الرجلُ الذي لا يشبه الأمير
لم أكن أعي بأني في غرفة العناية الحثيثة إلا حين سمعتُ صوتَ أمي، بدا متوترًا بما يكفي لأدرك بأنّها حزينة، خبرتي بأحوالها تجعلني أحدسُ حالتها النفسية من نبرة جدالها مع الممرضة المناوبة حول حقها في التواجد قربي أو ضرورة المغادرة، تهمس الممرضة بصوتٍ كالفحيح “ممنوع تواجد الأهل هنا، ثمة مرضى آخرون من حقهم الاستراحة على حافة الموت”.
الكلمة الأخيرة تجعلني أرتجف، يعلو صوتُ جهاز قربي، أسمع وقع خطوات مسرعة تقترب مني، ثمة حركات على جسدي، لم أعد أحسُ بشيءٍ…
لا أسمع صوتًا، ربما أمي غادرت أو أنها لم تأتِ، أنتظرُها على السرير الموحش، أراني ممددة موصولة بالأجهزة، تبدو عيناي منتفختان وأنبوب يخترق أنفي، حالتي يرثى لها، طالَ انتظاري ولم يحدث شيء، أفكر أنه ربما أمكنني اكتشاف المكان، أنهضُ بصعوبة من جسدي المتصلّب من التعب والنوم الطويل، أنظر إليّ، تلك النائمة على السرير لا تحس بشيء لكن التعب في رأسي النشط.
أرقبُ الممرضة تجلس خلف “الكاونتر” تنظر للمرضى المستقرين في أسرِّتهم، وتعود لشاشة هاتفها الخليوي، تبدو غارقة في محادثة ممتعة لأنها تبتسم وتهز رأسها، وأتابع أفكاري.
*****
لم تكن المسافة التي تفصلنا عن الجنون بعيدة، كنا في حالة من الهستيريا فلا شيء بقي على حاله، غير البيت الذي يؤوينا بدرجاته القليلة المبنية من الإسمنت التي بالكاد تتسع لمرور شخص، والغرف الضيقة بجدران متآكلة من تقادم الزمن عليها، كلّ شيء في بيتنا أتذكره بحنين، حتى القطة السوداء التي تؤنسني ولا يظهر منها غير عينيها اللامعتين حين تتسلل من شقٍّ في شبك النافذة الذي استحال لبنيّ كالقهوة.
ستأتي الجنية الخيّرة لتساعدني، تلبسني فستانًا يليق بأميرة لأبدو جميلة كما في القصص، ويُعجب بي الأمير طالبًا يدي للزواج، لكن الذي يجلس في بيتنا لا يشبه الأمراء، يبدو كوالدٍ لهم، ربما هو الأمير لكنه كبر مع سنوات الحرب، تعرّض قصره لقصفٍ وغزا الشيب شعره، كما رأيت أبي وأمي يشيخان في سنة هي عن عشرة، لماذا يتخيلون القصص إن كانت لا تحدث في الواقع؟ هي تحدث لا بد لكن نادرًا، وهذه من المرات النادرة؛ سأتزوج إذن!
هكذا تهمس أمي في أذني، لا تبدو سعيدة وهي تتأمل جسدي الذي بالكاد نضجت فيه ملامحُ الأنوثة، وتطل شفقة من عينيّ أبي تتزاحم مع دمعة تلسع قلبي بالخوف، لماذا يشفقون عليّ وأنا سأتزوج الأمير كما فعلت “ساندريلا”؟
*****
لا بد بأني عدتُ للاستلقاء في جسدي، هو بيتي على أيّ حال، لكنه مثل الوطن بات موجعًا، يتسلل الألم ينبض في كلّي كأني سجينة غرفة تحقيق، أتذكر أبي وهو عائد من جلسة تحقيق طالت لأيامٍ لسؤاله عن أخي الذي لا نعرف كيف اختفى فجأة، عرفنا أنه ذهب ليجاهد، مع من؟ وضد من؟ لا نعلم، لا أنسى منظر أبي كأنه تكسرَ وأُعيد تركيبه على عجل، وجهُه بلا تعبير، وصوتُه خافت يتسلل من شفتين مشقّقتين ربما من الصراخ، كنا بحاجةٍ إلى المال لنهربَ إلى مجهولٍ بلا حرب، وكنتُ أنا البنت التي يمكن أن تتزوج بمهرٍ يساعد العائلة في الخروج من الجحيم، هكذا عرفتُ لاحقًا لِمَ ظهر الأميرُ الكهل في بيتنا قبل الجنية، وزارنا على عجلٍ كأنه يسرع إنهاء الصفقة مع أبي وأمي، أسامحهم على أيّ حال، لم أربط بين خيوط الأحداث إلا حين تورطتُ أكثر فيها، فلم يكن الرجل الجالس في بيتنا أميرًا، كان يريد لعبةً جديدةً صغيرة و…
أهربُ من ذكرياتٍ تلسعني بألمها، أتذكر رغما عني لحظات الانفجار الذي هزّ المنطقة، أين كنتُ؟ أهاا… أرتدي الفستان الطويل المشكوك بالخرز، كنت أقفُ على أطراف أصابعي لأراني في المرآة المشروخة: هل أشبه “ساندريلا” في القصة؟ ربما أضعتُ فردة حذائي وأنا أهربُ من صوت الانفجار وتصدُّع جدران البيت.
أواصل انتظاري مجيء أمي، ستجادل الممرضة مجددًا لتجلس قربي، ربما لم تنجُ، لكنّها ستأتي على أيّ حال!