السارد في الميدان

الاحتجاج التشريني وتجليه في قصص محمد خضير
الاثنين 2021/02/01
غرافيكس "الجديد"

القصة القصيرة جنس أدبي، قالب يمتلك سرعة الاستجابة لراهنية الزمن، متفاعل مع متطلباتها ورهاناتها بطريقة تمكّن الكاتب من توصيل رسائل ذات دلالات قد يشّق عليه توصيلها بالقوالب الأجناسية الأخرى كالرواية والمسرحية والمقالة. ليس لأن هذه الأجناس قاصرة وإنما هي مقتضيات الحياة السريعة التي تستوجب نمطاً من الكتابة يتجاوب مع هذه السرعة الزمنية، فيه اختزال لكن ببذخ وسرعة مع التروي ومزاولة التفاعلية المباشرة مع متانة السبك والحبك الإبداعيين. بهذه السمات تكون القصة القصيرة هي الفن الأنسب من غيرها من الفنون السردية في مواكبة راهنية الزمن والجذب المباشر للمتلقين على اختلاف مستوياتهم وتباين توجهاتهم وميولهم.

وللقصة القصيرة أدوات إبداعية ليست يسيرة، فلا يتمكن أيّ كاتب من امتلاكها أو هو يملكها لكنه لا يوفق في توظيفها أو يخفق في السيطرة عليها؛ لأنها ملكة تقوى بالمداومة والمران إلى جانب نضج القريحة وخصب المخيلة التي بها يصعّد الكاتب الحدث تصعيداً سردياً متحولاً به من كونه حكايةً خاماً إلى أن يكون قصة، مقارباً لحظة التقديم بلحظة الاقفال ومعالقاً الشخصية بساردها ضمنياً أو فعلياً، مكثفاً كمية السطور مستمطراً الدلالات مع الحفاظ على كثافة البناء والتمثيل للمرجعيات.. إلى آخر ذلك من الأدوات التي تقتضيها كتابة القصة القصيرة والتي قد تبدو في بعض توصيفاتها غير يسيرة مع أنها ممكنة بفاعلية خاصة.

وما كان للقصة القصيرة أن تكون فناً صالحاً لكل وجوه الزمن المختلفة لولا هذه الأدوات التي بها تبرهن على لحظويّتها معبّرة عن متغيرات الحياة اليومية أياً كانت هذه المتغيرات أحداثاً سياسية أو مشاعر نفسية أو ظواهر اجتماعية أو قضايا فكرية.. الخ.

هكذا حضرت القصة في سرديات العالم القديم الشفاهية والكتابية كأساطير وحكايات ومقامات وأخبار، واستمرت تواكب متغيرات العصور الوسيطة في شكل رسائل وقصص ومقامات ومنامات ومحاورات ثم تطورت في العصر الصناعي الحديث مع تطور الآلة وظهور الصحافة لتكون جنسا منفردا له استقلاله على صفحات الجرائد والمجلات أو مجموعاً في كتاب ذي عتبة عنوانية محددة.

وهذه القدرة على الحضور في الراهنية واختلاف الأمكنة مكّنت القصة القصيرة من أن تكون جنساً يمتلك العبور بكل ما يعنيه من المرونة والتحول والتطويع والملاءمة التي بها تصهر حدود الأبنية الأجناسية الأخرى فتذوب في قالب القصة القصيرة ذوباناً يماشي سرعة الحاضر ويواكب متغيراته. فبالعبور تصبح القصة القصيرة مؤهلة لأن يكون المستقبل لها، مستمرة ما بقي الحكي ودام الكلام.

وإذا كانت الصحافة قد عزّزت أهمية القصة القصيرة بدءاً من القرن التاسع عشر ومروراً بالقرن العشرين وما ظهرت فيه من مدارس نقدية وتوجهات منهجية وطدت أجناسية هذا الفن؛ فإن ما بلغته الإنسانية في العقدين المنصرمين من القرن الحادي والعشرين من تطور تقني عولمي واندماج كوسموبوليتي وتنوع ثقافي وتقارب حضاري قد جعل العبور سمة بين الفنون والتخصصات وتجسيراً للمسافات بين العلوم سمة فنية بها تتوثق مكانة القصة القصيرة أكثر فأكثر بين بقية الآداب لتكون لها السيادة في عالم الإبداع مستقبلا، متربعة على عرشه عالمياً.

وعلى مستوى عالمنا العربي؛ شهد هذا الفن في المرحلة الراهنة تطوراً ملحوظاً، والسبب تواتر الأزمات والتحديات وتسارعها ناهيك عن اتساع نطاق التواصل الرقمي الذي قرّب المسافات الحضارية بين عوالم تعد متقدمة وصناعية وعوالم توصف بأنها ثالثة نامية وفقيرة. لتكون العولمة وما بعد العولمة سبباً مهماً يمد كتّابنا بمقومات التعبير عن الهوية والذات ورفض التبعية منادين بالتحرر والمساواة ومطالبين بحياة دستورية وأنظمة تشريعية، دللت عليها وأكدتها التظاهرات الشعبية والاحتجاجات السلمية والانتفاضات المليونية التي شهدتها بعض البلدان العربية وفيها ما  عادت جماهيرنا ترفع شعارات الوحدة والنهضة والتنوير والاستقلال؛ وإنما هي تريد حياة مكفولة فيها الكرامة والعدالة والمساواة.

وهي لا تسعى إلى ذلك بالتصادم العنيف والتهويمات اليوتوبية؛ بل هو الاحتجاج السلمي برؤية واقعية تريد من وراء التظاهر التعبير عن وجودها حاضرا والمساهمة الفاعلة في الحياة مستقبلا، تساعدها في ذلك الوسائط الرقمية التي تتيح مجالات كبيرة، لكي تعبر عن أفكارها وتجسد أهدافها في حياة حرة كريمة.

ولقد وصفت التظاهرات العربية الحاشدة في العقد الأول من الألفية الثالثة بأنها الربيع العربي ثم تحول الربيع العربي في العقد الثاني إلى احتجاجات وانتفاضات ازدادت قوة وسخونة بعد أن صارت تتخذ من واجهات الأبنية وساحات الشوارع والأزقة جبهات تعلن من خلالها عن فعلها الرافض اعتصاما وعصيانا.

وكان سوء الإدارة في توزيع ثروات العراق وغياب النزاهة واستغلال المناصب والمواقع لمنافع ذاتية ، قد أنتج جيلا جديدا لا مستقبل له في وطن تهيمن عليه طغمة سياسية تعبث بمقدراته وتسخّرها لخدمة أغراضها. ليكون انطلاق التظاهرات الشبابية من تشرين عام 2019 إلى تشرين 2020 أمرا منطقيا عمّ مدن العراق، وكان لوسائط التواصل الافتراضية دور مهم في إدامة زخم هذه التظاهرات وتحشيد الصفوف.

وسعى كتّاب القصة العراقيون إلى المساهمة بملكاتهم السردية في تجسيد أو توثيق هذه التظاهرات الشعبية وما فيها من معان سياسية واجتماعية ونفسية. وهو ما تطلب اختلاق نص سردي يتخيل هذا الواقع بكل ما فيه من التغريب والتعقيد والاشتباك تخييلا لا يتعدى هذا الواقع حسب وإنما أيضا لا يتضاد معه.

ولأن في جريان مثل هذه الأحداث الكبيرة قوة بأس وشدة مراس يغدو مفروضاً على القاص أن يعايش الواقعة معايشة ميدانية معبراً سردياً عما تكابده جماهير الشعب وهي تحت وطأة الحدث من تحديات، مجسداً شكيمتها تجسيداً راهنياً بكل ما في هذه الراهنية من احتدام وتغريب يحتاجان من الكاتب تخييلا لا يقترب من الواقع ولا يمسكه إلا لكي يحلق به إلى ما هو أسمى وأعلى.

وعندها تكون القصة القصيرة (قصة ميدانية) كنص سردي يتمحور حول حدث إنساني مستمر في تداعياته ومرتهن في درامية وقوعه بما يجسده من مشاعر وممارسات تجري على مسرح التظاهرات وفيها تتداعى الأفعال وتتابع المجريات بشتى الصيغ المخطط لها أو التي بلا تخطيط فثمة الى جانب القصدية بعض الانفلات والعفوية والفوضوية.

وكل ما على القاص فعله هو مزامنة وقوع الأفعال واقتناص الألفاظ بالتواتر في تصوير اللحظات وقد تساوى زمن القص وزمن الكتابة على أرضية مائعة يصعب تثبيتها بسبب التزامنية الراهنية التي فيها من المفاجآت والمفارقات ما يستدعي من القاص أن يكون متأهبا للطوارئ التي هي في كثير من الاحيان غير مطمئنة ولا متوقعة .

وعادة ما نجد مثل هذه الميدانية تزامنا وطارئية في إثناء الحروب الكبيرة والنزاعات الاهلية الطويلة والثورات المصيرية إلى غير ذلك من الوقائع القاهرة التي فيها تكون الشعوب هي وقودها البشري الذي يمد تلك الوقائع بالاتقاد والديمومة. وهو ما يدفع الكتّاب والشعراء إلى التفاعل معها مكتوين بتداعياتها اللاإنسانية المريرة ومعبّرين عن رؤاهم تجاهها ومجسدين أبعادها في تلاحقها وتسارع تداعياتها، مسلطين الأضواء على مسائل فكرية وأوضاع نفسية، فيها يتجسد البعد الانساني بشكل ميداني وقد تزامن ما هو راهن ومعيش بما هو إبداعي.

والقصة التي تكتب في أثناء هذه الوقائع القاهرة تجعل كاتبها ذا أدوار مختلفة، فهو الصحفي الذي يبحث عن السبق والمغامرة، وهو المؤرخ الذي يستثمر فورة الحدث كي يسجّله فلا تضيع بعض تفاصيله، وهو أيضا المراقب الذي يجمع الأدلة والشواهد ويسرد المجريات سردا يرصد فيه خرقا لحق أو انتهاكا لحرية.

ولا يخفى ما في التفاعل الإبداعي مع حدث واقعي راهن من مؤاخذات تجعل هذا التفاعل سلاحا ذا حدين، فهو من جانب يمكّن المبدع من اتخاذ موقف وقول رأي في هذا الحدث لكنه من جانب آخر قد لا يتيح له التأني والتفكر في دراماتيكية الحدث وقد تأخذه النزعة الصحفية وتستبد به العاطفة فينفعل منشداً إلى الموضوع على حساب الفن، غير قادر على الارتقاء بالتخييل إلى مستوى الحدث وما فيه من زخم إنساني محتشد بالمطالب والتمنيات.

وإذا كانت بعض الكتابات القصصية التي تناولت حدث التظاهرات لا تقدم ولا تؤخر، لأنها لا تتقن التعبير عما هو ميداني ولا تملك ما يمكنها من تصويره سردياً؛ فإن هناك كتابات نجحت في تجسيد الميدانية وقد تعايشت سردياً مع راهنية الاحتجاجات.

وعادة ما يمتلك الكتّاب الكبار هذه الميدانية، ومنهم القاص محمد خضير الذي جرّب كتابة القصة الميدانية معبراً تعبيراً إبداعياً حياً عن التظاهرات من ناحيتين: الأولى فنية، فيها توافق الاحتدام الدراماتيكي والتصوير البانورامي للحدث الواقعي مع الاختزال والتكثيف السرديين، والثانية موضوعية وفيها تجلت أبعاد الحدث الراهن السياسية وقيمه الانسانية بطريقة رمزية أو تعبيرية.

وسنقف عند ثلاثة تمثلات سردية للقصة الميدانية التي كتبها الأستاذ محمد خضير والاحتجاجات التشرينية كانت ما تزال قائمة وفي حالة تصعيد واضطرام. وهذه التمثلات هي :

التمثل بالسعادة

----

بحثت حنة أرندت مطولاً في مسألة “السعي وراء السعادة” فوجدت أن السعادة لا تتحقق بالعنف والوحشية كما كان يُظن سابقاً؛ بل تتحقق بالمرونة واضعة في المثقفين الثقة لأنهم كانوا وما زالوا جزءا من المجتمع وهم مدينون له بوجودهم وحضورهم حتى لو أنهم ثقفوا أنفسهم وطوروا عقولهم في عزلة اختاروها بحرية.

ولا شك أن الثورات والاحتجاجات والانتفاضات التي شهدتها بلادنا مطلع القرن العشرين وفي منتصفه هي غير ما يجري في قرننا الحالي من ناحيتي التنظيم والتوجيه أو طبيعة القيم وشكل الغايات. إذ ما عاد المواطن اليوم ينشد سعادة في وحدة قومية ونضال تحرري ضد المستعمر واستقلال وطني واقتصادي عن الشركات الامبريالية؛ بل صارت مطالبه محددة في التمتع بالحرية والمساواة والعدالة على المستويين الفردي والجماعي.

والسبب هو التحول الكوسموبوليتي في النظام العالمي الجديد الذي فيه انطوى زمن قيم المواطنة والمشاعر الوطنية ـ كما يرى تودوروف ـ فما نحبه في الوطن كما نحبه في الحرية هو تأمين منافعنا وأمننا والتمتع بالراحة في التحرك كما أن الوطن السياسي لا يقرب إلينا كقرب العائلة والأصدقاء والأماني والعادات وأن هذا البعد عن الوطن والشعور بالبرودة تجاهه هو في ازدياد سنة بعد سنة. (ينظر: الخوف من البرابرة، تزفتان تودوروف، ترجمة جان ماجد جبور، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الإمارات، ط1، 2009، ص74).

وهو ما نلمسه في قصة “توازيات وتقاطعات” (منشورة في جريدة طريق الشعب، العدد 13 السنة 86 بتاريخ 13 تشرين الأول 2020)، التي فيها تكمن سعادة السارد في أن يشاكس الحاضر بالماضي بكل ما في هذا الماضي من “محفوظات الأمس المرتّبة على مدى العقود الماضية” ويغدو الجدار رمزا لتلك المحفوظات التي هي عوائق أمام بلوغ الطموحات.

وتقود السعادة بممارسة هذه المشاكسة إلى نوع من الشعور بالتقاطع فيتحول ما كان بالأمس طموحا منظما الى نزق وجدب وفوضى “شعارات الأمس النزقة، تختلط بعبارات خليعة سافرة، ورومانسيات ثوروية غاربة. الجدار الذي عُدِيَ بشعارات الوقت السياسي المجدِب، ينقل عدواه للأبصار العابرة خطفاً أو مهلاً، مازجاً المسموحَ بالممنوع، النظامَ بالفوضى، الكهولةَ بالشباب”.

وهذا الشعور بالتقاطع يجعل القيم الوطنية تتراجع، سامحاً بالمقابل للقيم الفئوية أن تعلو. والنتيجة أنّ المتظاهر السارد يتوازى مع جماعة الصبية المتمردين والغاضبين، منتمياً إلى ما ينتمون إليه وممارساً ما يمارسون من “مراوغة الوعي الطافح بالسخط والعصيان الذي لا يعرف حدوداً.. يتظاهرون إزاء الحائط بما يكفي من النضج الثوري الذي يعني التغيير”.

فيغدو جمود الماضي متحركا ولولبيا وهو يتقاطع مع الحاضر. مما يسعد المتظاهر ويجعله أكثر مشاكسة حتى أنه حين يتفرّس في صفحة النهر الأخضر يرسل سهما “يخترق الروح ويشطرها كقبلةٍ سامّة”.

وتتعمق هذه السعادة وتكون أكثر حماسة واندفاعا وهو يتوازى مع جماعة الصبيان متلمسا من خلالهم خيوطا توصله إلى فك لغز الجدار الذي يصفه بالجذمور المعمر تعبيرا عما يسببه وجوده من إعاقة كبيرة “أتحسّسُ خبَلَ الصبيان المعبِّر عن هياجٍ مستتِر يوشك أن يطيح بالأمتار القليلة الباقية من العقل الاجتماعي والسياسي لمجتمع الجذامير المعمّرة قروناً. تنتشر الأشكال المتعانقة مع حروف الهوية الملتوية على سرّها الدفين”.

وكلما ازدادت الرسوم تتزحزح هذا الجدار أكثر وهو “يستنهض ذاكرته المضطهدة برسوم جديدة؛ يستعيد شخصاً (بلا اسم) يحمل سطلَ الطلاء كي يرسم ما تتوق إليه نفس رجل كهلٍ ألقته الجموع المتظاهرة إلى حافة الجدار”.

في إشارة رمزية إلى أن الرسوخ والثبات على ما كان قد أنجز وشُيّد في الماضي لا يكفي وحده لبناء حاضر سعيد؛ بل قد يكون ذاك التشييد والانجاز عائقا لا يمكن تجاوزه أو التفوق عليه؛ إلا بالتقاطع معه بالرفض والتضاد والتوازي مع غيره بالمشاكسة. وهنا تظهر أهمية الطاقات الجديدة التي يمثلها شباب التظاهرات في رفد الحياة بما يناسبها ويلائم متغيرات واقعها.

ولا عجب في أن زمن الثورات القائم على القوة قد ذهب وولى إرهاصا بزمن جديد يقوم على التظاهر والاحتجاج كوسيلة للتضاد مع ما هو سائد ولتغيير الحياة بطريقة ديمقراطية دستورية فيها الحريات مكفولة والحقوق المدنية مشاعة.

وهذه هي “السعادة” التي تسعى الشعوب إليها ويطالب بها السارد المتظاهر الذي يرى الأمور بمنظار الإنسان الجديد إذ “لا يمكننا الحديث عن الثورة إلا حين يحدث التغيير ويكون بمعنى بداية جديدة، وحين يُستخدم العنف لتكوين شكل مختلف للحكومة لتأليف كيان سياسي جديد، وحين يهدف التحرر من الاضطهاد إلى تكوين الحرية. الحرية مطلب على القائمة مقابل ضرورة التغيير.. فالحرية وليدة العنف، والتغيير وليد الزحزحة الكبرى للجدران والمتاريس السلطوية”.

والى جانب نشدان الحرية هناك التغيير كفكرة سعيدة يعمل السارد على مركزتها مرة من خلال ما يراه مصوّرا في عشراتُ اللوحات الجدارية على مداخل الجسر ونفق “ساحة التحرير” ومرة أخرى يراه في ما تصنعه مخيلته حول تظاهرات تشرين التي يراها متوازية مع “تجارب عالمية قاربت الثورةَ بمعناها الجديد، وأضعُ سقوط جدار برلين 1989 في ألمانيا مقابل محاولات ثوار تشرين إسقاط متراس الجسر”.

وتغدو السعادة مطلبا لوحدها لا تحققها الثورة؛ بل التظاهر الذي به يتحقق الاستقلال الذاتي والتكافؤ الفردي مع الآخرين في مجتمع رغيد. وقد عبرت قصة “الصحفي” ( منشورة في جريدة المدى، العدد 4596 بتاريخ 26 كانون الثاني 2020.) عن هذا التصور للإنسان الجديد من خلال فرضية ميكافيلية يفترضها الصحفي قد تجعل منه ملك الذباب كنوع من المفارقة بين الغاية التي هي السعادة والوسائل التي ليس مهما فيها كيف تكون.

ومن تلك الوسائل المرأة المسنة “نبيهة بنت حسن الكرخي” التي في ذاكرتها أودعت حقيقة المدينة فيعبر الصحفي إلى الجانب الآخر من النهر كي يقابلها ويجري حوارا معها مستطلعا فيه حياتها، لعله يقف على حقيقة ما يجري في مدينة الذباب “أنّ مضمون تقريره الذي نذرَ له وقته، ورهنَ حياته لأجله، يرتبط بالعنوان المجازيّ الكبير: مدينة الذباب”، ويصدمه ما يجده في ذاكرتها من علاقة خفية بين حكم ملكي غيرته الدهماء (عامة الناس) وبين حكم ديمقراطي على هذه الدهماء تغييره اليوم، فيقتنع أن هذه المرأة التي أرادها وسيلة ستغدو هي غايته التي تحقق له السعادة غير أنها تكون متحسّبة لنواياه فتموه الحقيقة بالإيهام مالكة وحدها سر التظاهرات.

ولا خلاف أن هذا الامتزاج بين العمل الفني والواقع الحقيقي يجعل الجوهر مختفيا في الظاهر ويغلغل الخيال إلى العقل الجمالي فيكشفه محررا الإنسان من أوهامه وتناقضاته.

تمثل اللامبالاة

رأى موكاروفسكي أن الأدب ـ بعكس بعض الممارسات الاجتماعية الأخرى ـ لا يحيا إلا بفضل مقدرته الدائمة على معارضة القاعدة الجمالية التي ينبغي أن يتجاوزها وارتباطا بالتجديد ونفي ما هو قائم (ينظر: النقد الاجتماعي، بيير زيما، ترجمة عايدة لطفي، دار الفكر للدراسات والنشر، القاهرة، ط1، 1991، ص300)، وقد يعني هذا النفي على المستوى السردي اللامبالاة التي بها تتم عملية إعادة إنتاج الواقع تصادماً وتمويهاً وتلاشياً وإبهاماً والتباساً.

وبسبب الطبيعة المزدوجة للميدانية تتغلغل اللامبالاة في القصة القصيرة التي فيها تتضاد القيم الاجتماعية مع بعضها بعضاً فيغدو المعنى هو اللامعنى وبالعكس.

وإذا كان الموضوع الذي تدور حوله القصة الميدانية هي الاحتجاجات؛ فإن التمثل بالمبالاة في التعبير عن فواعلها سارداً ومسروداً ومسروداً له هو الذي يحقق لهذه القصة وظيفتها في إعادة إنتاج الواقع واكتشافه. وهو ما تجسد في قصة “الاختطاف” (منشورة في جريدة المدى، العدد 4777  بتاريخ 24 أيلول، 2020)، التي فيها ثيمة الخطف محورية كمقصدية تأليفية عنوانا ومتنا. وما بين العنوان والمتن مسافة جمالية تعبيرية تدلل على أن الخطف حدث معتاد في أثناء التظاهرات التشرينية.

وتدور أحداث القصة حول رجل عراقي مغترب جاء من الدنمارك كي يعمل لصالح منظمة الجسور العالمية وتشاء الصدف أن يكون عمله تحت الجسر الذي كانت تجري عليه التظاهرات.. لكن رغبته في العبور الى الضفة الأخرى من النهر هي التي تضعه في الصورة مع المتظاهرين. فيغدو مرصودا من قبل فرق الخطف التي كانت تتربص بالشباب الثائر “توقّف على الضفة المقابلة يتأمل ليلة شباط الصافية، وفي عودته إلى بيته، اعترضته سيارات دفع رباعيّ، في الشارع الفرعي، وطلب رجالها المكمَّمون أن يصحبهم في جولة قصيرة”.

وهذه اللامبالاة في خطفه تعبير ميداني عما كانت تسببه التظاهرات في نفوس الفاسدين والمتواطئين من تخبّط وهلع وخوف وفزع فضلا عما تعنيه من حقيقة أن ما يسعى إليه الشباب التشريني من مطالب وما يبغون تحقيقه من أهداف هو عام في تطلعاته وشمولي لا يخص عراقي الداخل وحده وإنما يعني عراقي الخارج أيضا.

وقد دلل السارد العليم على هذه اللامبالاة بوجهة نظر خلفية وبتوصيف بانورامي متشيّئ بدا فيه المخطوف شيئا من مجموعة أشياء تتعامد على محور أفقي هش ومتحرك وورقي تمثله الصحف التي فرشت لتكون أرضية غير مستقرة عليها يدور “المختطف الوحيد ولا يوجد من يشاركه الدوران على محور ثابت في الأستوديو المظلم”.

وهذه اللامبالاة الوصفية تجعل الجسد مجموعة أعضاء خامدة بـ”عيون مُطبقة وأجساد موثَّقة او مجبَّسة ومُلقاة في ملجأ أرضيّ” فلا مشاعر ولا أفعال وقد تحوّل الزمان إلى لازمان، لا يعرف فيه صباح من مساء، وصار المكان ورقيا حتى لا فرق بين أن يكون هذا الورق ورق لعب أو ورق صُحف، ولا أهمية إن كان الورق مرزوما أو كارتونيا أو كان ألبوما من الصور أو أرشيفا من لوحات فوتوغرافية، ما دام لا يعين المخطوف على تحرير نفسه فما أن يتشبث به حتى ينطوي تحت جسده فيزحفَ لزحفه أو يتمزق بين يديه.

والمفارقة أن اللامبالاة التي مارسها الخاطفون ستجعل المخطوف مقاوماً بقوة، وها هو “يحس ويتذكر وينادي ويزحف” غير مكترث إن سمع نداءه أحد أو راقب تحركه أحد، مبددا الفراغ بالهذيان تارة بأغنية أو خطاب وتارة اخرى بتذكر صورة التقطها او اطروحة ناقشها.

وعندما يتذكر مشهد “رفاق الجسر المعتصمين في قارب مؤجَّر” يتيقظ وعيه فينتفض على الأرضَ المفروشة بالصحف بعينيه اللتين صارتا كاميرا مفتوحة “تضبط بؤرتها الزائغة، تستجمع ضوءها المخزون في بطارية رأسه.. استبقى بصَرُه الدائر منظراً واحداً، أخذ يعالجه في جمجمته طويلاً” وهنا ينفرج التأزم وقد أدرك المخطوف أن التظاهرات تعنيه مثلما تعني الشباب المتظاهرين وأن لامبالاة الخاطفين معه تعكس اضطرابهم ورعبهم من الخطر الذي يهددهم. ويكون في انتهاء القصة بإطلاق سراحه توكيد لحقيقة أن التغيير لا يحصل من دون مقاومة بها تتحول اللامبالاة إلى مبالاة ميدانية مكتنزة وغنية.

وتكون اللامبالاة بأمر المظاهرات في قصة “الصحفي” شيئا معتادا بالنسبة إلى الصحفي المتقنع بوجوه كثيرة وهو يبحث عن السبق الإخباري وعمل التحقيقات الجريئة وغير المألوفة، مختفيا وراء أقنعة كثيرة “قناع الممثل السينمائي خواكين فينيكس الذي عُرِف بدور الجوكر، والمراسل التلفزيوني أحمد عبدالصمد الذي اغتيل أخيراً، وشاعر ساحة التحرير الذي عُرِف بين المتظاهرين بحروف اسمه الرباعي ‘سديم’ داخل مدينة تعيش فوضى سياسية وقد تحول الجميع فيها الى ذباب والسبب ‘الفراغ الدستوري’ بعد استقالة رئيس الوزراء، وتفكك مجلس النواب، وانتشار فرق الاغتيال”.

وبسبب اللامبالاة يتفق الصحفي ورئيس تحرير الجريدة التي يعمل فيها على إشاعة الأخبار والتحقيقات بطريقة متضادة ومتناقضة، فيضيع الذباب في الضباب والصدق في الكذب ويختلط الوضوح بالتلغيز والأمانة بالغش ويمتزج السري بالعلني. ويغدو التكامل تناقضا والتناقض تكاملا داخل دوامة تنقسم عبرها المدينة إلى جزأين: علويّ يمثله المتظاهرون وهم يعتصمون في مرآب، وسفلي تمثله دار المسنين بنزلائها النائمين. ويتعاكس في نظر الصحفي هذان الجزآن ارتفاعا وعمقا فتبدو المدينة في تقاريره عبارة عن مبان قديمة وإطارات محترقة وبينهما “قد يكمن الشيطان في عباءة درويش.

وتتغير لامبالاة الصحفي إلى عكسها حين يشعر أن التحقيقات التي كتبها عن الخبّازين وصائدي السمك وصانعي المفاتيح وحائك السجّاد الريفي وصانع المهفّات الخوصيّة لا تساعده على بلوغ أوكار الذباب الموبوءة، فيعبر النهر باحثا عن المرأة المسنة لعلها تزوّده بما يمكنه من كتابة التحقيق الذي يتمنى، لكن لامبالاته بما ينشره هذه المرة تجعل الجريدة تُهاجم وتُضرم فيها النار لكونها خالفت المطلوب منها وهو تغييب دور المتظاهرين وتمويه مطالبهم المشروعة.

وتنتهي القصة وقد اتضح أن ما اعتقده الصحفي من وجود جزأين للمدينة علوي وسفلي مجرد وهم، وأن المدينة واحدة في جانبها المنتفض الثائر الذي يريد العبور إلى الجانب النائم والمسبت. ولا تخفى رمزية شخصية المرأة المسنة والملكة التي ستقود المتظاهرين إلى الضفة الأخرى وقد ترابطت المدينة بجانبيها ارتباطاً مصيرياً.

التمثل بالتشيؤ

----

إذا كان القرن العشرون قرن الثورات العربية بوصف الثورة أحداثاً سياسية مباشرة لا تقتصر على التحول شبه الطبيعي في شكل من أشكال الحكومة إلى شكل آخر (ينظر: حنة أرندت، ترجمة عطا عبدالوهاب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2008، ص27)؛ فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن السبرانية كقوة ناعمة افتراضية مرنة، فيها يمكن للهوامش استجماع قوتها لتكون مناهضة للمراكز. ومن سمات هذه المناهضة أنها شعبية ومسالمة وعفوية وذات طابع احتجاجي يتزايد تدريجيا إلى أن يصبح عارماً مليونياً.

وليس التغيير بالمظاهرات والاحتجاجات هو كالتغيير بواسطة الفعل الثوري الواقعي لأن هذا الاخير عادة ما يأتي مباشرا وسريعا ارتباطا “بفكرة أن الثورة تغير مسار التاريخ ليبدأ من جديد فجأة وكأن قصة جديدة تماما قصة لم ترو سابقا ولم تعرف قط هي على وشك أن تظهر”.

ولقد تمثلت القصة الميدانية النوع الأول من التغيير الذي فيه تلعب السبرانية دورا ميدانيا في التظاهرات سواء في طريقة التشكل الاحتجاجي غير المباشر او في تلقائيته ودراماتيكية توجيه التظاهرات وتداعيات مخاضاتها.

ولا شك أن القص وسيلة للتعبير عن الوجود وأداة من أدوات توكيد الذات. وما بين الذات والوجود مسافات من التخييل السردي الذي يتعزّز أكثر بوسائط التواصل الرقمية التي تتيح للسارد أن يصنع منها قصة تواكب التطور السبراني بطريقتين: الأولى هي طريقة كتابة قصة تفاعلية لم تلق بعد الاهتمام بسبب صعوبة التجريب في بناء نصوصها بالإفادة من البنية التشعبية (Hypertext) للحاسوب وما فيها من تداخل وتعدد صوت وصورة وكتابة وأيقونات فضلا عن انتفاء دور المؤلف والسارد بالقارئ الذي يمارس دوريهما معا.

والطريقة الثانية هي كتابة قصة ميدانية فيها يجرّب السارد صنع قصة ميدانية بمنظور سردي يجمع بين سارد ذاتي ذي منظور تعبيري ومنتجة مكانية بعين الكاميرا وبوجهة نظر وصفية خارجية والمحصلة ظهور سارد من الممكن تسميته بـ”السارد المونتير” الذي يتبنى تشيّؤ الواقع وهو يعبّر عن حدث التظاهر، معيدا إنتاجه من جديد “أوقِف اللقطةَ حتى صباح اليوم التالي، مع عشرات من لقطات الليلة الماضية. أعود في الصباح فأحرّك المشهد: الدخان ينعقد راياتٍ ملولَبة فوق البنايات الواطئة والجسور الداخلية؛ رائحةُ احتراق تملأ الهواء”.

وبجموح المخيّلة ودفقها، يتحكم السارد بتنظيم اللقطات الواقعية افتراضيا، مقدما لقطة ومؤخرا أخرى وقد يوقف لقطة هنا أو يؤجلها، ثم يحرك أخرى هناك، مختارا من اللقطات ما يشاء.

وهو ما يتجلى واضحا في قصة “توازيات وتقاطعات” التي فيها يجسد السارد ميدان التظاهرات افتراضيا من خلال مشاهد يجمع أجزاءها من أشياء وصور ممازجا بين سواكنها “متراس الجسر الكونكريتي والجداريات على مداخل الجسر والنفق والجرافيتات والنصَّ الملولَب والنهر الأخضر وظهائر الصيف القائظة” ومتحركاتها “صور الصبية العراة والوجوه العمّالية المكدودة والحماية البوليسية وصبّاغو المتاريس والشوارع والحرائق” وناسخا بعضها وملصقا أخرى بطريقة فنية تقوم على التقاطع والتوازي ما بين مخزونات الذاكرة الحية ومدخلات الذاكرة الرقمية المبرمجة “لا يقتضي سردُ العاصفة سوى الوصل بين السواكن والمتحركات كي تعمل ذاكرةُ النصّ آلياً وتقترب شواهدُ اليمين من كوامن اليسار، في القائمتين المتوازيتين. حركة لولبية متصلة على محور التجاور والتبادل. أبدأ بسحب شظيةٍ من قائمة الملاحظات اليمنى”.

ويؤدي الوصف بعين الكاميرا دورا مهما في المنتجة المكانية للصور التي تتداعى بشكل لا واع في ذاكرة السارد ممتدة إلى ماضي قريب “ليلة داجية من تشرين، طاف المتظاهرون خلالها حول إطارات السيارات المحترقة، في مركز البصرة، صاخبين ملثّمين، نصفَ عراة” محتسبا لكل خطوة بصريا وشميا وسمعيا كي يظهر هذا المشهد متكاملا ومعقولا على شاشة الحاسوب، محققا سعادة داخلية تعوضه عن تعاسة واقع خارجي عاجز وحزين ميؤوس من إصلاحه.

وبترتيب الصور الملتقَطة بالصور المسترجعة يتمكن السارد المونتير من منتجة التظاهرات محاكيا ما في الحدث من تجاذبات وتنافرات صانعا قائمتين متوازيتين لكنهما متحركتان على محورين عليهما تتقاطع الأشياء، تعبيرا عن واقع جديد سيخلخل المركز بالتظاهر والتحاور السلميين.

وهذه الرؤية المستقبلية التي نستشفها من تمثلات القصة الميدانية عند محمد خضير هي المنتظرة والمأمولة تطلعاً إلى مجتمع عصري فيه المواطن إنسان جديد متحرر ومستقل، يملك القدرة على التعبير الواعي عن نفسه، ولديه في الآن نفسه إمكانيات التفكير في الآخرين، متضامناً ومتصالحاً من أجل الصالح العام.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.