الرقصُ في الظلام
حلَ ليلٌ مشبوبُ البرودةِ، ليلٌ إذ يزدادُ حِلكة، يزدادُ غموضاً، كان يبدو أن النجوم قد خَبت في السماء، كأنما دُست في عجينةِ مُظلمة، وذابتْ، لتعودَ في داخلي حصتي من النور.
تناهى من خلفِ الوادي، في البقعةٍ المحشوة بالحشائش والبيوت الصغيرة المتفرقة ذاتُ اللون التُرابي، نعيقُ بومٍ وحشرجةُ رياحٍ مكظومة، حابسةَ الهواجس، تتدرّبُ على أغنيةٍ لا تجتمعُ في معزوفة واحدة، حيثُ تنحدرُ الدمعة لتصير بعد لهيبها رَحيقاً، حيثُ الألم يتبددُ بالرقص على إيقاعاتهِ، ويوشكُ الموتُ على أن يفيضَ حياةً، كُل شيء يتحوّلُ في السمفونية الكبيرة، كُلُ شيء يتحدُ، وما يتنافرُ يربضُ على نحوٍ متحجرٍ في المقبرة.
وانقضى ليلُ الروح برجفةٍ للأخيلة، فجأةً، ما من صوت، ما من رؤيا، ما من خيالِ عرضٍ ليلي أخير، وعبرت قبلَ أن تنسلَّ من هوةِ نافذةٍ ضيقة مثقوبة في جدار السجن، روائحُ ليلكٍ وعنبر، سمكٌ مشوي، صابونُ غار، مُتقدة ذاكرةُ المسجون، أكثرُ منها اتقاداً روحهُ، أشدُ منها يقظةً رسوماتهُ العقلية التي لا يفصلها شيء عن العالم الخارجي، ولا حتى باع، كُلها تتسربُ من تلكمُ الهوة وتتلاشى فيها، منذ حوالي ستة أعوام، وفي هذا الظلام الفسيح للقوقعة، كانت تعبرُ الشمسُ كُلّ يومٍ في روحي، وتخفقُ أجنحةُ الطيور، بعيدٌ هو بيتي ومزرعتي، متكومٌ هو الموت على حافة القضبان الضَجرة، والشيء الغريب أن النهار الكادحَ والليل الناعس، الاحتضار والولادة، الطفولة والشيخوخة التي تجرُّ أذيالها البيضاء نحوي، الخيرُ والشر، كُل ذلكَ مجتمعٌ، منبعثٌ من مصدر واحد، عائدٌ إلى المنبع الأصل، فرديٌ لا تجزئهُ تناقضاتُ الزمن.
في قلبِ ساعةٍ ساورني الشكُ، ذلكَ أنهُ من الطبيعي أن أنحدرَ نزولاَ نحو شقاءٍ أبدي، ثم عدتُ للتساؤلِ ثانيةً، أليس الإنسانُ باحث منذُ الأزلِ عن معنى وجودهِ سواء كان في الزنزانةِ أم في القصر، في المنفى أم الوطن، منبوذاً أم محبوباً؟
ورانَ السكونُ، رانَ اللاشيء، هبطَ الخواءُ، سمعتُ وقعَ أقدامٍ، صُراخ، ثم عادت موجةُ فراغ، وجهُ زوجتي يلوحُ، يدمغُ أفكاري الموحشة، ها هو ينبثقُ، فتياً، موردُ الوجنتين، والعيونُ اللامعةُ من فرطِ الحنين غدت سائلة، العيونُ تسيلُ مع الدموع، تلكَ العواطف، آهٍ، ترتعشُ الآن، كشمعداناتٍ على رفوفِ المواقد، تُدفئُ بردَ الفؤاد وهو يطرقُ بعذاب، ليس ثمةَ تنافرٌ بينَ نزوعي للبؤس، وهروبي إلى حديقةِ البيت، أو الحقل، سامعاً خشخشة أوراقٍ خجلي، وصوتُ طفلي وهو يعدو بحماسِ الربيع:
لا تنس هدية ميلادي.
وينأى راكضاً، ينأى الصوتُ، تقودُ الرياحُ العابرات صداه وترجعهُ إليَّ.
لا تنساها.
قُلتُ لنفسي: حينَ يستبدُ بي التعبُ، سأبحثُ عن مكانٍ ما، سأعثرُ عليه في داخلي، سأستأنفُ الرقص، فالسأمُ رقصٌ، والانتظارُ رقص، الأحزانُ والمسرات، الصراخُ والبكاء، وحينما يتوقفُ رمزُ الخصبِ في الروح متمثلاً في الانسجام مع الموسيقى الكبرى، حينئذٍ تدقُ الساعة الأخيرة، لذا سأرقصُ، سأواصلُ الإصغاء لتدفقِ الحياة، فالشيء الذي أُدركهُ هو أنني باستطاعتي التَحولَ من سجينٍ مُكبلٍ إلى مسافرٍ نحو فضاءاتٍ رحبة داخل العالم الضيقِ الذي لا يسعُ وجودي المَمتد.
وعلى مبعدةٍ من السجن، ومضت النجومُ، حلَّ اندلاعٌ ضوئي لبريقٍ سماويٍ، في هذه الاثناء، اتقدت عيونهُ، مرة أخرى عثر على نغمة روحه، مرة أخرى رَقص، أطلق عذاباته في مقصلة الوحدة، ورغم هذا ظلَ متناغماً في النسيجِ المتماثل للنغمة، وأسدلَ النعاسُ الشفيف ستائره.
العينُ الحارسة
(1)
أطبقت الظُلمة، وتأَرَجت عُذوبةُ ليلٍ تنسابُ من أعاليه أضواءٌ شفيفة لقمرٍ مُنير، لعَلنا يصدفُ أن ولَينا انتباهاً مَشوباً بالقلقِ المستترِ خلف رحمةٍ حانية لأمهاتٍ يبحثنَ عن أطفالهن إثرَ اختفاءٍ مُباغت، لا جرمَ أن الطفل وقعَ فريسةً لزحامٍ مجنونٍ في الأماكنِ العامة. أُمهاتٌ تلوحُ من أعينهن رجفاتٌ محمومةٌ وعذابٌ يكفي لإذابة القلوب الصَلدة، يُصورنَ لنا حالات خالدة لأرواح منهمكة في البحث، يواصلنَ احتراقهن حتى يجدنَ، ولسوفَ يجدنَ حبَة القلب التائهة.
موغلٌ في الاضطرام والعصفِ هذا البحث، لكأن الأحلام المُزخرفة بتوهج عقل كبير لطفلٍ حمله الوسن بين جنبات صدر أمه، ينبضُ برؤى مُغايرة.
(2)
تمتدُ قاعة الاستقبال كما لو أن أيادٍ خفيةً تشدها من كُل الجوانب فلا أكادُ أرمش حتى يتبين لي أن المكان توسعت أركانهُ بطريقةٍ مُرعبة.
كانت هذه أول مُلاحظة ثقبت عقلي، بينما تضغطُ أمي على يدي بقوة تتولد معها حرارة تتدفقُ على إثرها حباتُ عرقٍ بالغة الصغر في جوانب أصابعي.
ابقَ هنا، لا تبتعد عن هذه الزاوية.
وابتعدتْ، الوجوه هنا تكبرُ وتشيخُ، تصيرُ أبشع، والعيون تتناثر، ترمقني، يُصدرُ سقوطها دوياً مُزعجاً ككراتِ الكُجَّةُ، سقطت عينٌ بجانبي، شهقتُ، اندست في جيبي، صرختُ وأفلت الصوت من فتحة النافذة الكبيرة، لم يَعد.
لم تُصغِ إليه أُمي، ذابَ كيانُها في زحامٍ من الضحكات والروائح النفاذة العطرة، عندما تحركت ناحية اليسار دار المكان دورةً حثتني على الإحساس بالغثيان، أجلتُ بصري في المكان، كان هناك طبقٌ ترقص فيه قطعٌ من حلوى الجيلي الملونة، المخاتلة بضياء انعكاساتها، ظَلت عيني مُعلقة، مشدودة ناحية ذلك الصخب المُلون المثير، تقدمتُ وجلاً بضع خطوات، وحين التفتُ ناحية الزاوية التي خَلفتها ورائي مُعتمة، لم أجدها.
ابتلعتُ الخوف على مضضٍ، زاد اضطرابي، عندئذٍ شعرتُ برأسٍ ضخم يُطلُّ من فوقي كيقطينة كبيرة، رأسُ امرأة عجوز، تساءلتُ كيف لم يخترق رأسها السقف؟
أتائهٌ أنتَ؟ المسكين.
لحظتها هاجت معدتي بآلامٍ عنيفة، لم أُعقب، أطلقتُ رجلي في الفضاء المختنق، بحثتُ عن أمي، عن الطبق الملون، كانت كل الأشياء تتداخل وتفقد وجودها الحقيقي. انزويتُ في زاوية صغيرة، أوسعُ من الضجيج، بعد ساعة من الانعزال والتململ واختلاق الخيالات التي تسبب الدوار، عبق أنفي برائحة مألوفة، وداعبت يدٌ معصمي في رقة، يدٌ فيها هيئة الحب والحياة، أطلقتُ ضحكة، لم تنفلت هذه المرة لتختفي، ظلت عالقة في وجهي، والعينُ الحارسة التي اندست في جيبي عادت إلى أُمي.
فيحُ النارِ والروحِ
تُوشكُ الشمسُ على الأفول، فيما يُكملُ الخريفُ جولاتهِ ذات الأصداء المُرتجفة، حاملاً رياحهُ المُثقلة بالعبوسِ والأماني نحو النوافذِ المُشرعة، كان يرقبُ نأي الضوء الأرجواني، وانبعاث الأنسامِ التي علقت في الرياح المتسللة من فتحة نافذته، عندئذٍ بدا له أن عالماً بأسرهِ سيفصلهُ عن عالم الحقيقة الذي كان رابضاً فيه، لِما يوحي له المغيب بالعذابِ المستبد؟ بالخوفِ ناشباً أظفاره؟ كان مستريحاً منذُ ساعاتٍ تحدوه يقظاتٌ عذبة لا تخلو من الغرابة، لِما يحسُ في أعماقه بلهيبٍ مستعر؟
لُججٌ عميقةٌ تغورُ في باطنهِ، تتركهُ مضطرباً، وكأن الغروبَ فوهةٌ سحيقة تذرُ روحهُ في ظلمة أبدية، محاصرة، تحترق. ناحلاً، أشيبَ الشعرِ غدا، شابٌ في العشريناتِ من عُمرهِ. كانت الغرفةُ التي يقطنها أقربَ لصندوقٍ طولهُ يزيدُ عن عرضه، أكبرُ منها كان رأسه العِملاق الذي يفورُ منه قلقٌ متواصلٌ بدائي وكأنما حالَ ضبابٌ سحيقٌ دون أن يبصر عمق أفكاره الراعبة وانقيادَ روحهِ للظى.
مُجرد أفكارٍ، صغيرة، تتفاقم، تنتهبُ كيانه، مقدودة من نار، تتسربُ بتخابثٍ إلى عقله.
كان يخشى أن يُدلي باعترافاته الداخلية.
أصواتٌ داخلَ رأسي تروحُ وتغدو.
يتفهمُ فئات البشر، حادس يقظٌ مُعذبٌ بالفهم، يرى أولئكَ الذين يجيئون لزيارته حاملين التعاويذ بينما تكتسي ملامحهم ريبةً وهم يتحادثونَ.
الأصوات الشيطانية غيرُ محمودة في عالمنا!
وفي مُعظمِ الأحيان حين يمر الأطفالُ بمحاذاته لا يتوانون عن الإشارة إلى رؤوسهم، ضاحكين في خفوتٍ يُنبئُ بعجزٍ دفين على إدراكِ حالته.
ويَهبطُ الهزيع الأولُ من الليل.
هنا بالذات، في هذا الوقت، عَلمَ أن ثمة بحيرة من جحيم تم طلاء روحهِ بمياهها التي لا تجف ولا تصيرُ إلى زوالٍ، أتكونُ هناكَ تفسيراتٌ أخرى مُبهمة عليهِ أن يستشفَ كُنهها؟
ساورهُ هاجسٌ راعبٌ، أن ينتزعَ هذا العقل، أن يموت في مجد الذكاء الإنساني الذي انقلبَ ضده. تمدد على سريره، داساً رأسهُ تحت الغطاء، توقظهُ لفحاتٌ من أنين رياحٍ، كُلما سكنت، عادت، يحدوها الهيجانُ، واختلاجاتُ آلامٍ مُتلفّعة بالصمت، محضُ هروبٍ مُتنكرٍ أن يأوي إلى الاختفاءِ، مُقتنصاً لحظة سُباتٍ، برودة، ترتعشُ لمرورها ألسنةُ نيران فوضوية يعجُ بها رأسه، لا مرئياً من مخالب الأصوات، يخالُ نفسه، هو المُلقى في عراءٍ تنهشهُ.
آيلٌ للتلاشي هذا الجسدُ المتوسدُ فِراشه، جليةٌ آثارُ موت الروح، فحينَ تصدرُ أيّ حركة، حين ينبعثُ أيّ صوتٍ؛ يكفلُ له انهياراً آخراً، تحفيزاً لأصواتٍ ناهبةٍ أكثرُ جنوناً، وحتى يتداركَ انطفاءهُ الأخير، كان يزرعُ أضافرهُ في سويداء صدرهِ، على غيرِ قصدٍ، سوى التشبثُ بنجاة، يؤمنُ على الأقل أنها إن وجدت، ستكونُ في أعماقه، رُبما بالغَ في عذابهِ، فالموتُ يتجسدُ في أشكالٍ مغايرةٍ، أنقصها عذاباً، أكمَلها في التشييع، ويذوبُ الشاب، وكُلما ناظرهُ أحدٌ مّا، يخالهُ صرحاً، لكنه كتلكمُ الصروح التي تتآكلُ من جوفها، فإذا ما تداعت تسقطُ مُصدرةً صوتاً مجلجلاً، صداهُ التفجع.
وخفَّ ضوءُ النار، وعلى السريرِ الرازحِ تحت وطأةِ سقيمهِ، لاحَ الشاب أبيضُ الشعر، أبيضُ الوجه، ضامرةٌ ملامحهُ، مُتشحٌ بوقارٍ يشبهُ الموت، ناضجٌ من أثر النيران المُسلطة على عقل وروحٍ هُما إكسيرُ وجود الإنسان، ناضحٌ ببريقِ يُتائمُ لمعانِ صخورٍ أُغرقت في النار حتى صارت جواهراً. عقلٌ أُريقَ، نازفٌ، في لحظةٍ كاد يكونُ طُعماً للترابِ، وللأرضِ أن تصيرهُ كيفما شاءت، جذراً، ورقه، عصفوراً.
أفاقَ من غُبارٍ مُبعثرٍ، قليلهُ قامَ، ينتشلُ بقيتهُ، كطيرِ عنقاء قامت حياتهُ من رماد، ولا تَسل الناجين عما إذا أبصروا من موتهمُ شيئاً لم يلحظهُ الآمنونَ، فاليرقاتُ يتمزقنَ، يُوَلولنَ، يتبددنَ ألماً في رحلة تحولهن، قبل أن تستيقظ فيهنَ سيرةُ الفراشاتُ الجديراتِ بالتسابقِ مع النسائم لتجهيز عُرس الحقول، تَحولَ الشاب، ويقالُ إن الأصوات لم تعد تعبرُ رأسه منذُ أن ماتَ وعاد.
كاتبة من السعودية