الرجل الرفيع بالقميص الأبيض

فصل روائي
وليد نظمي

بقدر ما بدا شديد الأناقة، بقميصه الأبيض الناصع، وبنطلونه الجينز النظيف، وحذائه الأسود اللامع، وذقنه الحليقة، ورائحة الكولونيا، المتعبة في الحقيقة، التي تفوح من كل أنحاء جسده، وطوله الشبيه بعنق نعامة، كانت الغرفة التي يسكن فيها باهرة النظافة والترتيب. لا أعرف إن كان كل شيء في مكانه بالضبط، كما يمكن أن أتخيل. ولكن  وجود تلك الأشياء، مثل الكراسي الخضراء الخمسة، والطاولة الخشبية بلون الجوز، وإبريق الفخار المغلف ببساط ملون، والمزهرية الفارغة، وأقداح الفودكا المصفوفة على حافة النافذة، والكتب المتساوية الأحجام على الرفوف الخشبية، وأقلام الرصاص المسنونة ذات الرؤوس الإبرية، في المقلمة الخشبية المرصعة بالأصداف في أمكنتها، يوحي بأن يدا صارمة ووجلة، في الآن نفسه قد أبقتها في ذلك الوضع الأبدي.

 يد ملساء مليئة بالعروق النافرة، الزرقاء، وخالية من الشعر، بأصابعها الطويلة التي تشير إلى  أنها يد موسيقي، أو رسام، كما تأملتها. صار يضحك من ملاحظتي، وقال إنه بالفعل كان يحلم أن يصبح رساما، ولم يتحقق من ذلك سوى المظهر. قال إنه في امتحان الجغرافيا، مرة، بدت قبرص شبيهة بالأرنب، حين طلب منهم رسم خريطتها.

ليس في ضحكته أيّ جانب مرح، ضحكة مريرة، معذبة، وفاسدة في الوقت نفسه الذي أراد أن يقدم نفسه لي في الوضع المستقر، بعد أن تخاطبنا عبر الرسائل الإلكترونية، أكثر من شهرين. كان خلالها يحاول أن يقنعني بالرضوخ لشروطه، ومتطلباته، بنوع من النزق الذي جعلني أحجم، في المرحلة الأولى، عن الرد على رسائله التي انهالت على بريدي. وقد أدركت حين التقيت به، أن الرجل لا يزال تحت تأثير الأشهر الميتة (هذا هو وصفه للمدة التي قضاها مخطوفا سجينا في تلك الغرفة المعتمة حيث لم ير النور قط). فكرت أن عليّ أن أدرس تلك الحالة، وفيما إذا كان لدى التحليل النفسي، أو أي مدرسة أخرى تهتم بتأثير الأمكنة على الشخصية الإنسانية أجوبة تفسر ماذا يحدث للإنسان بعد مروره في تجربة قسرية من ذلك النوع. (عتمة متواصلة طوال ستة أشهر) إذ كان يغمض عينيه دون سبب، قبل أن يتكلم، أو يصمت فجأة، وكأنه نسي ما يريد أن يقول، أو يغمز بعينه، أو يقول جملة أخرى مختلفة تماما عن الجملة التي يشارك بها في الكلام.

حين ينهض، يدور بكامل جسمه، كأنه لا يرى. ويمد يده اليمنى، أو اليسرى أمامه، خائفا من أن يصطدم بجسم ما. تستمر تلك الحالة، لنصف دقيقة، ينهيها بنفسه، بعد أن ينتبه إلى عينيه. لن يلاحظ تلك الحركة الخزفية المصنعة غيري، فقد كان لديه من المهارة، وسرعة القرار، ما يساعده على تعويض تلك الحالة بابتكار شاغل آخر مختلف تماما، يلفت إليه نظر الجليس، أو مجموعة الجلساء، الذين باتوا يكثرون من المجيء إلى بيته، دون أن يكون قادرا على منعهم.

وفوق هذا فإن بحة صوته كانت تثير الشجن، وهو يضطر للنحنحة، في المسافات الطويلة التي تتطلب سلسلة من العبارات. مثل تلك اللحظة التي اعتذر فيها منّي عن نوع الضيافة التي يقدمها. وكلا الأمرين محير، فالنحنحة دليل الارتباك والقلق الحقيقيين، بينما كان يبالغ بالفعل في الكرم. وهو أمر مستفز لي من جهة، لأنني اعتقدت أنه مبذر، أو متباه، ومحرج، ومن جهة ثانية، لأنني عرفت أنه في ضائقة مالية شديدة، فقد حرم من راتبه في الأشهر التي غاب فيها عن العمل، دون إجازة، بحسب مديره، الذي لم يجد في مسألة الاختطاف أيّ عذر قانوني يمكن أن يكون داعما لمنحه الراتب، ولم تنفع الدعوة التي أقامها ضد دائرته الحكومية، وأثبت فيها محامية، أنه غيّب ولم يغب، إلا في إعادته إلى العمل، دون تعويض الراتب.

 ولم يكن بوسع أحد من أصدقائه تقديم العون، وكل ما استطاع أن يفعله عصام نوح هو أن يجد له عملا مؤقتا في أحد أسواق الخضار الكبرى، بحيث يتمكن من العيش، ودفع إيجار البيت وشراء “دخاناتي”، كما يسمي كمية السجائر التي يستهلكها يوميا أو شهريا.

وكلما تقدم الوقت، وأنا في ضيافته، كان  شاكر الصافي، يتخذ هيئة مختلفة عن الهيئة التي تسبقها. أظن أنه كان يستعيد حقيقته، هكذا فكرت، أو أنه يسعى لتقديم كل ما يمكن أن يزيل أي عقبة، أو مشكلة، يحتمل أن تعترض طريق العمل، وبسبب تأثره العميق من السرد، علما أنه لم يكن قد دخل في التفاصيل، راح لون وجهه يميل إلى الشحوب، كما لو كانت الحكاية تمتص رونقه، بينما كانت يده تصبح ملساء خالية من عروق الدم.

كانت روايته متعثرة تعاني من التفكك، والضعف، وفيها ثغرات عديدة، يمكن أن تسبب له، وقد سببت بالفعل، إحراجا يتعلق بالصدق. غير أن الثقوب التي فيها تحتاج لأن يكون المستمع محبا، وواسع الصدر، إذ كانت تسمح للبشر، الذين فيها، أن يظهروا بوجوه مختلفة عن الصورة التي رسمها لهم في وحدته العجيبة التي لم ير فيها وجه واحد من أولئك الذين اختطفوه. الحقيقة الأخرى تقول إنه هناك تعرض لتعذيب شرير وعبثي في أحيان كثيرة، وأن هذا التعذيب قام به أشخاص لا يعرفونه من جهة، ولا يعرفون ما هي النتائج التي سيحصلون عليها من ذلك التعذيب، وأنهم خلفوا وراءهم، في جسده ندوبا لا تزول أبدا، وأن ندوب الروح (والسجل الذي ستقرؤونه هنا، هو عنها)، كانت أشد عمقا وقوة، ولا سبيل لمحوها أبدا. شروطه البسيطة، كما سمّاها، هي أن لا يظهر أي حرف من اسمه الحقيقي، وأن يتم تزوير (المفردة من عنده وقد صححتها قائلا: تغيير) هوية عائلته، وأقربائه، وأن ينقل منزله من الحي الذي يقطن فيه إلى حي آخر. أي أن تتم طمس كل المعالم التي قد تجعل أحد الأشخاص من فضوليي المدينة يحاول استرجاع الجغرافيا والتاريخ.

*******

لمحت ذلك الرجل الملثم حين خرج من السيارة. بدا جميلا في نظري، ربما لأنني رأيته من خلال غلاف علبة الحمراء الشفاف الذي تراقص أمام عيني حين نزعته عن العلبة. (أقول ربما، لأن حالتي التالية لم تكن تسمح لي بترف اليقين) فاللثام المطرز بخيوط سوداء، وفتحات حياكة واسعة، أضفى على قامته غموضا فاتنا. (لم أر المسدس في الوسط بالطبع، وسوف أتلمسه فيما بعد حين أحشر بينه وبين الآخر الذي سأتحدث عنه فيما بعد أيضا، لأن الوقت مبكر على ذلك) ولا أنكر أنني خططت لارتداء ملابس مشابهة، أو مأخوذة من هذا الطراز الأنيق اللافت، في الغد. أشعلت السيجارة، وراقبت من خلال تلافيف الدخان.

نزوله من السيارة كان إيقاعيا ومدروسا وغير متوقع. الواضح أنه يمتلك خصائص مختلفة عن أي شخص آ خر من الذين عرفتهم. إذ استطاع أن يحتفظ بظهره مستقيما وصلبا، بحيث يبقي رأسه مرفوعة. وسوف أعلم متأخرا أن الرأس المرفوعة كانت مخصصة للتلصص السريع المباغت. كان يشبه الصياد. هذه هي القواعد التي كان عصام يذكرها أمامي. عصام نوح أكثر الصيادين مهارة وخبرة في المدينة بأسرها، كان يستطيع تمييز الطيور بأنواعها بنظرة واحدة مباشرة من عينيه، وكانت له عينان صقريتان. لا. الحقيقة أن الصفة غير مناسبة إلا من جهة قوة الرؤية، لكن ما في عيني عصام أمر مختلف تماما، يجعل أيّ رجل مرغما على الهرب من لقائهما، بينما كانت النساء يرضخن لهما. لا توجد امرأة قادرة على مواجهة نظرة عينيه دون أن يمتلئ جوفها بالشهوة. كيف أعرف؟ لم تكن هذه هي الفكرة، بل فكرة الصياد الذي يجب أن يكون مستعدا لرؤية العالم كله حوله منذ اللحظة الأولى التي ينخرط فيها داخل عملية الصيد، إضافة إلى نظرة عيني الرجل ذي اللثام الذي جعلني أحول نظراتي إلى الجانب الآخر من السيارة.

أما سيره نحوي، أو سيره الوئيد نحوي، فقد بدا لي مبالغا به، فالرجل يمتلك قامة ممتلئة، وصدرا عريضا، ورجلين رياضيتين، وبوسعه أن يخطو بطريقة أكثر ثباتا، وقوة. لكنه لم يفعل، ويبدو أنه كان في انتظار الرجل الثاني الذي خرج من باب السيارة الآخر المجاور للرصيف. أعاقه حجر صغير في البداية، وتطلب الأمر منه أن يبعده برأس حذائه. تسنى لي في تلك اللحظة الخاطفة أن أرى (أستخدم هنا فعل أرى بكثرة لأنه سيختفي من المعجم الخاص بي طوال الوقت القادم) أن الحذاء مستورد. أو هو باللغة المحلية العارية، من البالة، حيث الملابس الأوروبية المستعملة (يجب أن أنوّه هنا أن كلمة الأوروبية بدأت تستخدم منذ فترة قريبة في أسواق الملابس المستعملة على أمل أن تجعل الزبائن أكثر قربا، أو أنها كانت ردا غير مباشر، عفوي، اعتباطي، على  محاولات محو أوروبا من الخريطة). مشى الرجل الثاني نحوي أيضا، دون أن يمتلك إيقاع الملثم وتصميمه. لاحظت أنه يعرج قليلا، عرج خفيف ناجم عن صدمة دراجة هوائية مسرعة. قال لي طبيب العظام إن مسألة شفاء الكسور تتعلق بأهواء القلب، حين صدمتني السيارة ذات يوم، وكسرت ساقي. شفيت بسرعة بفضل الحب.

اللثام الثاني أثار قلقي، فأن ينضم رجل ملثم يخرج من سيارة سوداء. السواد رمز السلطة (السيارة النظارة الشعار أبواب المقرات) إلى جانب رجل ملثم آخر، في هذه الأوقات المضطربة، هو موقف عليّ أن أقلق منه. هذا هو الحال ففي عظامي يرقد رعبي من أن أكون قد أخطأت في مكان ما أو زمان ما. ولهذا فقد أخذت رشفة طويلة من السيجارة، ونفخت دخانها في الهواء، بينما كنت أستعد لمغادرة الرصيف.

أعترف أن قبضة يده التي أمسكت بمعصمي كانت حديدية. يكفي أن تشعر بها كي تستسلم. هذا أنا في الحقيقة، فالمقاومة ليست من طباعي، وقد نجوت طوال عمري من الأذى بفضل سياسة سمّيتها لا تكن مكسر عصا. بينما لم يتح لي هو نفسه أن أفكر بشيء آخر غير الألم الذي تسببت به كفه القاتلة، وكلمته الحازمة  التي لم يتأخر لحسن الحظ، في نطقها.

لزمت الصمت. استطاع الخوف أن يطمس الألم أيضا، بينما تمكنت ضربات القلب من تحييد أعضاء الجسم الأخرى. لم يعد لديّ عقل يفكر إلا في كيف تستطيع أن تقنع الآخر أنك لن تفعل أي شيء؟ كيف أنك تستسلم؟ ما هي الطريقة الطيبة لمنعه من القيام بأيّ خطوة عنيفة؟ على الرغم من أنه ظل يشد على معصمي بينما كان الآخر الثاني يلوي ذراعي ويرغمني على وضعه خلف ظهري. أردت أن أقول لهما شيئا ما، لم أعد أذكر، أو أعرف ما هو، بينما كانا يقتاداني إلى السيارة، ويدفعان بي للدخول إلى مقعدها الخلفي. ربما أردت أن أقول: أستطيع الدخول وحدي. أو أن القيد الذي وضعاه بسرعة حول معصمي يؤلمني. لا شيء. كان رجلان هناك في الداخل، السائق الملثم، والرجل الآخر الذي قال بصوت حجري متعرج: “امش” بعد أن أغلقت أبواب السيارة، ووضعوا عصابة سوداء سميكة على عيني.

  أتخيل الخشن (صاحب الصوت الحجري) على الصورة التالية: وجه أسمر (لا أعرف لماذا أسمر وليس أبيض) وممتلئ باللحم، ويتوضع عليه شاربان أسودان كثان متهدلان فوق شفتيه، بالضرورة، لأن لديه فوق شفته العليا جرح عميق مائل شوه منظر الشفة العليا بحيث صارت كشفة الأرنب. ومن المناسب أن يخفي ذلك تماما. بل إن الشارب الكث سوف يضفي سمة عقلانية قوية على المشهد، بينما تنحو النظارة السوداء نحو الرسالة الأمنية.

انطلقت السيارة ببطء. كما لو كنا نتنزه. اختلطت رائحة الرجلين اللذين كانا يضغطان على جانبي، بحيث لم أستطع أن أميز أيهما كانت له رائحة بقدونس، وأيهما كان ساخطا. تحاشيت أن استخدم أنفي أكثر من اللزوم، إذ أن سماحهم لي بالتنفس كان كافيا في تلك اللحظة. ومسيرة السيارة، بانتقالاتها المستهترة داخل المدينة، أوحى لي بالفكرة الأولى التي خطرت ببالي. وهي أن هؤلاء الأشخاص يشاركون في لعبة رعب مع أصدقاء آخرين لي. أسعد الشايب مثلا، أو رضوان النوري. والهدف هو السخرية مني، أو فضحي أمام الناس، أو ربما مجرد الضحك المجاني مستغلين حالة المدينة المضطربة على وقع الحرب التي تدور في الجوار، داخل اللجاة، أو وسط مدن وقرى حوران. شتمتهم في سري، فهذا مقلق. إذ كيف يتجرأ أيّ شخص على جعل الألعاب ملحقة بالحرب؟ المقلق أكثر هو أن الألم الذي بدأ يضغط على معصمي، أو ألم الظهر الذي نجم عن دفعي إلى الأسفل، بحيث تمكن كلا الرجلين من الجلوس فوقي، أدى إلى شل رغبتي في الاعتراض. ثم إن المكان الذي مررنا به، أيقظ حواسي، فسوق الخضار في المدينة كان مأواي لسنوات طويلة، لا للنوم، كما قد يفكر أي شخص، بل للرزق. صخب الباعة اليوم كان مدسوسا في الهواء. أعرف هذا من ذلك الصراخ العشوائي الذي يطلقه باعة هامشيون يتدربون في أنواع الخضار والفواكه وأسماع المارة. تلا ذلك طيش السيارات القادمة من ساحة السير في وسط المدينة. أفكر بسرعة أننا الآن وقد صرنا قريبين من قيادة الشرطة. سيكون المكان ممتلئا بهم، وهم مستعدون هناك، فمن الجائز أنني فكرت في تلك اللحظة أن أطلب نجدتهم: “ياااا شرطة”. أما كيف عرف الملثم الأول بذلك، فهو أمر غامض، إذ أنه تحرك مسرعا، ودفعني نحو الأسفل، وشل قدرتي على تحريك فكي. كانت التجربة مثيرة، فللمرة الأولى تطبق قوة خارقة لا مثيل لها هناك. وريثما عبرنا الساحة الصغيرة التي يتوجها تمثال الثورة السورية الكبرى، فكرت أن كلمة الكبرى زائد. وبسبب شرودي هذا اكتشفت أنني لم أعد أعرف أين صرنا، حيرني صخب السيارات في الخارج، وصافرة شرطي المرور، والصمت الذي ران على السيارة.

المشكلة هي الصمت. الصمت الحانق. الصمت السقيم. الصمت الغامض. الصمت الأخرق. الصمت الساخط المهين الذي جعلني أشعر للمرة الأولى أنني في مواجهة أشخاص خائفين مثلي. حركت فكي بصعوبة، وقلت من هناك: “خنقتني يا خراء”. جملة خارقة لم أجرؤ على توجيهها لأيّ بني آدم منذ أن وعيت. شعرت بالفخر قليلا، ولم أصدق أن شاكر الصافي (أنا) هو الذي قال تلك العبارة، لا لأنها مركبة من تلك الكلمات، أو لأنها قيلت بتلك الطريقة. بل لأن فيها نبرة تأديب وتجريس لرجل بمثل تلك القوة والحزم. وسرعان ما شعرت بالرعب من الصمت الذي أعقب ضحكا تافها مدبرا. ليسوا كذلك إذن؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.