الذهنية الدينية الراهنة وتحولاتها الكارثية
ها نحن مرة أخرى نتحدث عن الذهنية بوصفها طريقة في التفكير معززة بالسلوك. وبهذا المعنى نحن لا نتحدث عن صفة وراثية خارجية لا قيمة لها بل عن ذهنية عميقة. فليس كل منتمٍ إلى السنّة يفكر سنيّاً، ولا كل منتمٍ إلى الشيعة يفكر شيعيّاً، ولا كل من يدين بالمسيحية يفكر مسيحياً وهكذا… فمن الطبيعي أن تكون الذهنية العقلية – الفلسفية والجدلية مختلفة عن الذهنية الدينية بوصفها هي الأخرى طريقة في التفكير.
بالتالي عندما نصف ذهنية ما بذهنية سنيّة أو شيعيّة أو درزية أو فلاحية أو مدينية فإننا نتحدث عن طريقة تفكير ونظرة إلى العالم وليس عن انتماء تاريخي لهذا الشخص أو ذاك أو لهذه الجماعة أو تلك. ولا تبرز سلبية الذهنية أو إيجابيتها إلا في السلوك الناجم عنها، وغالباً ما تظهر بوصفها انعكاساً لبنية لا شعورية. بل إن السؤال الأهم هو هل ينجو الشخص تماماً من الذهنية التي تربّى فيها وعاش؟ هل يشفى تماماً إذا ما قرر أن يشفى من ذهنية سابقة على ذهنيته الجديدة؟
إذا كانت الذهنية جملة من عناصر مجتمعة تعمل معاً في بنية محدودة فإنه يسهل علينا وصفها وتحليلها وتوقعات سلوكها. أما إذا كانت الذهنية خليطا من عناصر متباعدة ومختلفة فإنه يصعب علينا التقاط العنصر الحاكم فيها (هذا ما تتصف به ذهنية بعض المثقفين من ذوي المشارب الأيديولوجية الحديثة المختلطة مع البنية اللاشعورية للذهنية التقليدية).
سأتوقف عند نمطين من الذهنيات السائدة في الشرق العربي، أملاً بالوصول إلى تفسير سوسيو – ثقافي للجماعات وانعكاسها على عالم الثقافة، وهما الذهنية السنيّة والذهنية الشيعيّة.
نعرّف الذهنية بأنها جملة الرؤى والتصورات والمعتقدات التي تكونت تاريخياً وشكلت وعي أفراد الجماعات شعورياً أو وعيها اللاشعوري، ويتعين هذا الوعي بالسلوك الفردي والجماعي.
ولدينا الآن عند العرب ذهنيتان دينيتان تظهران في السلوك الاجتماعي والسياسي على أنحاء مختلفة هما الذهنية السنيّة والذهنية الشيعيّة.
وقد جاء حين من الدهر مع انتشار الحركات القومية والماركسية ودخول عالم الحداثة الأوروبية بما ينطوي عليه من انتصار الذهنية الفردية وقع الظن فيه بأن التحرر من الذهنية الدينية بات أمراً واقعاً، وما هي إلاّ عقود حتى كشف الواقع عن حضور هذه الذهنيات حتى لدى أولئك الذين انتموا إلى الأيديولوجيات الحداثوية.
الذهنية العربية السنيّة
تتأسس البنية السنيّة الخالصة على اتحاد جملة من العناصر الآتية:
1 – القرآن كتاب إلهي ومصدر وحيد للحقيقة والتشريع والسلوك والعلاقة مع الإله.
2 – أقوال النبي وسلوكه – رغم بشريته – هي الأخرى معيار للوعي والسلوك.
3 – الشعور بالحضور المتميز بالحياة، حيث الفرادة في المعتقد الذي يعلن أنه آخر المعتقدات الإلهية.
4 – الحضور الكثيف للتاريخ الإمبراطوري الإسلامي وانعكاسه في الحنين إلى إعادة إنتاج الماضي.
5 – الوضوح في التعبير عن الغايات.
6 – الإحساس بالفضاء الواسع للأكثرية الذي يمنح الشعور بالأمان والقدرة على التعايش مع المختلف بوصفه أقلية ضعيفة لا يجوز الاستقواء عليها.
7 – المرأة عورة.
8 – ظاهرية النص وضرورة الاجتهاد والقياس.
9 – الطبيعة الرمزية للصحابة وقادة الفتوح.
10 – الاعتداد بالاستقلال والحضور في العالم والتمرد على الغريب المحتل.
11 – غياب التعصب تجاه المختلف الديني أو الغريب.
12 – التساهل مع طقوس العبادة .
13 – عدم الاعتراف بكل المذاهب التي انشقت عن الإسلام دون حس ثأري عنفي.
هذه هي مرتكزات الذهنية العامة والتي يتفاوت حضورها في الحياة من حالة شعورية إلى حالة ما قبل شعورية إلى حالة لا شعورية مستمرة في وضع المجتمعات الأكثر تقليدية وعند الفئات على اختلاف وضعها الطبقي.
هذه الذهنية، وهي في الغالب ليست عنفيّة، ما أن تحصل على تعيّنها السياسي حتى يتفاوت حضورها من إسلام سياسي معتدل إلى إسلام جهادي عنفي مروراً بإسلام الما بين بين. ذلك أن الجهاد ليس عنصراً من عناصر الذهنية السنيّة الحياتية، بل هو عنصر سياسي لا يجد رفضاً من الذهنية السنيّة. ولهذا فإن انتقال الذهنية السنيّة من ذهنية عيش وحياة إلى ذهنية سياسية بأشكالها المتعددة أمر يبرز في أوقات الأزمات الحياتية والأزمات السياسية المرتبطة بالشعور بالرفض.
هذه الذهنية تظهر في الجماعات المدينية شبه المغلقة (الأحياء التقليدية) في صورة شبه تامة (من عمارة البيت، العلاقات المعشرية، وضع المرأة، معاملات المصالح المشتركة، وفي القرية بشكل أقل حيث المجتمع القروي أكثر انفتاحاً).
أما على المستوى الفردي فإن ذهنية الفرد السنّي غير الملوثة بالسياسة ذهنية منفتحة وغير متعصبة ومتسامحة في الغالب.
أما إذا لبست لبوساً سياسياً ووصل هذا اللبوس حد استخدام القوة فإن الطاقة الجهادية – كما أظهرت التجربة – تصل ذروة حضورها في ما يسميه الإسلام السياسي – الجهادي – عمليات استشهادية. هذه العمليات التي لا يمكن فهماها دون فهم الذهنية السنيّة بعامة وتعيّنها السياسي الجهادي بخاصة، حيث التضحية بالنفس أعلى درجات الجهاد الذي يرضي الإله من جهة والذي يقود الشهيد إلى عالم من الخلود العظيم في الجنة الموعودة من جهة أخرى. وهناك في النص القرآني ما يشير إلى ذلك.
غير أن نسبة الجهاديين السنّة إلى عدد السنّة تكاد لا تذكر. فحب الحياة لدى المسلم السنّي قوي جداً. إننا نعيش اليوم الذهنية السنيّة في تحولها السياسي وهو الأمر الذي يجب الوقوف عنده. وهذه الذهنية السنيّة السياسية هي ذهنية أقلية وليست ذهنية أكثرية.
فالأكثرية لديها ذهنية سنيّة لا شعورية مرتبطة بنمط الحياة وعاداتها وطقوسها وليست لديها ذهنية الحاكمية لله واستعادة الخلافة، بل إن طريقة عيشها لم تستدع منها تحولاً من ذهنية شعبية إلى ذهنية نخبوية سياسية عنفيّة أو شبه عنفيّة. وبالتالي إن الإسلام السياسي السني لم يشهد انتشارا لدى الأكثرية. وما كان له أن يظهر في صورته العنفيّة إلا في شروط الدولة الدكتاتورية بكل أشكالها.
فحركة الإخوان المسلمين وتفرعاتها السلمية والعنفيّة لم تشكّل في يوم من الأيام حركة سائدة وذهنية سائدة. لأن الذهنية السنيّة وبخاصة المدينية قد تلاشت مع الأيام في ذهنية الحداثة القادمة من الغرب والتي هي ذهنية الحياة أو الذهنية المطابقة مع السعي لتحقيق شروط الحياة.
فالتحرر من الزي السني التقليدي في دمشق والقاهرة وبيروت وهي مدن ذات أكثرية سنيّة كان سريعاً، وسيادة نمط الحياة الحديثة كان كبيراً. وقس على ذلك أنماط الحياة الأخرى. فالإسلام السنّي الشامي مثلاً غالباً ما كان إسلاماً فردياً والذهنية طُبعت بالتالي بالفردية.
وما يميز الذهنية السنيّة اللاشعورية أو ما قبل اللاشعورية أنها مرتاحة ومطمئنة لحضورها الأكثري. ولكنها – ومع الأيام – عندما وجدت نفسها في حالة محكومة من أقلية وصارت تمارس ذهنية التقية كأقلية لم يعد بمقدورها إلا أن تتحول إلى ذهنية لا شعورية وكان من مفرزاتها الإسلام السنّي العنفي. بل إن الإسلام السنّي الجهادي العنفي بمجمله هو إسلام احتجاجي في إهاب سياسي للفئات الأكثر انسحاقا اجتماعياً بمعزل عن وجود النخبة من الفئات الوسطى.
هذا ما يفسر انتشاره في الجزائر ومصر وتونس وليبيا. وهذا ما يفسر أيضاً عملية انحساره الجارية الآن بعد إنجاز ما أنجز من عملية تجاوز للأنظمة التي كانت مسؤولة عن عذابات المجتمع الاقتصادية والأمنية وعذابات الحياة بشكل عام.
الذهنية الشيعيّة
تبدو الذهنية السنيّة بسيطة بالقياس إلى الذهنية الشيعيّة وتفرعاتها. حيث تتكون الذهنية الشيعيّة من عناصر مشتركة مع الذهنية السنيّة وعناصر خاصة جديدة. فإذا استثنينا المذهب الدرزي الذي يسمونه أهله بالمذهب التوحيدي، والذي أقام قطيعة مع الذهنيتين السنيّة والشيعيّة معاً. فإن المشترك بين الشيعة الإثني عشرية والعلوية والإسماعيلية كثير (مع تميز في الذهنية الإسماعيلية والعلوية).
1 – فإلى جانب القرآن والسنة فهناك علي وبنوه والأئمة من آل البيت من فاطمة، وهؤلاء المعصومون من الخطأ والسوء يتوافرون على قدسية تامة. وإلى جانب القرآن المشترك مع السنة هناك نهج البلاغة المنسوب إلى علي بن أبي طالب الذي حرره الشريف الرضي. وهو لا يقل قدسية عن القرآن وكلام علي كلام فصل.
2 – التأويل أقوى من الاجتهاد والقياس.
3 – التقية: وهو مبدأ خطير يقوم على إظهار ما يتناقض مع ما يبطنه الشيعيّ اتقاء للشر والذي كان مطلوباً لأسباب سياسية وصار جزءًا من الذهنية.
4 – المهدي والطبيعة الثأرية له. حيث سيأتي المهدي المنتظر وينتقم من أبي بكر وعمر وعثمان وبني أمية.
5 – الزعل التاريخي الدائم من كل من يتبع قتلة الحسين أي السنة إلى درجة كره الاسم.
6 – الزعل التاريخي من الذات التي شعرت بتأنيب ضمير بسبب مقتل الحسين.
7 – المرأة عورة.
8 – الشعور بالانتماء إلى الأقلية وما يتولد عن ذلك من خوف أو عقدة الخوف.
9 – عدم الاعتراف بالتاريخ العربي وغير العربي المرتبط بالخلافة، باستثناء بعض السنوات التي حكم فيها علي.
يكمن الفرق بين الذهنيتين السنيّة والشيعيّة السياسيتين غالبا بما يلي:
إن انتقال الذهنية السنيّة العامة الشعبية إلى ذهنية سنيّة سياسية يعني أمرين:
1 – الإسلام هو الحل والقرآن هو القانون والدستور.
2 – استعادة أمجاد الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة الراشدية والأموية والعباسية والعثمانية.. والعمل على إعادة إنتاجها.
وتلاؤم الذهنية السنية السياسية مع الواقع المعيش مهما بلغت درجته يبقى ضعيفاً.
فيما انتقال الذهنية الشيعيّة إلى ذهنية سياسية تعني انتقاما من التاريخ أي من السنّة.
في السياسة تظهر الذهنيتان بوصفهما متناقضتين فالذهنية السنيّة لا ترى في الشيعة في أحسن الأحوال إلا انحرافا عن الإسلام الصحيح، والذهنية الشيعيّة لا ترى في السنّة إلا عدوانا تاريخيا على آل البيت.
كما أن التقية بوصفها ذهنية لا شعورية أو شعورية منحت الشيعة السياسية القدرة على التخابث والمناورة والسلوك بعكس القول. فيما ظاهرية العقلية السنيّة تمنحها المباشرة المضرّة وغياب الدهاء.
تبرز خطورة الذهنية الشيعيّة في انتقالها إلى ذهنية شيعيّة سياسية في أن لها عدواً واضحاً هو قتلة الحسين والإيمان بعودة المهدي المنتظر. الإمام الثاني عشر، وفي الشعور بالمظلومية التاريخية التي آن الأوان للرد عليها.
لم تكن الذهنية الشعبية الشيعيّة في بلاد الشام والعراق ذهنية شعورية، بل لاشعورية، وكانت الأحزاب العلمانية والقومية والشيوعية ملاذاً سياسياً للشيعة والفئات الوسطى في لبنان والعراق.
وظهور الذهنية الشيعيّة السياسية في العراق ولبنان ما كان يتم لولا ظهور إيران الدولة الشيعيّة وبروز فكرة ولاية الفقيه التي شرعنت قيام الحزب الشيعيّ.
فحزب الدعوة مثلاً الذي يقال إنه تأسس عام 1957 كان حزب أقلية، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق أسس عام 1982 بدعم من إيران، وميليشيات بدر تأسست في إيران أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، وقس على ذلك كحزب الله الشيعيّ الذي تأسس عام 1982 والذي يؤمن بولاية الفقيه ومرجعه مرشد الثورة الإيراني.
والحق أن الانطلاق في العمل السياسي من ذهنية شيعيّة لا يختلف من حيث الجوهر عن الانطلاق في العمل السياسي من ذهنية سنيّة. فالنتيجة ستكون هناك طائفية سياسية حتماً، وعند العراق الخبر اليقين.
وآية ذلك أن الخطاب السياسي الطائفي يعيد إنتاج التاريخ الأسود للصراع على السلطة وعدم القدرة على العيش في الواقع على نحو أشد مما كان وقت ظهوره.
تبرز خطورة الذهنية الشيعيّة في انتقالها إلى السياسة في أهمية رجل الدين الشيعيّ السياسي المنتمي إلى آل البيت والذي يطلق عليه السيد، لابس العمامة السوداء. وهذا يظهر واضحاً في مقتدى الصدر والحكيم ونصر الله والسيستاني إذ يستمد هؤلاء قوتهم من الانتماء، ولهذا فلقب السيد ليس مجرد لقب احترام، بل وينطوي على قوة السيد الحقيقية الذي يقول قولاً فصلاً ووارثاً لعصمة الإمام.
وإن تحول هؤلاء السادة إلى رجالات سياسية وتحول الذهنية الشيعيّة إلى أحزاب سياسية يعني بالضرورة تعصباً، لاسيما عندما يغذى بخطاب يبدأ بـ”لبيك”. إذ تنتقل فكرة انتصار الدم على السيف، ودلالة انتصار دم الحسين على سيف يزيد، إلى فكرة انتقام الدم من السيف.
ولهذا فالتاريخ الذي يقف وراء الذهنية الشيعيّة تاريخ محدود جداً يخرج من كل التاريخ العربي الإسلامي تقريباً، تخرج منه الخلافة الراشدة – باستثناء سِنِيِّ حكم علي – والخلافة الأموية والخلافة العباسية والخلافة العثمانية ناهيك عن الخلافة الأيوبية.
ويصير التاريخ الحق هو ما له علاقة بتاريخ الأئمة الإثني عشر. ولهذا، فإذا كانت الذهنية السنيّة السياسية ذات نزعة تقوم على استعادة التاريخ الإمبراطوري للدولة الإسلامية، فإن الذهنية الشيعيّة السياسية ذات نزعة انتظار لاستعادة الحق المفقود، بل والمسروق. وفي كل الأحوال لا يمكن لذهنية دينية مهما كانت أن تكون ذهنية سياسية ذات أثر إيجابي في الحياة، بل على الضد من ذلك إنها ذات أثر سلبي لأنها المصدر الأهم للنزعة التعصبية – الطائفية المدمّرة للنسيج المجتمعي، ولكل ما له صلة بالتطور في ميادين العلم من قيم وأفكار وانفتاح وتفاعل في العلاقات المجتمعية، والعلاقة بين الذات والعالم.