الروائي الشارد الباحث عن التحولات
ينتمي خيري الذهبي إلى مجموعة من الأدباء الدمشقيين، الذين وجدوا في دمشق مسرحا لأدبهم، قصة كان أم رواية أو حتى شعراً، ويمكن أن نضع أدب خيري الذهبي بسهولة في سياق الرواية التي جعلت من دمشق بطلا مطلقاً لها، سواء كمكان ومعمار أو كمجتمع وقيم وعادات وتقاليد، لكن عندما نقرأ ما كتبه عن دمشق طويلا، سنكتشف أن خيري الذهبي لم يكن ينتمي لهذا الجيل من أدباء مدينته الذين شاركوه هذه الجغرافيا الإبداعية، وأن شكواه التي بثها في إحدى شهاداته التي ألقاها عام 2004 مشيرا إلى “عدم انسجامه مع جيله الإبداعي”، تجعلنا نطلق عليه لقب: الروائي الدمشقي الشارد.
كان خيري الذهبي شاردا في فضاء لوحده يبحث عن أسئلة مختلفة.. ولا نقول متمرداً، لأن كل الأدب الذي كتب عن دمشق بدءا من قصائد نزار قباني إلى قصص وداد سكاكيني وألفت إدلبي وزكريا تامر وعادل أبوشنب إلى روايات غادة السمان، كان أدبا متمردا بالضرورة، صحيح أن تمرد نزار قباني الشعري والاجتماعي الذي استفز المجتمع الدمشقي في خمسينات القرن العشرين بقصيدته “خبز وحشيش وقمر” بل حتى بعنوان ديوانه الأول “طفولة نهد” لا يشبه تمرد وداد سكاكيني المحدود والمتصالح، أو تمرد ألفة الإدلبي الميلودرامي المسكون بمشاعر الشفقة، أو تمرد غادة السمان الاحتجاجي الوجودي، ولا ذلك الحفر العميق لزكريا تامر في طبقات المجتمع وظواهره وطباعه المجردة أسلوبياً في “دمشق الحرائق”.. لكن كل هذا الأدب بالمجمل، بما في ذلك الذي كان يتغنى بدمشق ويصفها بالقول “دمشق في الصيف كالأنثى المعطرة تعرق بين ذراعي رجل” كما قالت كوليت خوري في روايتها “ومرّ صيف”، هو أدب متمرد صرف، مهما ذاب في عشق المدينة وتغنى بجمالياتها والمعتد بالانتماء لها.
إذن لم تكن سمة تفرد خيري الذهبي هي التمرد، فهذا أمر مفروغ منه في كل أدب كتب عن دمشق أو انطلاقا من بيئتها… لكن سمة خيري الذهبي هي السعي نحو فضاء آخر في رؤية المدينة، وفي التعامل معها كقضية جمالية وإبداعية واجتماعية، في محاولة صياغة التحولات التاريخية من منظار وعي جديد.
دراما من رحم التحولات
ربما لو أمكن لنا أن نطلق على خيري الذهبي لقبا آخر يلخص فرادة تجربته لقلنا إنه “روائي التحولات”، ليس لأنه أنجز ثلاثية روائية عنوانها “التحولات”، بل لأنه في كل ما كتب عن دمشق من أعمال، كان يسعى لصياغة الدراما الدمشقية الخاصة من رحم التحولات التي تصنعها اللحظات الفارقة في منعطفات الزمن، نهاية حقبة وبداية أخرى، نهاية عهد وولادة آخر.. تلك اللحظات المفصلية التي تحدث تبدلات عميقة في بنية المجتمع، وصراعاً جوهريا في مسار الشخصيات الروائية، وانعطافات حادة في مسارات الأحداث.. فتنتج كوارث كبرى أو تغيرات كبرى.
بهذا المعنى لم ير خيري الذهبي دمشق متحفاً، ولا بيتا مسكونا بتقاليد صارمة، تنتج معايير الرفض أو القبول، وصور الثناء والعيب الاجتماعي، بل جعل منها بكل ثقلها التاريخي، وتراكماتها الحضارية، وتشابكاتها الاجتماعية، مختبرا للتحولات. تحولات تصنع زمنا من حطام زمن آخر، فتحل التراجيديا الحاسمة بدل الميلودراما التصالحية، وتسمو الشخصيات النبيلة لتكون على طراز “صياح المسدي” و”حسيبة” و”خالدية” و”فياض”، بدل الشخصيات المكسورة مهيضة الجناح والمثيرة للشفقة في ميلودرامات دمشقية طالما خالطت روايات شهيرة.
من هذا المنطلق كان خيري الذهبي في حاجة للعودة إلى التاريخ، وفي حاجة إلى أن يعود إلى حقب وفترات تاريخية مختلفة، لم يكن هدفه التوثيق، ولا كتابة الرواية التاريخية، بل كان الهدف رؤية وجوه دمشق المختلفة تحت موشور التحولات، وفي خضم رياحها العاصفة. فصنع من ذلك دراما مثالية عن دمشق. وأعطى للمدينة هوية روائية هي مزيج من الاستقرار الذي قد يستغرق في الركود، والقلق الذي قد يركب الريح. وبهذا المعنى كانت صورة دمشق لدى خيري الذهبي مختلفة عن صورتها في آدب مجايليه من أبناء مدينته وعشاقها.
ملكوت البسطاء:
قلق العيش وتحولات السياسة
لو عدنا مثلا إلى روايته الأولى “ملكوت البسطاء” التي صدرت عام 1976، وأعاد كتابتها ليقدمها في خماسية تلفزيونية أنتجها التلفزيون السوري وأخرجها سليم صبري، نجد أن خيري الذهبي قد جعل أحداث روايته في منطقة المزة في مطلع القرن العشرين أثناء حرب السفر برلك (الحرب العالمية الأولى). حينذاك كانت المزة قرية شامية ملتصقة بدمشق، وكان خيري الذهبي يحاول أن يقرأ كيف ستخرج هذه القرية الشامية من رحم عاشت فيه لقرون، لتستقبل عصرا جديدا، وقيما مختلفة. لم يكن معنيا بالجغرافيا، ولا بالبساتين المحيطة بالبيوت، بل كان معنيا بالعلاقات الاجتماعية، وبالمفاهيم التي تجعل من التحالف مع الإنجليز الكفار ضد المسلمين الأتراك أمراً مقلقا للبسطاء، الذين يطحنهم الفقر.. هذا الفقر الذي يجعل المشمش العجمي في بساتين المزة أمنية لا تدرك إلا بالصدقات، ويجعل أحد أبطال الرواية يقول إزاء الجدل السياسي المحتدم “ما لنا نحن والسياسة. نحن فقراء. دع السياسة للأغنياء فلديهم الوقت الكافي للتفكير في السياسة أما نحن فسياستنا لقمة العيش التي يجب أن نؤمنها لأولادنا؟”.
حسيبة:
تحولات الدكنجية والتجار
وإذا كانت رواية “المدينة الأخرى” التي كتبها خيري الذهبي عام 1982، وأصدرتها وزارة الثقافة بدمشق عام 1985، هي رؤية معاصرة لتحولات المستقبل السوري في ظل الفساد، أي الفساد الذي سيحول دون أن تكون هناك مدينة أخرى يصنع السوري فيها مستقبلا يستحق أن يعاش، فإنها أقرب ما تكون إلى تيمة المدينة الفاضلة الفلسفية رأى من خلالها كيف ستغدو الأحلام السورية كوابيس مسقبلية.. فإننا في سياق بحثنا عن صورة دمشق بامتداداتها التاريخية، وتحولاتها التي تحفر مسارات وانعطافات جديدة، لا بد أن نتوقف عند روايته “حسيبة” الجزء الأول من ثلاثية “التحولات” التي كان صدورها عام 1988 ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، أشبه بإشراقة أمل جديد في الرواية السورية التي اتخذت من دمشق موضوعا ومناخاً، والتي بدت وكأنها كانت تدور في دائرة مغلقة.
في “حسيبة” لم تكن قصة صياح المسدي وحسيبة وخالدية وفياض الشيزري، سوى خطوط تسلك عليها الأحداث وتعلق الحكايا، وتزخرف على جدرانها جماليات البيت الدمشقي الذي تنسج في فضاءاته علاقات الألفة القدرية بين المعمار والأشجار والبشر فتزيد الحكاية ثراء وواقعية وشاعرية وسحراً، أما الهدف فهو تقديم تفسير لتحولات دمشق التاريخية، كنموذج اتخذه خيري الذهبي مفتاحاً لاستقراء هوية بلاد الشام، وفهم طبيعتها وتناقضاتها. قدم الذهبي نظرية حاول من خلالها، وقد اكتنز خياله الثر وقائع التاريخ وصور صراعاته، أن يفسر مزاج الناس، وحركة المجتمع والتاريخ والحضارة، وفلسفة الاستقرار والركود في مدن الواحات، فذهب إلى القول “أولئك الذين قذفت بهم يوما فيافي الصحراء العربية، وغابات أوروبا الإغريقية، وصحارى آسيا التترية، أولئك الذين طالت بهم الرحلة فارتاحوا قليلا في تلك الواحات المنسية في صحارى الشرق الأوسط، أولئك الذين حلموا يوما بامتلاك العالم وتغيير رائحته وطعومه، ولكنهم كسلوا على الطريق، فارتاحوا في واحات صغيرة محاطة بسوار أخضر، ما يلبث أن تغطي على خضرته حمرة البوادي القاسية والصحارى والجفاف والنسيان والعطش الدائم الدائب الآبد، أحفاد أولئك الذين طردهم جفاف اليمن بعد إخفاق مغامراتهم الكبرى في التغلب على حموضة الصحراء المهاجمة، فتفرّقوا أيدي سبأ، واجتازوا الصحارى تحملهم جمالهم المتعبة ونياقهم العطشى، وخيولهم الغرثى، حتى لقوا واحة مسكينة يلفها سوار أخضر، فرأوا فيها الجنة المنتظرة، وقالوا: سنرتاح قليلاً حتى المحطة القادمة، تلك المحطة التي لن يصلوها فيما بعد أبداً، لأن الكسل والملل والانتظار، ما لبث أن سكن دماءهم الفاترة وتعطشهم الآبد إلى المحطة القادمة” (ص 19).
وأكمل خيري الذهبي نظريته المثيرة للتأمل، فميز في تلك الواحة بين التاجر المغامر وبين الدكنجي الحذِر المُتقتّر “الدكنجي ليس تاجراً. التاجر مغامر يقطع الصحارى والبوادي، يشق المحيطات ويخترق الغابات، يحمل الأخبار والتجارب وخيرات العالم، ولكن حمدان دكنجي، صياح على حق، حمدان دكنجي يفرح بالليرة والليرتين ربحاً” (ص 100).
ارتبط ذكر الدكنجي مرارا في رواية “حسيبة” بالحفرة، حفرة الدكنجي، سجن الدكنجي. وكان يرى أن الدكنجي مقتّر في كل شيء يفرح برنين الفرنك على الفرنك الذي يجمع الليرة. أرباحه صغيرة وأحزانه صغيرة وخسائره صغيرة.. ورأى أن تحول التاجر إلى دكنجي، هو ما يجعل الاستقرار ركوداً، ومدن الواحات سجناً. وأن التحاق صياح المسدي بالثورة وبكل الثورات التي اندلعت منذ حروب العثمانيين الأخيرة وحتى معارك ثوار الغوطة ضد الفرنسيين، هي ليست حبا بالثورة من أجل الثورة، بل من أجل الخروج من “قفص الواحة” بعد أن ذاق لذة الطيران.
هكذا تبدو دمشق في “حسيبة” الجنة الواحة، التي يحاول الثائر أن يهجرها كيف يقع في حفرة الدكنجي، وهكذا يبدو تحول الدكنجي الصغير الحذر المقتر، إلى تاجر مغامر جسور حامل تجارب وأخبار، هو المعنى الحقيقي لدمشق كما بحث عنها خيري الذهبي في ثلاثية التحولات.
الإصبع السادسة:
دمشق العثمانية وتحولات “الفاسق المصري”
تواجه دمشق في رواية “الإصبع السادسة” التي نشرها خيري الذهبي عام 2012 لحظة تحول فارقة، مع حملة إبراهيم باشا على سوريا في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1831) حاملا معه مؤثرات الحملة الفرنسية على مصر وساعياً لنقلها إلى بيئة حكم جديدة ليسهم في تأسيس عهد جديد. وتتداخل هنا أجواء الفترة التاريخية مع سحر الأسطورة ومؤثرات الحكاية الشعبية لترسم صورة بالغة الثراء لدمشق وهي تنبض في ثنايا السرد الروائي وفي توهج أحلام الشخصيات وخفوتها واستسلامها؛ دمشق التي أسبغ عليها العثمانيون صفة القداسة (شام شريف) والتي يحاول المتشددون دينيا الذي كان يسمون إبراهيم باشا على منابر المساجد “الفاسق الأرناؤوطي” تارة و”الفاسق المصري الذي يهاجم المدن الآمنة” تارة أخرى، حاولوا أن يقاوموا رياح التغيير التي تهب على منطقة حبلى بالإرهاصات والتطلعات، وأن يمنعوا عنها سبل التنوير من مسرح وموسيقى وصحف وجرائد وأفكار. ينحاز خيري الذهبي إلى دمشق التواقة للتغيير، في مواجهة دمشق العثمانية المطمئنة للرابطة الإسلامية والتي ما تلبث أن تعود إلى الحضن العثماني بعد هزيمة إبراهيم باشا في سوريا، وطرده من بلاد الشام عام 1840. إنه يضعنا في قلب مجتمع تتنازعه تيارات شتى، ويقف على مفترق طريق، فيجعل من أخبار القحط والمجاعة والغلاء والولادات العجيبة والمولود الذي ذهب الشيخ لرؤيته في حمورية بغوطة دمشق بعد أن سمع أنه ليس ذكرا وليس أنثى… يجعل من هذا كله صورة رمزية لالتباس المفاهيم والمعتقدات، النتاج عن التباس الهوية. فهل هوية دمشق في ذلك العصر عثمانية، أم يمكن أن تكون تحت الحكم المصري أقرب إلى عصر آخر قادم، وهويات اخرى تتشكل؟
أسئلة لا تجيب عليها الرواية وإن كانت تنتصر لكل ما يفتح باباً للتنوير، ولكل ما يسهم في تعميق تلك اللحظة الفارقة من التحولات التاريخية القلقة.
الجنة المفقودة:
تحولات الحرية الهاربة
بعيداً عن الغوص في التاريخ، وقريبا من كتابة سيرة ذاتية انتقائية هو بطلها، يقدم لنا خيري الذهبي في روايته المفعمة بالعذوبة “الجنة المفقودة” والصادرة عن دار الفكر عام 2021، رصدا لتحولات دمشق في القرن العشرين، وصولا إلى ما بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011.. التحول الأساسي نراه في شخصية البطل الروائي الطفل المتمرد على سلطة شيخ الكتاب، والتواق إلى معرفة من نوع جديد… وفي التوق إلى الحرية الذي تخلقه المعرفة.. تلك الحرية التي يبدع خيري الذهبي معادلا رمزياً ساحرا لها وهي تتسرب من بين أيدينا كلما ظننا أننا سننعم بها في هذه المدينة، عبر صورة الغزال الهارب من حديقة إحدى بيوت حي الحلبوني قبل أن يأسره الناس، والذي يصفه وهو يركض في الشوارع بالقول “كان من آخر لمحات جمال الشام الذي اختفى مرة وإلى الأبد. كانت مشاهدته وهو يعدو في شوارع الشام من أواخر المرات التي شاهدت فيها الحرية تركض بكامل أناقتها وجمالها في شوارع مدينتي، عاصمة بلادي” (ص 134).
أما ذلك الطفل الذي يهرب من عقاب الشيخ بهجت له في الصفحات الأخيرة من الرواية، فيقطع حواري وأسواق دمشق راكضا مثل غزالها الحر، ومتجها إلى الجامع الأموي ليرى دمشق من أعلى مئذنة العروس.. فإنه في لحظة تحول يعبر الأزمنة ليروي مأساة جيل عاشق لدمشق وشعب مشرد دونها، بعد أن هجّر نظام القتل والإجرام في دمشق الملايين من السوريين وبينهم الكثير من الدمشقيين. وما بين عقاب واستبداد الشيخ بهجت، واستبداد نظام اقتلع شعبا نادى بالحرية من أرضه… يبدو التحول فادحا حين يتدفق خيري الذهبي بمونولوج تراجيدي طافح باللوعة والحيرة والقسوة
“لم أكن أعلم أن من بنوا الجنة ستتمرغ أنوفهم في تراب بلادهم وسيرحلون بعيدا جدا، لم أكن أعلم أن أهل الشام سيلقون بجمر حبهم في بحيرات حزنهم ويسكتون، لم أكن أعلم أن الشام أمّ الجمال، وجنة الله على الأرض، ستغدو صحراء للقلوب، بعد أن كانت كعبة للعشاق ولذوي القلوب الكسيرة، لم أكن أعلم أن الفسيفساء الخضراء أمامي سيأتي يوم عليها وتتحول إلى اللون الأحمر القاني، وسيقطر الدم تحت نسر الأموي الجاثم أبدا هاهنا.. لم أكن أعلم شيئاً ولم أكن أفقه شيئاً” (ص 247).
بلاد الشام.. الهوية والأزمات التاريخية
لم يكن خيري الذهبي في كل ما أنتجه عن دمشق مولعاً بسرد تاريخ المدينة وحكايا تراثها وإعادة إنتاج مرويات أهلها، لم يكن مولعاً بالتغني بجماليات بيوتها وأزقتها وحواريها وأسواقها، وإن فعل ذلك أخيراً تحت وطأة الحنين الذي فجره التهجير القسري في روايته “الجنة المفقودة” التي كتبها في دبي بعد اندلاع الثورة السورية بسنوات. كان خيري الذهبي يرى في دمشق مفتاحاُ للولوج في أعماق التاريخ واستنطاقه.. وكان استغراقه في استحضار الأجواء التاريخية كإطار لرواياته الدمشقية، محاولة ملحة لفهم هوية المنطقة وأزماتها التاريخية في آن. فقد بحث عميقاً عن التحولات التي تختمر في مختبر دمشق كي يفهم سر المدينة ومأساتها، كي يتلمس هوية مدن الواحات، وبلاد طريق القوافل، والتجار المغامرين حاملي الأخبار والتجارب والمعارف، كان في كل ذلك يحاول أن يبحث عن مواصفات البيئة الاجتماعية التي تنتج أصحاب المصالح، وتنتج الثائرين عليها وعلى الاستقرار الذي يكبّل المغامرات الكبرى ويخدّرها.. كي يحدثنا بالتالي عن مواصفات البيئة التي يتشكل أو يهنأ فيها الاستبداد، سواء أكان مملوكيا أو عثمانيا أو بعثياً. كان خيري الذهبي مفكرا شاميا بامتياز، معنيا بتشريح هوية بلاد الشام وامتداداتها، وكان يتخذ من الرواية وسيلة لصياغة نظرياته الاجتماعية، ولتأصيل تحولاتها في تربة الرواية.. ولهذا كانت رواياته عن دمشق مشغولة بقضايا وأسئلة أخرى في الجوهر، وإن تشابهت مع الأدب الدمشقي في المعمار الظاهري، وسلكت نفس الدروب، وسكنت نفس البيوت، واستظلت بذات الأفياء والظلال، وتبللت بنوافير “أرض الديار”.