفئات مجدها التدويني ضمن نسيج الحضارة العربية الإسلامية؛ وهذا يجعلهم يرتبطون بروابط روحية مع هذه اللغة وهذا التراث لأنهم وأسلافهم من المساهمين الفاعلين فيه، فنكرانه وجحوده هو نكران وجحود لمنجزات ذويهم وأجدادهم وتراثهم.

إن الذاكرة الجمعية المكانية، هي الهوية الدالة على المكان، وإن مدينة مثل لندن التي تحول الإنجليز البيض فيها إلى أقلية، أو على شفا ذلك، لا يمكن أن تنسبها لغير الإنجليزية، حتى لو سيطرت مجموعة لغوية أخرى وأصبحت غالبية مطلقة فيها، لأن ذاكرة لندن إنجليزية مثلما ذاكرة باريس فرنسية، وذاكرة طهران وعشرات المدن والبلدات الإيرانية فارسية، كذلك مدن المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج ذاكرتها الكبرى عربية، وروابط اللغة العربية فيها أعمق قياسًا ببقية العواصم التي ذكرت لأنها ارتبطت بالدين الإسلامي، ولوجود التدوين فيها على امتداد أكثر من أربعين جيلًا سبقت الحرب العالمية الأولى، وهذا لم يتوفر للمدن الناطقة بالفرنسية في غالبية المدن الفرنسية وكذلك المدن الناطقة بالإنجليزية في بريطانيا، لأن أقدم نصوص هذه اللغات عمره دون الألف سنة، وأن النصوص الغزيرة التي ارتبطت بالذاكرة الجمعية ولا تجدها الأجيال الحديثة غريبة تمامًا عنهم، عمرها لا يزيد على ستة قرون في الغالب الأعم، وذلك لأن اللغة اللاتينية كانت لغة التدوين في أوروبا، وأن اختلافًا كبيرًا جدًّا بين إنجليزية القَرن الرابع عشر وإنجليزية أيامنا، والأمر نفسه مع لغات كثيرة منها اللغة اليابانية على سبيل المثال.

إن تَشَـكُّل القومية يحتاج إلى عوامل متعددة ومتضافرة، فليس بإمكان مجموعة لغوية تهاجر من صحارٍ وبوادٍ أو جبال وعرة، أو مناطق كانت فيها شفاهية، إلى مناطق مدينية حضرية، وتتحول نتيجة حروب وتصفيات عرقية إلى غالبية، فتزعم عائدية هذه الأراضي من مدن وبلدات وقرى إليها عرقيًّا وإثنيًّا وقوميًّا، حتى لو بعد مِـئَـتَي سنة، لأن تشكل القومية، أي صعودها من مرحلة العرقية أو الإثنية إلى مرحلة القومية، يحتاج إلى ذاكرة مكانية عميقة وثرية، أي أن لها مئات الشعراء والأدباء والكُـتّاب والمؤرخين والباحثين واللغويين والنحويين والجغرافيين وإلى آخر قائمة المنجز المعرفي والثقافي والعلمي، أنجبتهم هذه الأمكنة، أي وُلدوا أو ترعرعوا أو درسوا وعاشوا أو ماتوا في هذه المدن والبلدات، وكتبوا بلغتهم الأم، وخلّفوا تراثًا بداياته تعود لعدة قرون خلت سبقت الحرب العالمية الأولى.

لللل

وللتوضيح أكثر نقول: لأننا نشهد صراعًا على عائدية المنطقة التي تسمّى العالم العربي أو الوطن العربي، ومنذ تسعينات القَرن العشرين تصاعدت حمى السرديات التي لا ترى مجدًا لها إلّا بالإساءة للناطقين بالعربية والحضارة العربية الإسلامية، ووسم العرب بالبداوة والعنف والدموية والتخلف، في إساءة بالغة ليس للعرب والإسلام فقط بل إساءة بالغة لأجداد هؤلاء “المثقفين” وأسلافهم إذ كان لأسلافهم وأجدادهم دورهم الوضّـاء في بناء هذه الحضارة والدفاع عنها والتباهي بأهم عاملين لنهضة المنطقة ألا وهما اللغة العربية والدين الإسلامي؛ لكنه الهوس العنصري وثقافة الإلغاء والإقصاء التي تُروّج لسرديات تضخ ثقافة الكراهية والعنف، وكأنها بسردياتها هذه تمنح الطغاة والمستبدين أعذارًا ومبررات على سوء إدارتهم للتنوع اللغوي والعقائدي والثقافي عمومًا.

لو نظرنا للمنطقة المحصورة ما بين سفوح جبال زاغروس شرقًا وسفوح جبال طوروس والبحر المتوسط شمالًا ودلتا النيل والبحر الأحمر غربًا، سنكتشف أن بوادر الوجود العربي فيها وبحسب الرُّقم الطينية وما خلّفته لنا أدبيات اللغتين اليونانية واللاتينية التي سبقت الإسلام بقرون وبعضها بأكثر من ألف عام، فهي تُثبت وجودًا عربيًّا سبق الإسلام في بعض هذه المناطق بأكثر من ألف وأربعمئة عام، وأن هذه المنطقة بحسب المؤرخ اليوناني هيرودوت (ت 425 ق.م) منطقة عربية، لكن هذا لا يعني أن المنطقة تخلو من مجموعات لغوية أخرى، وأن المجموعات التي نزحت للمنطقة بعد هذا التاريخ حتى لو بقرون عديدة ليست من سكانها الأصليين.

فضلًا عن أنه يجب تتبع الدور الحضاري والثقافي الذي يبدأ من التدوين وهو الأهم في بناء شخصية أي مجموعة لغوية، ثم العمارة أي بناء المدن، لاسيما حين تكون هذه المدن بعد بنائها منتجة كبرى للمعرفة مثلما عليه الحال مع مدينة “الحيرة” التي يراها المؤرخ العلامة جواد علي جذر الحضارة العربية، وأنجز الباحث سعيد الغانمي بحثًا رصينًا في كتابه “ينابيع اللغة الأولى”، مُبَيّنًا ومُثْبِتًا، أن “الحيرة هي المرحلة التأسيسية في الحضارة العربية الإسلامية”، وأما مدن البصرة والكوفة وواسط وبغداد وغيرها فهي غنية عن التعريف لما أنجزته من ثورة تدوينية كبرى بعد بنائها بأعوام قليلة قياسًا بعمر المدن والتاريخ والحضارات (يرجى مراجعة، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، الجزء الأول، ص 573 وما بعدها، فهذا الفصل يحوي تفاصيل كثيرة عن عراقة الوجود العربي في العراق وبلاد الشام).

إن هذه المنطقة، غرزت بوادر تراثها قبل الإسلام بقرون وكان الوجود العربي فيها على امتداد أربعة عَشرَ قَرنًا سَبَقت البعثة النبوية، مرحلة تحضيرية طويلة بما جعل ثورة التدوين العربية حين انطلقت في القَرن الثامن الميلادي – لا يعني أن اللغة العربية تخلو من التدوين قبل هذا التاريخ – كانت انطلاقتها بركانًا اجتاح المجموعات اللغوية كلها، فلم يمض على بناء عاصمة الثقافة العربية الكُبرى بغداد قَرن واحد، وإذا نحن أمام مئات الشعراء وأضعافهم من النحويين واللغويين والمؤرخين والباحثين والمتكلمين والفقهاء وأعلام الثقافة بكل مستوياتها، ولو أردنا أن نحصي عدد الذين أنجزوا كُتبًا باللغة العربية قبل الحرب العالمية الأولى بألف عام، أي قبل عام 914 ميلادية، ومقارنته بما أنجزته بقية اللغات في العالم – عدد اللغات التي لديها منجز تدويني سبق التاريخ أعلاه تُعدّ على عدد الأصابع – لأذهلتنا هذه الثورة التدوينية التي أعزيها إلى عراقة الوجود العربي في مهد الحضارات العالمية، أي العراق وبلاد الشام ومصر.

يتحدث فقهاء النحو العربي عن سعة اللغة العربية ودقتها الدلالية، وهو ما لا نجده في بقية لغات العالم، ولكن أمرًا مهمًّا لم تتطرق إليه النخب الثقافية عامة، ألا وهو أن اللغة العربية هي الوحيدة من بين اللغات تملك أكثر من أربعين جيلًا سبقوا الحرب العالمية الأولى، منجزهم على امتداد أكثر من ألف وثلاثمئة سنة، متواصل ودون انقطاع أو خلل ما، يتسبب في فهم وتذوق الأحفاد لما أنجزه الأسلاف، فنحن أمام آلاف إن لم تكن ملايين النصوص والمقاطع الشعرية والأدبية والتاريخية، أُنجزتْ ما بين القَرن السادس ومطلع القَرن العشرين، لا يجد القارئ باللغة العربية صعوبة في قراءتها وفهمها وتذوقها، على الرغم من التطور الملحوظ في الأساليب الكتابية بين قَرن وآخر، وبين حقبة وأخرى.

لا شكّ في أن لحضور المقدس في اللغة العربية أثره الكبير والواضح، ولكن لا يعني هذا أنه الدور المطلق تمامًا، وإلّا كيف نفسّر النقوش التي اكتشفت وبعضها سبق الإسلام بقرون طويلة ويمكن فهمها، أكثر من فهم ناطق بأيّ لغة اليوم لنص بلغته عمره يزيد على نصف عمر الإسلام؟ إن هذا التواصل التاريخي الذي تتفرد به اللغة العربية دون سواها، أحد أهم خصالها وأنها طورت نفسها من داخلها، على الرغم من الاجتياحات العسكرية المتعددة التي تعرضت لها المنطقة العربية شرقًا وشمالًا، ولكن اللغة العربية صمدت، والمنجز التدويني استمر برفد المكتبة العربية حتى بعد أفول بغداد وواسط ومدن أخرى بسبب الغزو المغولي.

نعم استمرت مدن العراق التي لم تتعرض للغزو المغولي مثل الموصل وأربيل، وبلاد الشام ومصر برفد المكتبة العربية، وبعد فاجعة سقوط بغداد في سنة 1258 ميلادية، بأقل من ثلاثة قرون، تَشَيَّعَتْ إيران، أو الإمبراطورية الصفوية، وفي خضم الصراع الصفوي – العثماني، ثم تبعاته التي تلقي بظلالها لليوم على المنطقة، غَفل معظم الباحثين عن حقيقة لصالح اللغة العربية وتراثها التدويني، إذ أدّى التشيّع إلى توافد أعداد كبيرة من العالم الإسلامي – الشيعي، إلى العراق، لدراسة العلوم الدينية، وهذا ما جعل صناعة التأليف رائجة، وإذا كانت بغداد قبل أفولها قد أنتجت كتابًا باللغة العربية مقابل كل كيلو متر مربع في العراق، أي أن عدد الكتب قارب أو فاق النصف مليون كتاب، فإن تبني الإمبراطورية الصفوية للتشيع الإمامي الإثني عشري، صار باعثاً في أن ينتج لنا عشرات وربما مئات الآلاف من الكتب خلال أقل من أربعة قرون سبقت الحرب العالمية الأولى.

وفي الجهة المقابلة حدثت نهضة تدوينية “تأليفية” عند المسيحيين، فضلًا عن بقية العراقيين، فكانت النتيجة تَـوسّـع المكتبة العربية في العراق إلى درجة تجعل المشككين بعروبته الثقافية، عراة تمامًا، وأما في بلاد الشام ومصر، فقد أَثْرى هذان الإقليمان المكتبة العربية بتراث مبهر، ومنهما انطلق التجديد والعتق من قرون الظلام، ومثل كل المدن في العالم، فإن كثيرًا من مبدعيها ومؤلفيها من مجموعات لغوية “إثنية” شتى وَحَّدَتهم اللغة العربية، ولكن لا يعني هذا في حال من الأحوال أن يُنتقص من دور العرب أنفسهم، على الرغم ما لهذا المصطلح “العرب” من إشكالية خلقها إصرار الفرقاء جميعًا بالتشبث بأكذوبة النقاء العرقي. لا فرق بين مؤمن بالنقاء العرقي وبين رافض له، لكنهما حين التحدث عن العرب فكلاهما في جوهر حديثه يكشف عن إيمان بالنقاء العرقي.

إذا كان موقفُ دعاة النقاء العرقي – من العرب المؤمنين بصحة سلاسل النسب العربية – واضحا، وإن كان مرفوضًا، فإن دعاة التنوع الرافضين لصحة سلاسل النسب العربية، حين يتم الحديث عن العرب، ولكي يُسَفّهوا العرب، ويحطوا من شأنهم، فهم لا يملكون في خطابهم وسردياتهم إلّا الانطلاق وبلا وعي من النقاء العرقي للعرب؛ وإلّا كيف تُفَسّر عدم إيمانهم بدور العرب، والإصرار على ترديد فرية “إن الحضارة العربية الإسلامية قامت على أكتاف وأدمغة ومواهب غير العرب”، أليس هذا إيمان بالنقاء العرقي؟ لأن العرب أول وأكثر الشعوب تزاوجًا واختلاطًا، هذا أولًا، وثانيًا، فإن تعريف العربي حين يكون المولود لعشرات الأجيال من أبوين عربيين، فهذا خلط لأن العقل يرفض هذا، فليس كل الشعراء والأدباء والكُتّاب والأعلام، وُلدوا لأعلام، والذين بدورهم وُلدوا لأعلام وهكذا حتى الجدّ الخمسين، لنقول بجذور هؤلاء قبل خمسين جيلًا.

لقد تميّزت الحضارة العربية الإسلامية، بدعمها الواضح للمعرفة، ويتضح هذا جليًّا عبر دعم التعليم، حتى أصبح مجانيًّا وأدّى هذا إلى جماهيرية التعليم، وتمكّن أبناء الفقراء من إرسال أبنائهم إلى المدارس لينالوا قسطًا من التعليم، وكثير منهم استمر في دراسته حتى أصبح معلمًا، فأنتجت لنا هذه المدارس عددًا كبيرًا من الأعلام ينتمون للطبقات الفقيرة من المجتمع، وهذا ما خلق إشكالية ينفذ منها الزاعمون بعدم “عروبة” أعلام الحضارة العربية الإسلامية، وهذه الإشكالية تتمثل بأن عددًا كبيرًا من هؤلاء الفقراء الذين وصلوا إلى مراتب مهمة في الآداب والعلوم والمعارف والفنون، غفلوا عن ذكر نسبهم، وإذا كانت الحضارة العربية تفخر بعشرات الآلاف من الأعلام الذين ضُبِطَتْ ولو بشكل تقريبي، أماكن وتواريخ ولاداتهم ووفيّاتهم، ومعرفة أساتذتهم وتلاميذهم وَسِيَرِهم الإبداعية – العلمية، فإن كثيرًا منهم لم يُضبط نسبهم، ما جعل كل فئة تنسبهم إليها. ولم تستطع فئة واحدة من هذه الفئات المدّعية أن تؤمن بحقيقة، أن هؤلاء الأعلام، هم أبناء بررة للحضارة العربية الإسلامية، ولم يكونوا من ذوي التفكير الضيق والعنصري في غالبيتهم.

وهكذا أصبحت بغداد والكوفة والبصرة وواسط مثلما أصبحت دمشق وحلب والموصل والقاهرة والإسكندرية والقيروان وغيرها من المدن خليطًا من البشر، وهؤلاء النازحون من أصقاع شتى، بعد بضعة أجيال أو بضعة قرون، حين برز فيها أعلام، فإن ثقافتهم وثقافة آبائهم وأجدادهم عربية، وهذا الأمر الآن يتكرر في بلدان اللجوء والهجرة، فأحفاد وأبناء أحفاد المهاجرين لا يمكن عدّهم عرقيًّا على ثقافة جدّهم الأول، بل من المضحك عدّهم على ثقافة جدهم الثالث، وفي عالمنا الإسلامي، نجد أعلامًا في الفقه والأدب يكتبون بالفارسية أو التركية أو لغات أخرى، وهم يتصرفون بوصفهم أبناء بررة لثقافتهم الوطنية، حتى لو أصرّوا أنهم من نسل الرسول العربي محمد بن عبد الله. فهم من الأشراف نسبًا، ولكن من غير الممكن عدهم عربًا.

مثلما لا يمكن عدّ مدينة ما بنسبتها لمجموعة لغوية أصبحت فيها غالبية سكانية مطلقة، قبل قَرن أو قَرنين، إذا لم يتوفر لهذه المجموعة اللغوية تراث تدوينيّ بلغتها في هذه المدينة يمتد لقرون، ولديها أعلام من الشعراء والأدباء والكُتّاب وُلدوا أو ترعرعوا أو ماتوا في هذه المدينة قبل قرون وبما يُشكل ثقلًا حضاريًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا لها هو الأكبر من بين ما يلتصق بها من التراث اللاحق. أي إن هذه المجموعة اللغوية أضفت بصمتها الثقافية والاجتماعية على المدينة ليس الآن، بل على امتداد القرون السابقة للحرب العالمية الأولى، كذلك لا يمكن عدّ شاعر أو أديب ابن ثقافة أجداده وأسلافه، وهو تربّى في بيئة لغوية وثقافية مختلفة، فالعرب الذين هاجروا إلى بيئات لغوية أخرى، لا يمكن عّدّ أحفادهم وأبنائهم إلّا بوصفهم أبناء لتلك البيئة اللغوية التي هاجر جدّهم الأول أو الثاني إليها وهو ليس منها، وفيها نشأوا وترعرعوا.

المجموعات اللغوية التي تحمل ذاكرة جماعية مكانية عريقة، لا يمكن عدّها مجموعة طارئة وغازية، ومقارنتها بالأوروبيين في العالم الجديد، والناطقون بالعربية، يملكون تراثًا هو الأكبر بين لغات العالم، وهو التراث الوحيد الذي ما نُشر منه لا يُشكّل 5 في المئة مثلما ذهب إلى ذلك خبراء المخطوطات والتراث العربي، مجموعة لغوية منحت المنطقة هُويتها وألقت بظلالها حتى على الفرس والأتراك، وهما أكبر مجموعتين لغويتين لهما هيمنتهما الإمبراطورية وتركتا تأثيرهما على العرب ولكن هذه المؤثرات قليلة جدًّا أمام هيمنة المؤثرات العربية عليهما.

إن مصطلح السكان الأصليين، بالضرورة، يضمر خطابًا إقصائيًّا يُشير إلى وجود سكان طارئين، وهذا يقود إلى نظرة استعلائية تمارسها المجموعة اللغوية التي تعتقد بأحقيتها التاريخية في منطقة ما، وهو ما نراه من خلال خطاب  المجموعات اللغوية المتعددة المتعايشة مع العرب، حتى رسموا صورة للعربي بوصفه المحتل الغازي الهمجي الطارئ على الحضارة والمنطقة، بلا شك هذه ردة فعل على سياسة الأنظمة الحاكمة التي أساءت استخدام السلطة، وإدارة التنوع، فكان التعايش التاريخي بين المجموعات اللغوية ضحية وقعت تحت مطارق الأنظمة المستبدة التي اتخذت من أيديولوجية القومية العربية غطاءً لعنفها وتشبّثها بالسلطة، وتصفية معارضيها وإخراس الصوت المختلف، وبين سندان التطرف والاستعلاء والشعور بالمظلومية عند نُخب هذه المجموعات اللغوية غير العربية، التي شطبت على تاريخ من التعايش، وراحت تصوغ سردية مملوءة بردة الفعل العنيفة المنتقمة من الغالبية العربية، إقصاءً وإلغاءً واستعلاء، وهذا التلاحم المستميت بين المطرقة والسندان وقع على العربي، إلى درجة قتله بوصفه شيطانًا منزوعة منه إيجابياته، وأخطر مظاهر القتل التي نلمحها، في الكلام المرسل الذي قاله ابن خلدون المذكور أعلاه، وأصبح مُشاعًا بين المستشرقين والمستلبين أمام الغرب والناقمين على ما آلت إليه الأوضاع في العالم العربي من تراجع حضاري وسياسي كارثيّ.

وأخيرًا، يبقى السؤال الأهم، هو: لماذا لا نحتفي بتنوعها وننظر إلى تراث المنطقة بكل لغاته وحضاراته بأنه لنا جميعًا بغضّ النظر عن انتماءاتنا العرقية والإثنية والقومية والعقائدية؟ أليس هذا أفضل من التعصب الأعمى للغة ما، والحطّ من اللغات الأخرى والاصطفافات الجهوية التي تؤثر على حالة التعايش السلمي المجتمعي وبناء الأوطان والارتقاء بها؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.