الرواية وثنائية الهشاشة والقسوة

الخميس 2019/08/01
لوحة وليد نظمي

تقدّم الرواية صوراً للحياة بكلّ تناقضاتها ونقائضها، تستعرض الثنائيات التي تشكّل وجوهاً متباينة للحياة، تمرئي المخبوء هنا وهناك، وبين طيّات الأفعال والأقوال، ويحاول الروائيّون سبر أغوار النفوس واستنطاق شخصياتهم وأبطالهم لتظهير الأفكار التي تقودها وترسم مساراتها. تعدّ هشاشة المرء في مواجهة الملمّات والمحن صورة مواجهة للقسوة التي تتفشّى في نفوس البعض من أبناء المجتمع الذي يشتمل على كثير من المفارقات بدوره، ويشرع الأبواب أمام أسئلة تروم الفهم وتبحث عن تفكيك الألغاز وتدبّر بعض أسرار الحياة نفسها. حاولت الروائية الإسبانية ميلينا بوسكيتس في روايتها “وهذا أيضا سوف يمضي” إظهار هشاشة الإنسان وضعفه في مواجهة الأزمات التي يتعرض لها ويمرّ بها في حياته، وكيفية استجابته لها، وتأثره بها، وقدرته على تخطيها بطريقة مختلفة.

استهلّت بوسكيتس روايتها ببوح راويتها واعترافها أنها لم تفكر يوماً أنها ستبلغ الأربعين من عمرها، أو تكون في الستين أو الثمانين، ولم تتخيل نفسها في الأربعين وتحضر جنازة أمها في الوقت نفسه. وتقول إنها لا تدري كيف وصلت بها الأمور إلى الحد الذي وصلت إليه، ولا كيف وصلت هي إلى المكان الذي سبب لها فجأة رغبة رهيبة في التقيؤ. وتعتقد أنها لم ترتد طيلة حياتها ثياباً على نحو بائس.

تلفت إلى حضور عدد من أصدقائها وأصدقاء أمها الجنازة، وكان المرض الذي أزاحها عن عرشها بقسوة وأطاح بمملكتها دون رحمة، ألحق الأذى بجميع المحيطين بها، وسيكون لذلك ثمنه ساعة الدفن. وتسترجع بعض ممارسات والدتها، وتقول إنها كانت تثقل عليها حتى وهي بعيدة، وحتى بعد أن بدأت تفهم ما يجري وتتقبله، وابتعدت عنها مدركة أنها إن لم تفعل، ستموت معها، تحت أنقاضها.

تشير إلى أنه بعد أن أصبح لديهما طفل عرف كل منهما الآخر أكثر، وأن المرء يحاول أن يتصرف مثل حيوان في الغاب، مسترشداً بغريزته وجلده، وبدورة القمر، ومستجيباً بلا تلكؤ وبامتنان وبنوع من التخفيف عن ذاته، لكل متطلباته التي لا تحتاج إلى التفكير، لأن الجسد والنجوم قد فكرت فيها بدلاً منه واختارتها له.

تخاطب أمها مذكرة إياها بأنهما تكلما كثيراً عن الموت، لكنهما لم تفكرا أبداً في أنه سيسلب منها عقلها قبل أن يسلبها كل شيء آخر، وأنه لن يترك لها سوى نوبات متقطعة من بصيرة ما كانت لتجعلها تعاني أكثر. وتراها في لحظة بوح وتفجّع تخاطب أمها قائلة لها يا لك من مجنونة يا أمي، وتسألها سؤالاً استنكارياً ما إن كانت تظن أنها قادرة على الإبحار على متن القارب، أنه ما الذي سيحدث للبحر إن غابت عنه قليلاً، وما إن كان سيختفي أو تراه سينطوي على نفسه ويصير مثل فوطة مطوية بعناية يمكن دسه في الجيب.

تصور حالة المرأة العجوز التي تفقد قدرتها على التركيز، وكيف أن الجدة مرعوبة، وبدأت وهي التي لا تعرف الخوف، تعيش فيه حين أخذت تشعر بأن قواها وعقلها يخونانها، وقد انفض من حولها أصدقاؤها، والحاشية التي كانت تحيط بها دائماً، وتستعيد قولها بأن من أقسى الأمور على المرء حين يشيخ، هو إدراكه أن ما يحاول شرحه لم يعد يهمّ أحداً، وكذلك حين أدركت أن الوقت أخذ ينفد، وأن كل شيء في طريقه إلى النهاية ما عدا رغبتها المجنونة في العيش.

تكرّر لنفسها الحكاية التي تحمل العبرة، والتي من شأنها أن تواسيها في حياتها، الحكاية التي تقول إن إمبراطوراً استدعى حكماء مملكته، وقال لهم إنه يريد جملة قصيرة، تصلح لجميع الظروف والأحوال وعلى الدوام، وأن الحكماء أمضوا شهوراً وشهوراً يفكّرون، وأخيراً عادوا إلى الإمبراطور وقالوا له إنهم عثروا على الجملة المطلوبة وهي “وهذا أيضاً سوف يمضي”. وتذكر أن الألم والحزن يمضيان كما تمضي البهجة والسعادة. تقرّ بصعوبة العيش من دون أمها الراحلة، لكنها تعود للتأكيد على أن كل شيء يمضي، ودوام الحال من المحال.

وفي إطار تصوير مشهد من مشاهد القسوة الإنسانية روائياً، سعت النيجيرية أيوبامي أديبايو في روايتها “ابقي معي” إلى استكشاف توقعات الناس من بعضهم بعضاً، وكيف يتخيّل كل شخص من الآخر أن يكون كما يتصوره، أو يتوقع منه، وفي حال لم يكن بالصيغة التي يريده عليها، أو لم يطابق تصوره عنه، فإن الاختلاف يكون صادماً، وقد يدفع البعض إلى الخروج بنتائج تفتقر للدقة والواقعية، وبعيدة عن فهم الطبيعة البشرية التي تتبدى في بعض المواقف متقلبة، تستجيب للأفعال والأفكار بردود أفعال مختلفة.

تفكك أديبايو في روايتها آليات تفكير شريحة من المجتمع النيجيري، من خلال التعمق في تصوير حالة زواج ضمن أقلية اجتماعية متشبثة بتقاليدها، ويكون بطلاها من ييجيد وأكين مناضلين اجتماعيين يحاولان التخلص من العادات والأفكار التي تحاصرهما في حياتهما الزوجية، ويسعيان لأن يرسموا مسارات مختلفة لحياتهما، ولا يخلو الأمر من كثير من المشقات التي تعترض طريقهما.

تقوم بتصوير العنف الاجتماعي المصاحب للتخلّف، والذي يكون أشرس وجوهه وأكثرهاً إيذاءً لبناء المجتمع، حيث الاحتراب الأهلي يبلغ أوجه، ويلقى شباب حتفهم لأسباب بسيطة، وكأن العنف يصبح قدراً للناس هناك، أو كأن القتل يكون انتقاماً من قبلهم من أنفسهم ومن واقعهم، وسبيلاً لتشويه أمكنتهم بذريعة المحافظة عليها.

تكتب أديبايو عن حالة المجتمع الذي يتوقع أفراده من بعضهم بعضاً أن يقوموا بالأفعال التي يختارونها لهم، وكأن القيود الاجتماعية هي التي ينبغي أن تقودهم، تلك الأفكار التي تتحول إلى قيود بالتراكم، ومن شأنها أن ترسم أنماطاً مستنسخة عن بعضها، بحيث تلغي الاختلاف وتقولب الجميع بقوالب بائسة، فلا يكون تمايز، أو تجديد أو تمرد أو تغير..

الهشاشة والقسوة معاً تحضران في تفكير بطلة أديبايو بالأمومة التي تكون بالنسبة إليها لغزاً لا تكاد تجد له حلاً يريحها، فهي التي توفيت أمها التي كانت تنتمي لجماعة مختلفة باكراً، وحملتها أعباء الاستمرار وحيدة في حياة شاقة، تجهل أهل أمها، وهي في الوقت نفسه تفشل في أن تصبح أماً، أي تكون علاقتها معقدة بين كونها ابنة لأم راحلة مجهولة الأهل بالنسبة إليها، وزوجة غير قادرة على تخطّي محنة الإنجاب، كي تصبح أماً وتعيش تلك المشاعر الأمومية بكل ما فيها من تدفق وعطاء.

تتناول كذلك جوانب من التخلف الاجتماعي السائد، وكيف أن هيمنة القيم البائدة على بعض الناس تكشف الزيف الذي يحاولون إقناع أنفسهم بصدقيته وواقعيته واستمراريته كأنه قانون حياتي. وتعالج مع ذلك مفارقات من تفكك البلاد بالموازاة مع التفكك الأسري، والعائلي بمعناه الأوسع، وتبدل العلاقات الإنسانية بطريقة وحشية، والخوف الذي ينتشر في الأجواء ويلوثها بقتامة بائسة، ثم اليأس الذي قد توصل الشخصيات المتأملة بغد مشرق أفضل إليه، وتحطيمها لآمالهم المستقبلية.

ولأنّ الحياة أوسع من أن تحيط بها أيّ روائية، فإنّ اشتغالات الروائيين ستبقى محاولات لفهم ألوان الحياة المختلفة، وتصوير مشاهد ولقطات منها في أعمالهم، وما الهشاشة والقسوة إلّا صورتان ملتقطتان من صور كثيرة تثري عالم الرواية المتجدّد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.