الرواية تخيل ورهانات
الخيال الروائي، هو القدرة على استحضار صور الحسي، غير مكتمل، دون أن يتهم بالنقص، لسبب عميق في التجربة الروائية، وهو أنه كخيال يمتح من ذاكرة تمثلية، وليست حسية، ذلك لأنه بإضافاته، يقصد إضافات معان جديدة لما يستحضره، فكل نقص لا يحدث إلا بإضافات جديدة، لكنها ليست معوضة، لما لا تستطيع الحواس إدراكه كما يعتقد الصوفي، لأن العقل يتعين بصورة الحسي، دون مادته، مما يجعله يدرك حدوده، وبذلك ينبعث حدس المتصوف ليتمم الصورة، التي تغدو رؤية مفارقة لما اعتاده العقل، المحاصر باللغة، ليس من حيث اعتبارها قواعد، أو صور لحسي رائج، استمرأته الأذهان واستكانت له، إن الروائي، يعتمد الخيال المبدع وليس المكرر، فهو يختلف عن الإدراك، والتذكر، بحيث تغدو الصور تجميعا لعالم افتراضي، مختلف عن عالم الوجود في تجربة الصوفي، لأن غايته، ليست استكشاف اللامحدود، وإنما تمديد المحدود، ليدرك فنيا كممكن وجود يفاجئ بغرائبيته حتى الروائي نفسه، فلا يرى فيه ما أراده تاما، ولهذه الأسباب يكتسب قابلية التأويل اللانهائي، وهنا سر خلود الأعمال الإبداعية، التي تظل غير قابلة للتجاوز إلا بعد اتساع الذاكرة التمثلية لآليات فعاليتها نقديا، وهذه الذاكرة نفسها ليست إلا تاريخا للفن الروائي، الذي لن يكون إلا تاريخا لفنيات الإبداع الروائي الأدبي، في تنوعاته واختلافاته التي تتسع للكثير من التجارب في الصياغات والصور والقضايا المستجدة في عالم الإنسان.
إن هذه الخيالات، بشكلها هذا، تجعل من الروائي عدوا للفيلسوف، وقد أدرك هيجل هذه الحقيقة مبكرا، في رفضه للرواية، فهي تخرق ككتابة فنية منطق التاريخ الذي دافع عنه كتجسيد للفكر المطلق وقانونه المتحكم في الطبيعة والروح، أي الإنسان والتاريخ، وهنا يظهر أن الرواية بمخيالها المبتكر، ليست مجرد متعة لغوية حكائية، بل إعادة لممكن في التاريخ وملاحقة مستمرة له، في لاعقلانيته المبتورة من سياق الحضارات الإنسانية، التي يريد التفكير العقلاني النظر إليها كسياقات متراتبة ومنتظمة، بها يجسد العقل سيطرته على المتحول، ليغدو سيرورة متحكم فيها، وحده الروائي القادر على خرق نظم الوجود، بإيحاءاته التي وفقا لها يسكّ لغة، تبدو في جماليتها شعرية، لكنها في حقيقة أمرها هي تختفي خلف اللغة الشعرية، ومجازات تحاصر المعاني بتحررها من قواعد المنطوق، لتقول ما تتمثله وكأنه مجرد انسياب هادر، تجاه واقع، يقع في غير الملموس، المتحايل عليه بغموض، هو أقوى مما تختزنه الذاكرة والتاريخ، إنه الخيال المتملص من رسم الصور التي تتموّج في غفلة مقصودة روائيا ومتحكما في بعضها دون كلها، كأنها سخرية من النقد الملاحق لمتونها ومنعرجاتها الممتدة بامتداد لا حصر له، في التجارب والأقوال، هنا فقط تكون الرواية متمردة على نفسها، حتى لا تكون مجرد رصد لليومي في ثباته وتحوله، إنها ملاحقة غريبة للمعنى، وكل رواية تفهم، هذا دليل على نهايتها، وانصرافها عن فنيتها، الزاخرة بالفراغات، التي تبدو للروائي، حمولات لا يتسع الفكر النقدي لها، وإن حصل فقدت قدرتها على الاستمرار، مهما نوعت من أشكال الصيغ والتقطيعات الزمنية، والتنكرات للأمكنة والشخوص، إنها في آخر المطاف شخص واحد يسعى للتعدد، كما يسعى المتصوف للتوحد بماهية، تسكنه ويسعى لأن يسكنها، لحظة أو لحظات قبل موته الفيزيقي، ليست الرواية استحضار للماضي، ولا استشرافا للآتي، ولا حلما ولا وهما، ولا شعرا، ولا نثرا ولا حكاية، فما عساها تكون؟
باختصار هي ليست قولا، هي فعل القول نفسه، بما هو انفتاح عن معاش مفتقد، حاضر بغيابه، ينشد خلق فكرة هلامية، لا تحدد ملامحها مسبقا ولا بعديا، إنها المنفلت، من كل شيء، وهي لا تتحقق بغيرها، فهي كل غير منسجم، تترتب قضاياها وفق زمن قراءتها وليس كتابتها، أو نقدها، هي فعل قول يشكك في قوله، أو حقيقة تناهض كونها حقيقة، بالسعي لتكذيب نفسها، وعدم البوح بكونها خطأ فظيعا، لكنه أجمل الأخطاء، وأكثرها قدرة على نبش المضمر في الذوات، فيعتقد كل قارئ، أنها كتبت له وحده، ويزعم الناقد أنه أمسك بخيوطها، وشخوصها من خلال تفكيك حبكتها، وتعيين ما تحيل عليه في التاريخ أو الواقع، ومن أين تمتح أدبيا، ليري لغيره سر جاذبيتها ومتعتها الخفية، لكنه في الحقيقة، يطابق بين خياله وخيال الروائي، ويحاول البرهنة على ذلك، بإعادة تنظيم الأحداث، لتفهم في سياق منهجه النقدي، لكن الرواية الحقيقية، سرعان ما تنفك حبال ترابطاتها، في زمن آخر، ويكتشف قارئ آخر أو ناقد، أنها قصدت ما نسي فيما قيل حولها، هنا فقط تصير الكتابة رواية، لأن رموز التحليل فيها متغيرة بتغير دلالات الرموز نفسها التي اعتمدتها، فهي ليست خيالات جماعية، عدلت فرديا من طرف الروائي، إنها بما هي عليه، لا تحديد، انفلات من الممكن، صورة كان أو وهما، يخترق الحسي، ويتطاول على المجردات، دون أن يصير مرادفا لها أو ضدا، هي خيالات تتشكل خارج الخيال، لتمسك بالمفارق فيه، حتى إن صار معتادا أنكرته، وتجاهلت حدوده الموضوعة وربما حتى المتخيلة، فهل حكيها حدس جديد؟
الحدوس، ببداهتها لا تروي حكايات، لكنها تدرك عقليا حقائق أو ما يؤدي إليها، والرواية، لطبع فيها تخاف الحقائق دون أن تقاومها، فهي ليست غائية المنشأ، إذ لا ترسم لنفسها هدفا بشكل مسبق، هي شبيهة بالهذيان دون أن تصير وهما، فالروائي يكاد يتنكر سرا لما قاله عندما يفهمه الناس والقراء، إذ يكتشف أنه أراد قول أشياء أخرى غير التي فهمها الناس، أو كان بإمكانه الكتابة بشكل آخر، وإنهاء الرواية على هذا الشكل أو ذاك، مدركا في الأخير أنه بكل أقواله هاته كان يكذب على السامعين.
الرواية من الفنون المكتوبة كتابة إبداعية سردية، لكنها تتجاوب مع الشعر في جمالية التعبير، لكنها تتميز عنه بتناولها لأحداث من خلال شخوص يخوضون صراعات مريرة لفرض وجودهم أو إنصاف غيرهم، تستحضر المجتمعي والتاريخي كصور ومآس تتناول للتأثير الأدبي الانفعالي، هكذا بدأت الرواية ولذلك اعتبرت ابنة المدينة كما يقال، فهي باختصار شخوص وأحداث وزمن ضمني أو مصرح به، لها سلطة الكشف بالنفسي عن الإنساني، أو بالاجتماعي، لكنها قد تسبح خارج التمهيد لتخلق عناصر المفاجأة والإثارة، إن الرواية عالم لا حدود له، تتفاعل عوالمه مع التاريخ والفلسفة وكل ما يوحي بفكرة ما كيفما كان مصدرها، بل إنها امتدت حتى إلى الرواية البوليسية كتجربة تحلق في الحبكة الأمنية وتسعى لاختبار الحس الأمني بما هو خيال يستبق الواقع محاولا التنبؤ والتوقع كأفق جمالي، فهل تخضع الرواية كما الشعر لمنطق التطور المفروض على كل الفنون وأشكال التعبير الأخرى.
الرواية والنقد الأدبي
يحاول النقد الأدبي أن يقوم بدوره، أي تفسير الرواية كعمل فني للكشف عن أبعاده الجمالية في التعبير والصياغة أي أسلوب الحكاية وشخوصها أيضا، وقد وجدت نظريات بمثابة مقاربات لها مبادئها وأسسها كمسلّمات تسعى بها إلى الكشف عن المعاني الخفية والمضمرة التي يعني بها الكاتب ما لا يمكن رصده دلاليا في اللفظ، فاعتبرت الروايات نسقا لا بد من الكشف عن نظامه الداخلي لفهم أبعاده وإيصالها إلى القراء قصد الإحاطة واستكمال المتعة الأدبية بالفهم وتدبر خلفيات النصوص وأبعادها حتى لا تظل مستعصية أو غامضة تؤثر في العواطف بانفلاتها من الوعي، وفي إطار هدا النقد نشبت صراعات بين النظريات الأدبية، اتجاه نفسي شعوري وآخر لاشعوري واتجاهات اجتماعية تستحضر الطبقي وأخرى عزلت الرواية عن كل سياق وهو ما عرف بالبنيوية ثم اللسانيات وانخرطت السيميولوجيا في حمأة المواجهات، وصار لك توجه نقدي روائيوه من يكتبون لما ينسجم مع مسلّماتهم النقدية التي تمتح من نظريات محددة ليسعفها التعبير وأدوات العمل المتاحة والممكنة في النقد والتقصي، ونشبت المعارك بين الروائيين أنفسهم لأنهم انجروا إلى معارك النقد الأدبي وبدأوا في التعليق على بعضهم بل في التحامل من منطلق الجدة والإبداعية التي يطالب بها النقاد وهم يمارسون نقدهم كفتوحات مبجلة تكتشف الأسرار وتغوص في الخفي والمستور والمحرم، من هنا ظهرت التصنيفات بناء على فكرة التقدم التي أبدعها هيجل في فلسفة التاريخ وطبقها على الطبيعة والفن، فهلل لها الفكر وتبناها في مختلف مجالات الإبداع والتفكير بل حتى في السياسة والعلم، وهكذا ظهرت تصنيفات الكلاسيكية والرومانسية والمدارس الجديدة في الإبداع الروائي كما هي الحالة في مختلف مجالات التفكير والتدبير، فشعر الروائي أن عليه أن ينتمي لعصره بمحددات النقد أي الزمن الكوني في دورته التي تلزم الكل بالخضوع لها إن أراد أن يكون مقروءا ومنتقدا من طرف النقاد، وكأن التاريخ امتداد قسري لا دور فيه للبشر والمجتمعات والصيرورات، فتحولت دينامية المجتمع إلى حركية أحادية تمضي في اتجاه واحد أطلقت عليه تسميات كثيرة من قبيل الحداثة والعقلانية والأدب الجديد دون تحديد الإضافات والمستجدات التي تعرفها الرواية الجديدة، وهل حقا يمكن اعتبار تكسير الزمن فعلا جديدا يستحق كل هدا التركيز أم أن هدا الفعل ليس إلا استجابة لما فرضته وتيرة التحول التي استشعرها الغرب قبل غيره من المجتمعات لأنه باختصار عاشها وعايشها سياسيا واجتماعيا وثقافيا وهذا هو المهم؟
الرواية والواقع العربي
من المهم الانتباه كما ذهب إلى ذلك النقد الأدبي أن الرواية ليست وليدة المجتمعات العربية، لكن أليس للرواية أينما حلت وتيرة تطورها الخاصة؟ ألا تتفاعل المجتمعات مع بعضها أدبيا فتهضم ما تتلقاه وتعبّر به عن قضاياها الخاصة حتى عندما لا تكون هي من أنتج هذا الفن أو ذاك، ما العيب في الفعل الإبداعي إن أضاف ما يناسب واقعه ويخدمه فنيا وجماليا؟ إن البحث في الأصل متاهة تاريخية لا يمكن الخروج منها، الروائي العربي عليه ألاّ يخضع إلا لضرورات إبداعه الخاص بعيدا عن الخضوع والامتثال للنماذج التي نوه بها النقد واعتبرها إبداعا خارقا على الكل أن يسعى لتمثله والتعبير بطرقه لأنها نالت إعجاب الآخرين وعلينا أن نعجب بها نحن أيضا، صحيح أن الآداب تسعى لتحقيق الكونية وعدم الانغلاق على الذات، لكن لمادا نفرض نحن الانغلاق على فكر الآخرين بحجة الانفتاح على ما هو إنساني، ثم علينا ألاّ ننسى أن أوروبا الممثل الوحيد للإنسانية، فأين الأدب الصيني والهندي والكوري والأميركي اللاتيني بل والأفريقي رغم شفويته فهو قابل لإعادة الكتابة، بهذا الشكل يتم تكسير الحلقية التي تريد اختزال كل شيء في أوروبا وكأنها لا تجيد التحدث إلا بلغتها اللاتينية ومختلف اللغات المنبثقة عنها.
إن الجديد لا يبرز بتمثل ما استجد في ثقافة الآخرين بل بالعمل على الإنصات لما يختلج داخل الذات أولا لنفهمها ولا نقطع عنها تأملها الخاص والقادر على التجاوب مع العصر دون إكراه أو محاولة التماهي لنصير آخرين نفتخر بقدرتنا الروائية.
لا أستطيع التنكر لواقع الرواية عربيا وأحيانا حتى عالميا، فهي عاشت تجارب شتّى وحاولت خلق تموجات، سميت بالرواية الجديدة، وما تزال التجارب تتناسل لخلق نماذج أصيلة في جدتها دون أن تصير غير روائية، كالأساطير مثلا، أو الحكايات الشعبية.
إن التفكير في الشكل الروائي يخلق محنة للروائي وليس الناقد، فالنقد له القدرة على انتظار ما يرضيه من الإنتاجات الروائية، بينما الروائيون لا يطيقون الانتظار طويلا، فعليهم أن يكتبوا، ليس بالمعنى الحرفي كأنهم يمارسون مهنة، بل لأن القراء في انتظارهم يحتاجون للروايات لتقول بهم ولهم أشياء، رفضوا أن يقرأوها فكرا وربما حتى شعرا وسياسة، لكن فيهم من يملّون التكرار بسرعة، فما أن تتشابه عندهم بعض الأحداث أو الروايات بأحداثها حتى يلقوا بها بعيدا غاضبين من عالمها لأنه تكرر أو تشابه، وهذا النوع من القراء يتكاثر ويصعب إرضاؤه بالتكرار أو التشابه، إنه حذر ويقظ لدرجة مخيفة، لكنه في أحيان كثيرة، ينصاع لدوافع غير أدبية ولا فنية، فيقبل بعالم سبق أن سمع عنه أو قرأ بعض تفاصيله، ربما رحمة أو تعاطفا مع الروائيين الذين تشدهم التجربة الروائية فينخرطون فيها بحثا عن مفتقد أو تقليدا لمعشوق حكائي أدبي، والجديد له إغراءاته مهما كان ملتبسا كما الغريب، واللحظة التي يعيشها العالم بسرعته تفرض مسايرة حركته حفظا للوجود، كيفما كان هذا الوجود، فنا أو أدبا أو فكرا، فماذا فعل الروائيون لاستمرار الرواية وحفظ هيبتها ووجودها؟
الأسرار
نشطت العودة إلى الماضي باعتباره مصدرا لأسرار لم تقل، أو كتبت وطمست آثارها وما يدل عليها، فصار الروائي فاضحا لما تجاهله المؤرخ أو تفادى الخوض فيه، وهنا ظهرت الوثيقة المكتشفة صدفة أو التي حفظت ليتسلمها الروائي ممن ليست لهم القدرة على إعلانها، فيستخدمها الروائي دون طرحها كلية، بل يوزع أسرارها ويبددها في روايته ويترك للقارئ مهمة تجميعها لتكتمل لديه الصورة عن حدث أو شخص، مات أو قتل أو اختفى في ظروف غامضة فنسي، وهنا تنال الرواية اهتمام، ليس الباحثين عن السر فقط، بل حتى المخفين لما يعتقدون أنه سر جدير بالكشف عنه أو دفنه حتى يتحول مع الزمن إلى ما يشبه التراث والموروث الاجتماعي أو الحضاري وأحيانا حتى الشخصي، ولأن العصر عصر تعرية ظهرت الكثير من الحقائق وسقطت أخرى بظهور وثائق حول وقائع تاريخية، تبين أنها زوّرت أو محيت، لكن أثر الكتابة السابقة بقي عالقا بها، فتم استنطاقه، ليكشف الكذب بنفسه عن احتوائه لنقيضه مع تطور العلوم والأضواء الكاشفة، والقدرة على قراءة اللغات العتيقة، والتي انقرضت فاعتقد أنها ماتت وحملت معها أسرارها إلى الأبد، فالعودة إلى التاريخ لم تكن محكومة به، بل بما ظهر فيه من أسرار اعتقد أنها حافز عميق على تجديد آليات الكتابة الروائية حتى لا تختنق، ويعود الناس للحكي العتيق، سواء اتخذ شكلا شخصيا، أو ما يشبه الهلوسات الجماعية الخرافية، فالإنسان حكائي بطبعه، ولا يمكنه انتظار فتوحات جديدة في الحكي ليستأنف قراءاته، إن هذا السر ليس مشابها لأسرار الجريمة في الرواية البوليسية، بل يختلف عنها باعتباره تاريخا غير مكتمل، ولا يمكن اعتباره تصوّرات تخيلية ولا حقائق زائفة، بل هو بروائيته وقائع مخوف منها ومتجنب الخوض فيها، ولكنها أحيانا تلعب دور المستعاد تاريخا لنقد واقع حالي شبيه بما مضى، سواء كان حربيا أو مواجهات ثقافية أو معارك دينية اتخذت شكل اتجاهات ومذاهب وعقائد.
المشاهير
أخذ الروائي يباهي بصداقاته، سواء كانت حقيقية أو افتراضية، فالأسماء العالمية تجلب الانتباه وربما تفسح مجال الترجمة للتعريف بمن اعتقد أنهم نسوا، فإذا بهم يحيون حياة ثانية بمجتمعات مختلفة، لكأنه استشراق مضاد، أي البحث عن آخرين للكشف عن جوانب خفية أو مغيبة في حياتهم أو فنونهم وأفكارهم، إنهم المغايرون الذين بهم الغير تنبه إلينا، ليدرك أننا معه فيما خفي عنه، كما كان معنا وهو يكشف عما خفي عنا في تراثنا، وديننا وتاريخنا، إننا نقلب أدبيا وروائيا الأدوار والصور، لنقول شيئا، لنتشارك أو نتقاسم حبنا معه لمن ظن أنهم له، فنا وأدبا وتاريخا، وبذلك احتفينا حتى بالمدن التي سكنها أو مر منها هؤلاء العظام، وطعموا منها واستمتعوا بها متعهم، ولم ينسوها، بل بها كشفوا خفايانا وسر خيالاتنا كأنهم يعودون بنا إلى ما كنّاه في ألف ليلة وليلة، هم يحيّنون بنا ماض لم يصدقوه، ونحن نذكرهم بتاريخ اعتبروه تاريخهم وحدهم، هي لعبة الأقنعة التي تمارسها الرواية وهي تحاول البحث عن جدة، بها تنعش شكلها وفنيتها وتحررها من عودة حكايات الأساطير وأفلام المستقبل الممكن، أو الوجود المنتظر في الخيالات العلمية، هي استباقات لا يمكن التنكر لضرورتها وأهميتها في الوقت نفسه، وهي اختيار للروائي مضاد لما عرف بالسيرة الذاتية، وقد أطلق عليه السيرة الغيرية، سيرة الغير، ينوب عنه الروائي بعد موته أو اختفائه، ولا نعرف، ترى لو كان ما يزال حيا، هل يقبل بهذه السيرة؟
ربما المقصود ليس هو، بل شبيهه فنا أو فكرا أو أدبا، وبوضوح هو الروائي نفسه، فإن كانت السيرة الغيرية تستحضر شاعرا، فالكاتب يمارس بها ندمه على عدم انصياعه للقصيدة التي جعلت من شبيهه بها وجها عالميا، بينما بقي هو قابعا في هويته لاهثا خلف اختياره، وربما مارس حواره مع تشكيلي، غدت خطوطه الملونة موضوع دراسة للكثير من المفكرين والمحللين النفسانيين ودارسي الدلالات، إن الروائي بهذا الانزياح يهرب من ذاته، يرممها أو يعيد صياغتها بسيرة غيرية، يطمح من خلالها أن ينصفه الأغيار لأنه شدهم لمن منهم كان تعبيرا عن ماهيتهم العالمية، فأعاد بعثها من جديد لتزداد بريقا ويزداد هو بها لمعانا، فتنتبه له الأقلام التي بدأت أو هي على وشك البداية.
الملتبسات
هي روايات تحترف باللغة غموضا شبيها بطلاسم، فالشخوص لا تعثر لهم على منحى واضح، بحيث لا تتوقع فهم أفكارهم المعبرة عن سلوكاتهم، وهي موجهة بميولات اللاعقل التي تبدأ بتبني فكرة الجنون والذهاب بها إلى درجة خلق ما يشبه ماريستانات الحكي، أو الهلوسات الجماعية، تلك التي يمارس بها المجانين العيش في عالمهم المتخيل، وفق قواعد لم يرسم حدودها الروائي أدبيا، بل تركها تمضي بلغة مفككة وغير مقنعة أدبيا، لكنها فاعلة، فهي تدفع بالقارئ إلى البحث عن المعاني الخفية، ليقوّل القائلين ما ليس ممكنا وفق قواعد الحكي الروائي، لدرجة أنه يعتقد أن الروائي يجرّب جنونه الشخصي بما عرف عن الجنون، أو أنه هو نفسه على عتبة الجنون قبل أن يمزق كتاباته ويخرج من نصه صارخا معافى، إنها كتابة قلقة بقلق روائي، لا يمكن اعتباره تجربة أو تجريبا، بل هو أقرب إلى المغامرة بما يمكن أن يفهم بسوء فهم تاريخي، أو يقرأ بشكل مغاير للنقد أو يثير اهتمامه بتلك الالتباسات التي قد لا تغري القراء، لكنهم إن سمعوا عنها بالنقد، حتما سوف يعودون إليها باحثين عما غلبهم وهم يبحثون عن الخفي في المعاني، هي لعبة مسلية بلغة تستحضر كل غموض تعبيري لتؤثث به عالمها، أو ما يبدو أنه كذلك.
الحفريات
هي ما يشبه لعبة الوثيقة الكاشفة، تلك التي بها يداعب الروائي التاريخ ليدفعه للبوح بما علق في ذاكرة الناس، تلك المنسيات جهلا أو تجاهلا، وربما محوا، لكن هذه المرة الوثيقة أو الأرشيف صار تحفة أو كنزا ادّعي أن حراسه من عفاريت الجن، ممن نذروا أنفسهم له، فحدث أن ضاعت منهم صنيعة وعثر عليها بطل ليجعل منها مدخلا لاكتشاف مدينة سرية، بها ممر يقود إلى البحر، لا أحد عرفه من القدامى إلا قلة، قتلت أو ألقي بها ليلا في البحر ليموت معها سر الممر، هي محاولة لتنويع المتعة وتقريب القارئ من عالمين مختلفين ومتناقضين، حفري علمي، وأسطوري سحري، وهي أسلوب به يثبت الروائي تداخل عالمين، لا فكاك منهما، وكأنه يكتشف صعوبة عزل العوالم عن بعضها، فيه يأس من القادم والذي انقضى، لكأن الخيالات كبلت بعلوم تسمو بالحقيقة لا لتعلنها، بل لتزيفها وتحيطها بما يشبه الخوف من أسرار القدامى، فهم منتقمون ممن يخون خفاياهم حتى لو كان عالما أو باحثا عن الحقيقة، بل إن الروائي يسائل هذه الحقيقة نفسها، إما لينتهي بها إلى ما زعمه الحفارون أو ما أخفاه السحرة، وهم يحملون ما عثروا عليه واختفوا في جنح الليل، ولا أحد عرف ماذا وجدوا، فقط صندوق أو حلقة أذن أو أساور من نحاس، اختفت وما تزال آثارها مرتسمة على تربة الحفر، تظهر نهارا وتختفي ليلا.
محكيات التمرد العنيف
عائدون وعائدات من عنف الجماعات المتطرفة الدينية، يقدمون ما يمكن تحويله إلى روايات، يكتبونها بأنفسهم، أو يسلمونها لمن يغني الوقائع بالحكي الروائي، المثير هو التجربة الدينية، وكيف حولت الكائنات البشرية التي عاشت في حضارات العقل والتطور التكنولوجي إلى همج يحيون في الصحاري والغابات معزولين عن كل متع الحياة وبهجاتها، هي سير مثيرة في غرابتها، دافعة للبحث عن سر هذه البدائية الخفية في صلب الحضارة الأكثر تطورا وعقلانية، كيف يطمح الكائن بقتل غيره إلى تحقيق سعادته وبطولته، روايات نشطت بعد ظاهرة داعش والعنف الإسلامي الذي أظهر خدعة الاندماج في الغرب كأكذوبة، بل كشف عن ميولات حتى أبنائه الخفية لممارسة العنف والفظاعات باسم ديانة ليست لهم تاريخيا ولم ينشؤوا على قيمها ولم يتربوا تربيتها، فكيف اخترقت وعيهم وشدتهم إلى ما يعتبر إجراما في حق أنفسهم وغيرهم؟
محكيات التحول الجنسي
هو المستجد الذي عرفه العالم حاليا، وله إغراؤه الأدبي الحكائي خصوصا في المجتمعات التي تعنيها المحافظة أو تعاني منها، فالمتحولون حالة كالشواذ الجنسيين المعانين من اضطهاد العقليات الذكورية، يتحررون من خوفهم بالكتابة وحتى بالقراءة عن قضاياهم، التي تصل إلى العالم الحر، الذي تعنيه قيمه وهي تجد المعبرين عنها حرية، فيدعمهم بالتعريف بهم والتواصل معهم، كما أن الكتابة عن معاناتهم تكتسب شرعية وشعبية مما يوسع مجال القراءة ويوفر بها إمكانيات للنشر والتعريف بالهموم المستجدة، والتي لم تكن معروفة منذ عقود وربما قرون، والأدب وخصوصا الرواية معنية بكل ما هو إنساني، حتى لو كان مختلفا حوله، سياسيا وثقافيا وقيميا، فالمهم هو تأكيد حق التعبير بالمقروء الذي من خلال الروايات، قد يتحول إلى أفلام سينمائية تهتز بها قاعات العروض وتتحقق بها جوائز عالمية لها وزنها الفني، أدبا وصورة، الرواية تحاول حفظ ذاتها بما تستطيع من ابتكارات لها جاذبيتها على مستوى القضايا والأشكال، فالمضامين المتغيرة، مع الزمن، تفرض كيفيات أخرى لتناول تلك القضايا، فالرواية كتاريخ، هو تاريخ تجديد الشكل وليس تغيير القضايا، كما أن لغتها هي الأخرى تتخذ صيغ جديدة لتظل الرواية بلغتها هي الرواية، لكن تعبيرها يبحث عما يجعله أكثر جاذبية وفاعلية.
بهذا الشكل ربما تم التخلص من روايات التاريخ الاجتماعي والسياسي، وحتى المغامرات الفردية والسياسية، دون الانتهاء منه بشكل نهائي، فالجميل كالمثير، قد ينبعث من أكثر القضايا تكرارا وانتشارا، ويروّج له كأنه لم يكن موجودا، ولا يشكل ذلك استثناء حتى أمام النقد الأدبي، الباحث هو الآخر، عما يثبت به فعالية مناهجه النظرية والنقدية، فلا ينبه لمكرر تكرر، ولا يخدش جروح المجرّبين منبها إياهم إلى ما اقترفوه من إعادات واستعادة لما مضى أو نسي، فالقارئ للمحكي حتى وهو ينتبه، لا يلوم إلا بتوقيف القراءة أو التصريح بصوت خافت على أنه سبق له أن اطلع على تجارب شبيهة بما قرأ، مكتفيا بما يراه اكتشاف شخصي يعنيه وحده وعليه أن يتصرّف بما تمليه لحظة إتمام العمل أو التوقف عن ذلك ومصادرة حق انتظار ما تؤول إليه النهايات التي توقعها وهي في طريقها لتأكيد ذلك حتما، على أن نكون غيرنا أو ننوب عنه أدبيا كما ناب هو علينا سياسيا واقتصاديا. إن الإبداع عصيّ على الإخضاع بفعل إنصاته لنفسه دون مكبرات صوت أو بهرجة أو حوافز تبريرية تقدم نماذج تعتبر ممثلا لمرحلة تاريخية بما يعتبر فنية غير مسبوقة أو تأصيلا لنهج جديد.
نماذج روائية
الشموخ المجروح في رواية عندما يبكي الرجال
للكاتبة وفاء ملي
من الملاحظ أن الرواية هي أكثر الأجناس الأدبية تأثرا بالانحسارات التي تعرفها المجتمعات في تاريخها، ولأن هذه الانحصارات لا يمكن أن تكون إلا سياسية، فإن أصدق تعبير عنها هو الرواية، لأن فنيتها لا تنفصل عن المضمون كمحتوى معبّر عما يختلج في داخل الروائي، خصوصا المتابع للتحولات التي يعرفها الوطن وما تثيره من أسئلة وجودية، تحتم إعادة التفكير في الفكر ذاته، لكن بطريقة مختلفة، فإذا كانت روايات السبعينات متخمة سياسيا في بعضها بحلم أجهض وآخر منتظر كبديل، فإن روايات التسعينات عرّت الانكسارات بما فيها الأحلام نفسها، ولم تنحز إلى أي حلم، بل اكتفت بتبديد الوهم، وتبخيس الأحلام الكبيرة، التي لم تعد إلا حنينا مهملا، يتكتل حوله العاجزون عن إدراك حقيقة البلد ومساراته متناسين حقيقتهم، هاربين من الجروح الخفية والتمزقات الخفية كجروح تعفنت فاستسلم لها الجسد معتقدا أنها ستندمل مع الزمن، لكن الأبدان انهارت ودوى صوت سقوطها روائيا مع جيل التسعينات، فليس صدفة أن يقتل علي هاشم في رواية “غرف الموت”، وتفر عشيقته إلى الخليج وهي حبلى بابنه، ولا أن يجد علال زوجته عاقرا ويختفي في رواية “بيض الرماد” لمصطفى الغزلاني، ولا أن يكتشف أحمد البوكيلي عجزه الجنسي في رواية “عندا يبكي الرجال” لوفاء مليح، رغم دعوات الحداثة الأدبية ذات المنحى التجريبي التي تدعو لإبعاد الرواية عن القضايا واختزالها في اللغة كمتعة بيانية أو حكمية تقتفي أثر الشعر والفلسفة أو حتى التأريخ الفني، فإن هذا الصنف من الروائيين له اختيار آخر، لم يدشنه بالغضب، بل بتأمل وتأنّ أدبي لكل منه صيغ التعبير عنه فنيا، لكن مع التحولات التي عرفها العالم العربي، وامتداداته نحو العالم، أعتقد أن الصنف الأول من الروائيين أنصفهم التاريخ أكثر مما توقع الجميع، نقادا وقراء.
الرمز التاريخي
عندما تركز الروائية وفاء مليح على الأماكن التاريخية في رواية “عندما يبكي الرجال”، من خلال اللقاءات، أو هروب فاتن إليها عندما تشعر بالضيق، فإن الروائية تعطي للتوصيف دلالة خاصة، كأنه تذكّر بالماضي التليد لأمّة بدل أن تتقدم تندحر، ويظهر ذلك جليا باستحضارها لبؤس الحاضر في تلك الأكواخ التي يسكنها حامل شهادة جامعية والذي جن ووصلت درجة سخطه وحمقه حد التعري وإبراز مؤخرته، إنها لحظة دالة على أنه يسكن العراء، ويتنكر لحضارة يجوع فيها العارف ويغتني فيها الجاهل، بل ربما يشرع ويحكم، وهي حالة تثبت تمزقا يعيشه إنسان هذا الوطن فيهرع إلى ماضيه، يحن إليه أو ربما يتنكر له ويحتج عليه، إذ كيف يعقل أن نكون نحن ورثة من شيدوا تلك المعالم؟ وهي لحظة شك وجودي في هوية، بدل أن تشيّد تخرّب، بدل أن تتطور تتقهقر، لكن من يقاوم هذا الانحدار؟
رمزية العجز الجنسي
أحمد البوكيلي المنشق عن حزب سياسي، والراغب في تأسيس جمعية، صاحب مشروع سياسي، لم يستطع فرضه على الحزب، أستاذ جامعي، استحق إعجاب طلبته، وربما فاتن متعلقة به، لكنها لا تفهم تعاليه عن جسده، وهي امرأة تحلم ككل النساء برجل يذكرها بأنوثتها ولو بلمسة عابرة، فقد أنهكتها العطالة والتظاهر اليومي، وهو يعلن تعاطفه مع العاطلين، ويحلم بأن يشعر بمتعة الجسد، لكن الحقيقة التي طالما هرب منها لم تهرب منه، بل لاحقته، ولأنه عجز عن مواجهتها لجأ من خلال بواب العمارة إلى محاولة التداوي بالأعشاب، وبذلك يصير الحدث رمزا للسقوط، فها هو رجل العلم وينسى ما تعلمه، ويهب سلطته المعرفية لجهال بعد أن كان يلوم السلطة كسياسي على تقليديتها، إنها مفارقة مزدوجة، الحلم بجسد رجل عاجز، لا يمكن لرجل أن يعشق وهو محروم من متعة الجسد الجنسية، كما لا يمكن لرجل سلم سلطته المعرفية أن يطالب بسلطة سياسية يصلح بها المجتمع ويطوره.
رمزية الموت
موت أحمد البوكيلي ليس نهاية بيولوجية صرفة، إنه اندحار لاختيار يستقوي بضعفه، يقتات من ضعفه وعجزه، يخفيه ليظل قويا في نظر الآخرين، يخدم فكره وينسى جسده، الذي ما أن ينهار حتى تتشوش الأفكار ورما تتشوه، الموت هنا انعكاس لهشاشة ذات سياسية، لم تحسم مع قضاياها الشخصية وتطمح لأن تكون حاسمة في قضايا عامة، تهم مصير مجتمع بأكمله، لكن الموت أيضا مؤشر حياة جديدة، لأن الهالك خلف مذكرات تؤرخ لخطأ الاطلاع عليه كفيل بعدم تكراره أو تجنبه على الأقل.
رواية “عندما يبكي الرجال” لوفاء مليح ليست عتابا سياسيا، بل هي مساءلة الخفي في حياة الإنسان، ذاك الذي يحاول التأثير على الناس، فيخضع لقيمهم أو يستسلم لها معتقدا أنه ينجذب إليهم ليسمو بهم، بينما هو في عليائه يقع معهم أو عليهم ليدفع ضريبة هربه من نفسه واحتمائه بهم كقائد أو زعيم يحيا لأجل السياسة وينتهي بالعيش بها، فيكون قد فهمها بسوء فهمه لذاته الشامخة، لكن الجريحة جسدا ورواحا.
“بيض الرماد”
رواية المصطفى غزلاني
رواية العشق وعشق السلطة
هي رواية للشاعر المصطفى الغزلاني، التشكيلي والروائي، تمتح من فضاء القرية بدوافع تشكيلية، فهو صاحب رؤية الفن الرعوي، ربما سعى من خلال هذه الرواية، تكسير الحدود بين الرؤية للصورة والصورة الأدبية، سواء كانت في الشعر أو الرواية نفسها، ذلك أن الصورة برّأها الكثير من التشكيليين في المغرب، لتخلو من أيّ إشارة للمشترك الجماعي، فقرا كان أو ترفا، خوفا من عالم السياسة التي تجنبوها ردحا من الزمن، لكنهم لم يعوضوا ذلك برؤية فلسفية تغنيهم عن السياسة وتدفع عنهم تهمة الخوف من الساسة، لكن المصطفى الغزلاني، انتصر للاثنين معا، في عالمين مختلفين شكليا لكنهما متداخلان، الصورة والصوت الشعري، فكيف نجح في ذلك؟
عشق السلطة
من هنا تبدأ الحكاية، الحاج الكبير سيد القبيلة، المتعالي عليها، قانونها الذي لا يعرفه غيره، حارس حدودها المفتوحة، المطلع على أسرارها ، دون أن يصل إلى خيامها، اكميحة هو من يصله بها، يحكي له كل ما يحدث في الخيام، يطيل حكيه، هو وسيلته الوحيدة ليظل محتميا بسلطة الحاج الكبير، لذلك يجد بحثا عن الأسرار، إذ لا يسمح له بمجالسة الحاج الكبير إلا إن كان لديه خبر يمططه ليثير به سخط سيده على من يريد، ليس انتقاما بل حفظا لوجوده، لأنه لا يجيد غير التلصص على سكان الخيام ليلا ونهارا، ولأن نساء الخيام عرضة للوشاية كرهنه أكثر من الرجال، فهو بإطالته في الحديث عن الوقائع يزيفها ويعطيها دلالات أخرى ليربح الاقتراب أكثر من سلطة هو خادمها بكل حواسه، إنه بلغة العصر إعلامها ومصدر كل ما تتوصل به من أخبار قبل أن تقدم على أيّ فعل، إنها سلطة لا ترى بعينها، بل بعيون مزروعة في رأس مريض، صاحبه مهووس بإثبات بطولات زائفة، يتحول بها إلى عاشق لرؤية السلطة تتحرك بناء على ما يزودها به من معلومات وأسرار، يستغلها الحاج الكبير لإثبات سطوته، واكتشاف مدى قدرته على التحكم في سكان الخيام، يفشي سر عائشة التي التقت بعلال المجنون في نظر القبيلة، الذي يعيش بعيدا عنها، يرعى أنعام والده، فيطلب الحاج الكبير البنت للزواج صونا للعار وحماية لعرض أسرتها، لكن عائشة تبوح لأمها بعشقها الجارف وتقدم نفسها قربانا له، بحيث تسلم والدها البندقية لقتلها، لكنه يعجز عن ذلك، كما عجز عن رفض طلب الحاج الكبير، المدافع عن نزوته ليدل بها نساء القبيلة ورجالها كتعبير عن مدى عشقه للسلطة وليس عائشة أو غيرها، فالسلطة لا تعشق غير ذاتها بما هي رغبات عارمة لتملك البشر كأشياء تزين بهم نفسها، فلا عاطفة لها، لذلك لا تتسامح مع من يتطاولون عليها برفض مطالبها، وهذا ما جسّده الحاج الكبير بمحاولة الانتقام حتى ممن اعتبر مجنونا في عرف القبيلة، أنه تجرأ على عشق امرأة رفضت الزواج من سيد القبيلة وكبيرها.
سلطة العشق
علال اكتشف سطوة الحاج الكبير وهو يمارس نزواته ويصرّح بها، فكيف يدّعي صون عرض أسرة؟ ويكتشف علال لهيب العشق، بل يعيشه مع عائشة التي تلجأ إليه هربا من جبروت الحاج الكبير، الذي لم تقو أسرتها على رفض طلبه، يحتضنها علال الذي اعتزل القبيلة دون أن يخاصم أهلها، ربما عشقا لحريته، وها هو عشقه لعائشة يرغمه على الدفاع عن حريته بهجرة أخرى أبعد، لكن الخبر وصل إلى الحاج الكبير الذي بعث من يقتل المتمرد على سلطته، فطن علال ابن الطبيعة التي لن تخذله، وبدل أن ينتظر القتلة ليهاجموه هاجمهم، وانتصر على رجلي الكبير وأضرم النار في كوخه لتحرق الجثتين وتلتبس الحقيقة على عيون الحاج الكبير، هاجر علال مع عائشة التي صارت زوجة له، لكنه لم يغفر للحاج الكبير تسلطه، فعاد لقتله، لكنه صادف والده مدفوعا بحبه لابنه معتقدا أنه قتل وأحرق مع عشيقته، الاثنان معا كانا يقصدان قتل الحاج الكبير، لكن الأب يقتل خطأ بيد ابنه الذي لم يكتشف هذه الحقيقة إلا بعد عودته إلى قبيلة أولاد حمو رفقة زوجته التي لم تنجب له، فقررا الرجوع، لكن علال ازداد إصراره على قتل الكبير الذي فقد سلطته على بيته، إذ عزلوه خارجه مما يوحي أن سلطته على القبيلة تلاشت ولا وريث له يشد عضده أو يمارس مهامه غير اكميحة الذي تفقده، فوجده جثة مقطوعة الرأس ومع ذلك أصر على الانتظار ليجد من يسمع حكايته التي لم تكن إلا خبر عودة علال وزوجته عائشة إلى القبيلة، لكن علال كان أسرع إليه من اكميحة ليحز رأسه ويتدارك الخطأ الذي مرت عليه سنوات ويختفي دون أن يترك هو الآخر وريثا لتمرده على القبيلة وسادتها، وتنتهي الرواية بانتصار شبيه بالهزيمة، لتنبعث معه أسطورة مول الواد الذي يعرف نوايا الناس وأخبارهم دون وساطات أو وشاة.
صار العشق أسطورة لأنه حث الناس على التمرد وقاد إليه، فكل السلط تحفظ تاريخها الذي هو إلغاء للمتمردين عليها، تتجاهلهم، اكميحة هو الحافظ لتاريخها، لن يحكي لها بل سوف يحكي عنها ليذكّر الناس بسطوتها، لكن الناس سيلجؤون لأسطورة علال، مول الوادي كاحتفاء بالمتمردين ليحكوا عنهم، ويخلدونهم نكاية بتاريخ السلط والذين يحنون إليه.
لكن لماذا لجأ الروائي إلى القرية القبيلة ليرغمها على البوح بحقيقة تبدو أكثر بروزا لو اختار لشخصياته التعبير عن ذاتها داخل المدينة؟ لماذا أنهى سلطة الحاج الكبير مرتين، بعجزه وموت مقتولا؟ ولماذا حكم على العاشق المتمرد بالاختفاء؟
القبيلة أو البادية رهان أدبي للروائي المصطفى الغزلاني، تمثله شعريا في قصائده، ديوان أشياء أخرى، خبره داخليا وأغنى علاقاته بلغته، والشاعر يعبر عن أعقد الأحاسيس بأبين تعبير، وفي الرواية أعطى لحبكتها نفسا أسطوريا بشاعريته لا تحتمله المدينة لا إيقاعا ولا تمثلا، فهناك أوصاف وعلاقات مدينية أنهكتها روايات القرن 19 والعشرين وزادها النقد الأدبي والأكاديمي اعتيادية بالتطبيق الفوري لأكثر المناهج جاهزية وانتشارا في العالم العربي .
“المشي على الريح” رواية لعبد الحميد البجوقي
عبد الحميد البجوقي، اختار الكتابة حول الهجرة، ليعطيها بعدها الآخر، أي عندما تصير نفيا، بدافع سياسي، هناك تتشابك مع مصائر أخرى، لم تكن لها الدوافع نفسها، فتتجمع خيوط المأساة لتشيد لنفسها تاريخا خاصا، تندرج في سياقه تيمات، من قبيل، العلاقة بالغير وصورته، بما أنها علاقات محكومة بالثقافة والتاريخ وحتى نفسيات المجتمعات بأفرادها الرافضين لهوية تتقاذفهم رياحها وأمواجها في الوقت نفسه. المشي على الريح له أبعاد لا يمكن حصرها، بما أثارته من تيمات تستحق استحضار عوالم الثقافة وحتى الأسطورة، فقد حضر الأفريقي هذه المرة برؤيته للعالم، وليس كطقوس سحرية كما اعتبرها الغرب إبان الاستعمار والاستعباد.
الثقافي
كان في شكل شذرات، من قبيل، أن الأشجار تتشابك في السماء لكنها تتعانق تحت التراب، وهي صيغة معبرة عن التراث الأفريقي العميق رغم ما شاب تاريخه السياسي من صراعات، كما أن أمّ المهاجرة قبلت بأن يتزوج المسلم من مسيحية، لأن الله رب الديانات جعلها واحدة والبشر تفرقوا بها، وغيرها من الصيحات التي احتلت برمزية معبرة محكي المشي على الريح، دون أن نغفل إشارات أخرى لتعامل البطل نفسه مع الخمر بحيث لا يقربه، أما النساء فلا يستطيع عنهم بعادا، وهي حكاية تستحق الانتباه لها، ينضاف إلى ذلك، ملاحظة النيجيرية للرجل المصلي والعابد لله، لكنه يساهم في المتاجرة بالنساء الهاربات من جحيم القهر والفقر، هذه العوالم حقيقة تثير قضايا ثقافية، مما يفرض عليك أحيانا عدم التصريح بأسمائها، حتى لا تثير التفاوتات بين دول أفريقيا فيما يتعلق بوعيهم بما هو تراثي قديم في حضارتهم، وتمثلاتهم للإسلام الذي وصل إليهم، وكيف أن منهم من كيفه مع حضارته ومنهم كدول من زاده انغلاقا، فتعثر بتفاصيله وكثرة تعاليه به على حساب عمق ثقافته وصيرورتها التي توقفت غصبا وقهرا.
السياسي
أثارت الرواية التفاوت في قيم الحضارة حتى داخل المجتمعات الأوروبية وخصوصا إسبانيا، كيف لعشاق الحرية، أن يحنّ بعضهم إلى زمن القهر والتعصب للعرق رغم الصراعات التي عاشوها دفاعا عن الحرية والمساواة، بل كيف لهم التفكير في طرد المهاجر الذي طالما عبرهم قبل أن يعبروه وقاتل إلى جانب قواتهم المحررة والثائرة؟ تلك الأسئلة رغم كونها كانت على لسان البعض، فهي ليست بريئة، فالشخوص أفكار، لها حضورها في تاريخ البلد أو تاريخ المجتمع وتاريخ حتى المهاجرين الذين استقروا على أرضه، عاملين كل ما بوسعهم لفهمه وخدمته أحيانا دون التفكير في ذلك، لكنه من هناك مروا وهناك كانوا، وتصل دروة المفارقة عندما نجد إسبانيات مرحبات ومتفهمات للآخرين، بل حاضنات لهم، اعترافا بأن الحكومة هي سلطة أغنيائهم وليس فقرائهم وهي ربما إشارة إلى أن الحرب الإسبانية لم ينتصر فيها إلا الأثرياء، أما المدافعون عن المساواة فقد انهزموا، لكن المفاجأة تأخذك بعنفها عندما تكتشف أن السلطة أي الحكومة كانت اشتراكية ولم تكن يمينية، هنا ندرك أن عالم الرواية كان له أوج، بغايات مختلفة، لا تحاكم لكنه فقط تثير.
الغير كلون
عادة يتم الاعتراف بالغير كمختلف، دينا أو لغة، لكنه في لحظات التهمة بالاغتصاب، ربط اللون بفحولة اعترفت بها المدمنة لتبتز بها الأفريقي، بل دفعته ليربط لونه بقدرة جنسية متوهمة، لكن في الأخير، ندرك أن الأمر ليس إلا وليد تمثلات عامة، في الشرق وحتى الغرب، ليبرر بها البعض تميزهم، وهي حيلة انطلت على بعض سكان المهجر، الأقل ارتباطا بما هو ثقافي ومعرفي، لكأن الرواية تنبه أن الأمية كجهل اتسعت دائرتها لتمتد حتى للغرب نفسه رغم قدرة مواطنيه على الكتابة، أعتقد أنها فكرة تستحق أن تثار، لكن في الأخير تتراجع المدعية تحت تأثير الدفاع وربما حتى التعاطف مع أفريقي مهاجر ورطه تجار المخدرات فيما لا علم له به، ولم تكن له القدرة على الرفض حتى لو علم، فهو عاشق يبحث عن عشيقته التي وعدها باللقاء جسدين، فيكتفي في الأخير بالعودة إلى شجرة الأموات المحكومة باعتقاد أن الأرواح إليها تعود بعد الموت أينما كانت.
الرواية ورهاناتها
تراهن الرواية بتداخل المحكي فيها على إعادة التفكير في ثيمة الهجرة لربطها بالنفي واعتباره هجرة إذعان بما يخلفه من جراحات، وبما يكشفه في الكائن من ضعف تجاه عالم دفع إليه دفعا، ليجد نفسه عالقا فيه، بل صنع به هوية أخرى، لا يعرف أيهرب منها أم يعود إليها، فإن هاجر وجد نفسه يبتعد عن عالم كاد يفقد فيه تصالحه مع ذاته،، وإن عاد شعر بأن هناك ما يذكره بما كانه، مناضل يدافع عن المهاجرين لتنصفهم دول المهجر وتعترف لهم بحقه في الإقامة والحب والعيش الكريم، إنها رواية تشد الذات المهاجرة لما تريد أن تكونه، وتحاول استحضار النسيان بالتذكر.