الرُّكنُ المَخْمور من العالم
كل شيء يحترق، عشش القش والحطب، الرمل الممزوج بالدم و الأحزان، ذكرى الليالي الحميمية القليلة التي تشبعت بها الحوائط الهزيلة، النقود الورقية، أكياس الطعام المواراة من عيون الأطفال الجوعى، وجه أمي تحت الوسادة. وأزكمتْ الأنوف رائحة اللحم المشويّ لرجل مُقعد داهمته النيران ساعة قيلولة، وأنا كشيطانٍ مذعورٍ أعدو هنا وهناك، أهِيلُ التراب على الحرائق، الناس يهيلونه على النيران وأنا أرشُقه في حرائق صدري، الصخب يصم أذنيّ، بكاء الأطفال، وعويل امرأة تحاول خوض النار لإِنقاذ زوج متفحم، النسوة يبادلنها الصراخ والدموع ويمنعنها بالقوة، عيناي تنزفان ماء تتشربه الأرض العطشى، أهجس في نفسي بفكرة غبية : ماذا لو بكى كل رجال و نسوة المعسكر في السطول لنطفئ الحريق؟!، ماذا لو لم نكن نحن؟ ولم يكونوا هم هم ؟ ماذا لو أمطرنا الله غيثاً.
أعوامي كلها جدب، لم أبلغ منتصف العقد الثالث بعد إلا أنني رأيت أهوالاً لم يرها عجوز يسكن المدن البعيدة، تلك التي يقال إن لكل بيت فيها شموس صغيرة بيضاء متلألئة تحيل لياليه إلى نهار، وماؤها كالسحر يسرى في كل أنحاء المنازل الثابتة فلا ريح تهزها ولا مطر يجرفها والأهم لا حرائق تأكلها، والناس جميعهم نظيفون كالأجانب الذين ينزلون أحياناً علينا. قريتي الأولى لا أذكرها جيداً، شاهتْ الذكريات مثل سواد يزحف في أثر شمس غاربة، ظلمة حالكة لكن ثمة بصيص يُمَكّنني من إدراك القليل، لا بد أننا كنا في رغد من العيش؛ أخي الأكبر كان بديناً ويدعني أتزحلق على بطنه المقبب الأملس وهو يضحك، كنا خمسة ذكور، وكانت أمي بوجه بشوش وعينين حنونتين، وكان أبي دائم الابتسام.
ذعرٌ مفاجئ، همسٌ ما لبث أن صار ثرثرةً ضاجة، خطيب الجمعة يصرخ ويؤكد على السمع والطاعة لأوامر تُلزمنا بالخروج من قريتنا. يا عباد الله لقد خَرَبتم بيوتكم بأيديكم. أصوات مزعجة ووعيد عبر ميكرفونات نصبت على مبعدة عن شمال القرية، أُخرجوا لتأمنوا، أمي تولول، أبي ينبش شيئا ما تحت شجرة المانجو. وخرجنا جميعاً مخلفين وراءنا بعض تعساء الحظ عنيدي الرأي الذين ستقتات الضواري على جثثهم، و اختفتْ ابتسامة أبي إلى الأبد، لا بد أنه تركها هنالك حيث تومض الأشياء كالبرق ثم تدوي كألف رعد.
ضاقتْ علينا أرض الله. شهور ونحن نتنقل من مكان إلى آخر حتى انتهى بنا المطاف إلى معسكر “كِرِيْدِنق” للنازحين. لا بد أنهم بفتورٍ رحبوا بنا، وأحصونا بأعينهم في صمت وهم يخمنون مقدار الماء و الطعام الذي سنزاحمهم عليه في طوابير منظمات الإغاثة. بنى والدي وأخوتي كوخاً من القش لنا. تنهد أبي قائلاً: لا بأس.. يجب أن يكون من القش، فسكننا هذا مؤقت وسنعود إلى ديارنا قريباً.
كان يحاول كالآباء الآخرين بالمعسكر التشبث بأهداب من الأمل، كانت أماني زائفة، فالقش مع مرور السنوات تحوَّل إلى حجارة وطين.
كنت صبياً أتسكع في الأرجاء عندما ارتفعتْ الصرخات من جهة فصل التعليم بالمعسكر، هرعتُ مع الجميع نحو الفصل فوجدنا التلاميذ يركضون في ذعر و هم يصرخون “أنتونوف أنتونوف”. لم يكن ثمة قصفٍ والسماء من فوقنا صافية إلا من الشمس الحامية. يومها افترشنا التراب أنا وعدد من الأهالي عند ظل فصل الدراسة الذي كان غرفة صغيرة مبنية من القش، يرتادها قلة من الأطفال. جلس المعلم عصام على كرسي حديدي مُجلّد بحبال ممزقة، كانتْ عيناه حزينتين لكنه يدخل بين الفينة والأخرى في نوبة ضحك فيرتج جسده النحيل ويخلع نظارته السميكة ليمسح الدموع التي تطفر من عينيه، بينما ينكفئُ الناس من حوله من شدة الضحك. كان يسأل تلاميذه عن عدة أمور دراسية ثم سأل سؤالاً استعصى عليهم جميعا ما عدا طفلٍ نَبِيه جرتْ الإجابة الصحيحة على لسانه، فابتهج أستاذ عصام وصرخ بحماس: الله أكبر. ففزع الأطفال وهربوا من الفصل لأنهم حسبوا أن المعلم يحذرهم من قصف للطائرات على وشك الوقوع.
كنتْ من مكاني على الأرض أتفرَّس في ملامح هذا المعلم، وجهٌ حليق ناعم.. شارب مهذب.. ملابس نظيفة، ما الذي يأتي بمعلم من المدينة البعيدة إلى جحيم معسكرنا هذا؟! كان الرجل يكافح ليطلع الآباء على أهمية التعليم، كانوا يحترمونه ويبجِّلونه لكنهم لا يوافقونه على إرسال أطفالهم إلى فصل الدراسة.
_ يا سادة؛ أبناؤكم أذكياء بالفطرة.. دعوهم يتعلموا ليصبحوا أطباء ومهندسين.
_ يا أستاذ.. طبيب مرة واحدة؟!
_ وما الذي يمنع يا حاج بحر الدين.. أنتَ لديك عشرة أبناء.. دعني أعلم اثنين منهم فقط.
ولا يستجيب إلا القلة؛ عندما يذهب طفل إلى المدرسة كان ذلك يعني نقصان الأيدي التي تجلب الماء من الآبار البعيدة. الرجل هنا يتزوج مثنى وثلاث ورباع ويجلب كومة من الأبناء لا لشيء إلا ليزيد عدد سطول الماء بداره. الماء هنا هو الثراء الحقيقي.
_ هل تعلمون لماذا سمي معسكركم بـ “كِرِيْدِنق”؟.. قالها أستاذ عصام و هو يمرر أصابع يمناه على شاربه.
عم الصمت
_ يا سادة ” كِرِيْدِنق ” تعني بلهجة المساليت “أخرجوهم عنوة” … عند موطئكم هذا اندلعتْ معركة حاسمة بين المستعمر الفرنسي و أجدادكم المساليت الذين واجهوا ببسالة المدافع والبنادق بالعصي والسيوف وسحقوا الجيش العظيم وقتلوا قائده الكولونيل “فلقنشو”. لقد جنبوا بشجاعتهم كل غرب السودان من الوقوع في يد الفرنسيين.
ابتهج بعض الجالسين ورفعوا أنوفهم في فخر.
_ ومن أين جاء هؤلاء الفرنسيون؟
_من فرنسا. أجاب المعلم كمن يجيب عن أمر بديهي
لم أكن مسلاتياً فلم أكن أكترثُ بانتصارهم هذا. فسألته: أين تقع فرنسا هذه؟
أجابني: على بعد آلاف من الأميال. لم أكن أدري ما هو الميل لكن من طريقة مطه للحروف بدت لي بعيدة جداً.
يا غبي من أين يأتي هؤلاء “الخواجات” البيض في رأيك؟!
ولم أحتج إلى كثيرٍ من الشد والجذب، أقنعني صديقي “قوني” بالهجرة حيث الجنة الجاثمة خلف البحر. وكان الأمر يحتاج إلى المال الذي لا نملكه فأخذنا نتحين الفرص. وعندما وضعتْ نقوداً في جيوبنا وفوهات البنادق على صدوغنا صافحنا قاتلينا وبادلناهم المزاح! وقفتُ وثلة من الرجال حاملين لافتات خُطّتْ بما لا نستطيع تهجيته، عربية فصيحة وإنجليزية رصينة، وعندما استجوبني الرجال البيض في خيمة جهزتْ على عجلٍ لم أُجبهم إلا بالنفي و دون وخز ضمير.
_ هل صحيح أنهم اغتصبوا مئتي امرأة في ليلة واحدة؟
لا، نساؤنا طاهرات.
_ أين دفن الرجال الذين أجبروا على مشاهدة نسائهم وهن ينتهكن ثم ربطوا بحبل واحد وأطلقت النيران عليهم؟
لم يحدث.
_هل صحيح أن معظمهن كن قاصرات وكانتْ بينهم عجوز سبعينية؟
هذا كذب و افتراء.
خفية خرجتُ مع “قوني”… لم أواجه أبي الذي هرم قبل يومه، ولا إخوتي الخمسة الذين صاروا ثلاثة، و اكتفيتُ بحمل صورة لأمي التي لم يحتمل قلبها مغادرة الديار فتوفيتْ كمداً منذ سنوات عدة. كان كل شيء سيسير على ما يرام لو تحلى المهربون بالصدق والقليل من الأمانة، حملونا على ظهر شاحنة لأيام ثم تركونا جوار جبل عظيم و أخبرونا أن البحر خلفه و عندما التففنا حوله لم نجد إلا بحراً من الرمال! لازمنا الجوع والظمأ والإعياء في رحلة العودة، ولولا نفر من الرعاة حملونا على دوابهم لنهشتْ أجسادنا النسور. عدتُ على أمل كتابة بداية جديدة، لكن من قال إن الناس يغفرون، اِنفضّ المسلحون عن معسكرنا فلم نجد نحن شهود الزور ساتراً من أهلينا، ففتكوا بنا كوحوش ضارية، أبناء عمومتي انتقموا منِّي جزاء لاِبنتهم القاصر التي مُثل بها، تبرأ أبي منِّي وبصق في وجهي، زحفتُ برجلٍ مكسورة وطردتُ ككلبٍ أجرب، سرتُ بوجه دام وروح متشظية في هجرة لا إلى جنةٍ طيبة بل إلى جحيم جديد.
كل شيء يحترق، قوت الأطفال هزيلي الجسد، وجه أمي البشوش، جلباب “زهرة” المُهترئ الذي نسّته عندي الليلة السابقة، قربة “المريسة أسفل سريري، ومرتبتي بنقود حشرتها بالأمس في جوفها، كيف للنيران أن تصل حتى غرفتي؟ كيف لها أن تحرق “عيسى” المُقعد؟ يا الله. أدور كفراشة حول النيران ولجُبني لا أقع فيها، تصدمني الأكتاف المتزاحمة وتدوسني الأقدام الغليظة المتشققة، أهيل التراب على صدري فلا تنطفئ نيران الجوف و لا نيران البيوت، وأناس داعبهم أمل واهن فهرولوا إلى بئر الماء الذي يبعد مسيرة ساعة لجلب ما يطفئ عطش الحرائق، امرأة عيسى يريحها الله بإغماءة، وأنا اليقظ السكران، تكِلُّ قدماي عن حملي فأفترش التراب ودموعي لا تنضب. “ارحلوا، عودوا إلى قراكم، لن تتوقف الحرائق حتى تأكل آخركم”. أخذتُ أهذي بصوت مبحوح تعلوه الضجة. (افعلها معهم أو سيفعلونها دونك. لا نريد معسكرات نزوح بعد اليوم، بتواجدكم هنا تجلبون العار للوطن وتحنون رأسه بين الأمم. سنجبركم على الرحيل، خذ نصيبك من النقود وافعلها معهم). وأنا ناشد الخلاص المؤمن بالجنة خلف البحر الكافر بالجحيم تحت البيادة، أوافق دون وخز ضمير، أدس المال في جيبي وأضاجع “زهرة” حتى الصباح، تذكرني بوعدي بالزواج منها فأخرسها بقبلة، أعتصر جسدها تحتي وأثمل من نهديها. خفية عند ظهيرة اليوم التالي أدلق الجاز مع الدالقين، لكنني لم أرد لعيسى الاحتراق لحد الشواء، لم أتحسب لجوع اللظى لنقود هجرتي المخبأة، لم أحسب أن الحريق الصغير سيمتد إلى كل هذه البيوت بما فيها غرفتي.
تدور رأسي بصداع مقيت وتثقل جفوني، أستلقي في وضعية الجنين متوسداً التراب فأسمع أنين الأرض ولومها، أدس إبهامي في فمي الجاف وأستحلب عالماً بلا حرب ولا خيانة، وببيت دافئ يضمني وأبويّ و إخوتي الخمسة… و أغفو.