السردية واغتيال الهُويَّة
العجمة هي فكّ الإبهام أي إزالته بحسب المعجم العربي، وفي قوله تعالى: “وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ” (فُصّلت 44) “لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ” (النحل 103) (قرآن كريم).
إن مصطلح “أعجميّ” ليس نبتًا شيطانيًّا في الثقافة العربية، فلم تتفرد به هذه الثقافة دون سواها من ثقافات العالم الأُخرى، بل لا تكاد تخلو منه ثقافة من هذه الثقافات؛ وهو ما وجدته عند اليابانيين وسواهم، ومن بين ما يعنيه هذا المصطلح الكشف عَمّن لا ينتمي إلى ثقافةٍ قومٍ من الأقوام، وهكذا استعمل في الثقافة العربية.
ولا أحسب أن العرب واليابانيين وسواهما من شعوب الأرض تقصدوا الاستعلاء والشعور بالتفوق على مَن هو خارج عن ثقافتهم. ومَن يُدقّق في مصطلح “أعجميّ” يجد نفسه في منأى عن اتهام العقل العربي بالعنصرية والشعور بالتفوق، إذا ما أفرد للمستعربين أو الأجانب ووضع لهم حقلًا خاصًّا بهم.
ذكرتُ هذا لأناقش صورة العربي في محيطه ولا سيّما عند مَن يشاركونه وطنه، وهي صورة كُنّا نجد صعوبة في التعرف عليها ونحن داخل أوطاننا، ومع خروج أعداد كبيرة من سكان المنطقة العربية بتنوعهم اللغوي والإثني نحو بلدان اللجوء والهجرة، وتزامن ذلك الخروج مع ثورة الاتصالات والتواصل الاجتماعي، بكل مغرياتها المتمادية إلى حدّ حرية القول والتعبير المنفلتين؛ جعلت صورة العربي عند الآخر (وهو الشريك) مكشوفة للعيان.
وهذا ما يجعل الكتابة في هذا الموضوع ليست كتابةً ظَنِّيّة، وإنما مبنية على تجربة الكاتب مع الآخر-الشريك الذي يحمل معالم الصورة السلبية للعربيّ. وقد أسهمت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في تعزيزها لديه، وكشفت من جانب آخر حقيقة هذه الصورة. ولم تقف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي عند هذا الحدّ، بل كشفت للعرب بخاصة صورتهم التي رسَّخَتها سرديات الآخر-الشريك بكل سلبياتها التي غَذّتها سياسات الأنظمة العربية، وقد عمدت هذه السياسات من جانب آخر إلى أن تجعل من هذا الشريك ضحية لتهميشٍ قمعيٍّ، خَلَّفَ وراءه شعورًا بالتفوق الحضاريّ على العرب.
انتقاد الهُوِيّة العربية
إن نزعة اليسار في الشارع الثقافي في العراق بصورة عامة، ولا سيما بعد عام 2003 ميلادية، جعلت خطاب السلطة القومية “العربية” على المحكّ، فلم تُسعف المناهج التعليمية، ذات المنحى القومي بمقترحات جديدة تهدف إلى الحفاظ على الموروث وعدم التأثر بالهيمنة “التقدمية” المبنية على نقد الذات العربية، والنظر إلى الفتوحات الإسلامية بوصفها غزوات، بل إن محاولات متعددة من قبل الباحثين العرب ركّزَتْ ودقَّقَتْ في التقاط كل شاردة وواردة تُثبت سوء العرب ودمويتهم. وما زالت هذه المحاولات مستمرة بل إن بعضها وصل في مُخيّلة الآخرين إلى مستوى من التزييف بمكان بأن جعل سوء ودموية العرب حقيقة ثابتة.
الحديث أن يكون مُتَجَذِّرًا في بلد كتابي تدويني مثل العراق وسوريا ومصر. إن الخلل قائم في الأنساق الثقافية والحوامل الاجتماعية التي استقرت في قاع الوعي الجمعي في شعوب المنطقة، وإن مجرد الشعور المنافي لِقِيَمِ الدولة المدنية -وهي دولة المواطنة وعدم الانتماء إلى ثقافتها الجامعة- يُعدّ انتهاكًا صارخًا لعرى الوحدة الوطنية، وقنابلَ موقوتة لتدمير الأوطان والهويات الكبرى، فحين تشعر مجموعة سكانية بشعور يؤدي إلى امتيازات مُعينة تقود أي إرهاصة غير طبيعية إلى شرخ واضح في السلم الأهلي
هكذا وجدت نفسي كما الآخرون منخرطًا في سردية مبنية على عدم الفخر بالماضي مهما كان، وترديد ما تتداوله الثقافة الشائعة، ولكن ذلك لم يمنع من أن تحاصرني أسئلة كثيرة، وظلت تلح عليّ، ومنها ما هي صورة العربي عند غير العرب ممن يجاوروننا جغرافيًا؟ وأعني بها صورة العربي عند جيراننا الفرس والأتراك، وعند شركائنا في الوطن من غير العرب.
وأسعفني الاهتمام بالتنوع اللغوي والعقائدي، بوصفهما ثراء للبلاد ويجب الحفاظ عليهما لما يمثلانه من صمام أمان للسلم الأهلي، فالملاحظ أن التنوع يمنع بروز التطرف ولا سيَّما عند شعب يُعَدُّ التنوع صفة رئيسية فيه، أقول أسعفني بما لم أكن تعلمته، فصورة الآخر-الشريك في الوطن صورة جميلة لا عيبَ فيها، تضاهي صورة الجيران التي ليست على هذا النحو، لأننا نعلم أن صورتنا لديهم سيئة وسلبية للغاية؛ بينما صورة غير العربي مُنَمَّقَة وتكاد تكون صورة “شريك” مثالية، حتى لو تم ذكره للتندر والطرافة.
ويملك الآخر-الشريك مقومات إيجابية في الحالات جميعها، حتى كأنه الصورة العكسية والمناقضة لنا نحن العرب؛ وهذه الصورة تبدأ من الصدق والنظافة والتواضع والتحضر، وهي لا تنتهي إلّا على ما يتمتع به من عراقة أو تفوق ثقافي أو تاريخي. على الرغم من إجحاف هذه الصورة بحق العرب، إلّا أننا لم نفكّر يومًا بدراستها، وتفكيك ما فيها من صورة الآخر-الشريك، لمعرفة سردياته المضمرة، ومعرفة صورتنا نحن العرب في المضمر من هذه السرديات.
كان العيش كما أسلفت مع هذه المجموعات السكانية في بلدان اللجوء يكشف عن حقيقة هذه الصورة، حيث تفتح “الحرية” للجميع أوسع أبوابها، حتى يتملكهم إغراء في نزع ثوب “التقيّة”، وتمنحهم فرصة سانحة لكشف حقيقة سردياتهم وما تضمره من خطاباتها، فقد يتحول الخطاب المضمر في بلداننا إلى خطاب معلن وعلى نحو قد يصل به الأمر إلى أن تتقاسمه نزعات متعددة ولا سيما في بلدان اللجوء.
فمن بين ما كشفت عنه هذه الخطابات أن هذه المجموعات السكانية كانت ترزح تحت نسق ثقافي وجدنا أنفسنا جميعًا نغرف منه، وفي مثل هذا النسق وهذه الأجواء لا يمكن الكشف عن الحقيقة وسواها؛ فالمفاضلة بين مجموعة سكانية وأخرى لا يمكن أن يتصدرها فهم قائم على أن هذه المجموعة أكثر إنسانية وثقافة وتحضرًا من الأخرى.
وعلى الرغم من وجود التطرف عند كل طرف إلّا أن هذا لا يلغي أن العرب قد تصدّر تراثهم التدويني، ولا سيَّما في نشرهم لدينٍ سماويٍّ، ولا يشفع للآخر ما يرتكز عليه من سرديات مبنية على نظريات لا أدلّة مادية تُثبتها. وفي موضع المقارنة يؤمن الآخر-الشريك بكل ما تقدمه السرديات الفارسية وسرديات الاستشراق، فصورة العربي لديه سلبية، حتى كأنه يبحث في كل مثلبة دوّنت أو قيلت عن العرب ليتبناها.
والملاحظ أن هذه السرديات كلما تضخّمَتْ صارت تحكي عن أمجاد -مُتَوَهِّمَة بطبيعة الحال- وفي الوقت نفسه أخذتْ تحط من شأن العرب، ولكثرة ما ادّعته باتت تؤثّر على نحو فاعلٍ في العقل الثقافي العربي، ومن البديهيّ أن يتولد شعور بالغبن لدى الشريك، وأن يجري على لسانه سؤال: كيف يحكمه “هذا العربي الجلف الصحراوي”؟
لقد صَغَّرَتْ الأقليات من صورة العربي، فلم تكتف بنعته بالبداوة بل أضافت إليه سمات سلبية كثيرة، والأخطر من ذلك أن الأمر قد وصل إلى المساس باللغة العربية نفسها، فمما تعتقده هذه الأقليات أن أهل البلاد الأصليين تبنوا اللغة العربية؛ إذ لم تكن لها سابقة في العراق وما جاوره من مناطق الحضارات القديمة، وبعد أن تبنوها ضَخوا آلاف المفردات الحضارية فيها، ولم يجرؤ أحد حتى هذه اللحظة على نعت اللغة العربية بأنها على طورين.
فمما يجهله هؤلاء أن ما أجمع عليه علماء اللغة عامة أن لكل لغة ثلاث مراحل، وهي في الغالب تبدأ بالنشأة وتمر بمرحلة الشباب ثم الشيخوخة والاندثار، والعربية هي لغة متفردة خالفت هذه السُّنَّة، فلا تُعرف لها نشأة، ولم تُلحظ منها نهاية قريبة. وإن دلّ ذلك على شيءٍ فإنما يدلّ على عمق تاريخي طويل لهذه اللغة، وسعة متفردة بين اللغات، وما فكرة اقترانها بالبداوة إلّا بعد نزول القرآن، وتصدّر الحجاز الحاضرة بوصفه مركزًا معرفيًّا.
لم تبخس مدوّنات ما قبل الميلاد العرب واللغة العربية، إذ يُشير “رُبِرْتْ هُيْلَنْد” -على سبيل المثال- في كتابه “تاريخ العرب في الجزيرة العربية” إلى اللهجة العربية البابلية، أي أن العرب يشكّلون جزءًا من النسيج السكاني لبابل، فضلًا عن أن أقدم النقوش العربية وُجدت في العراق من القرن التاسع قبل الميلاد والقرون التي تلته.
على الرغم من هذه الأدلة التاريخية الدامغة، ما زالت هذه السرديات تصرّ على طرد العرب من البلدان العربية خارج ما تعارف على تسميته في التراث الإسلامي بـ”شبه الجزيرة العربية” وإعادتهم إلى “صحرائهم” والإساءة إلى اللغة العربية واتهامها بالصحراوية ونسب الآلاف من المفردات العربية إلى لغات أخرى، إِمّا أقدم منها مثل السريانية، وقبلها الأكدية، أو نسبتها إلى الفارسية، وأما الأخيرة فقد اجتهد بها -على حدّ زعمهم- علماء اللغة العربية من ذوي الأصول الفارسية في العصر العباسي.
وترفض هذه السرديات رفضًا قاطعًا ما اتفق عليه المؤرخون اليونانيون والرومان فيما يخص انتشار العرب في عموم الهلال الخصيب ومصر، وما ذكره المؤرخ بليني الأكبر (ت 79م.) من أن شمال شبه الجزيرة العربية يمتد حتى شمال الرها وعنتاب أي العمق التركي اليوم، واتفاق هؤلاء المؤرخين على عروبة الميسانيين (مملكة ميسان) والبريطاويين (في سنجار) والأباجرة (في الرّها – أديسا) وسكان الحضر والأنباط في البتراء (البطراء) والإيطوريين (في جبل لبنان) وسكان تدمر والحمصيين (في وادي نهر العاصي) والأدومينيين (في جنوبي فلسطين). (تاريخ العرب في جزيرة العرب، رُبِرْتْ هُيْلَنْد، ص98).
إن سردية الآخر-الشريك لا تتوخى الدقة والأمانة العلمية في طرح هذه الإشكالية التاريخية، فالواقع السياسي والجغرافي والاجتماعي يرفض أن تتحول مجموعة سكانية جلبها الاحتلال البريطاني من جبال عالية ووعرة، تتحوّل إلى “سُكّان أصليين” (الآثوريون في العراق، ص91 وما بعدها، وبارمتي، ص 113. ويغرام. ص 79) وأن مجموعات شفاهية أخرى جاءت مع تنامي صناعة النفط (بطاطو،3، ص223) إلى الداخل العراقي من خارج الحدود أو من الأطراف الملاصقة لها، لتزعم أن حقّها تاريخي في هذه المدن التي نزحت إليها، علمًا أنّ كل ما دُوّنَ في هذه المدن والأطراف المجاورة لها دُوّنَ بغير لغتها؛ إذ لا يمكن للشفاهي حتى العصر الحديث أن يكون مُتَجَذِّرًا في بلد كتابي تدويني مثل العراق وسوريا ومصر.
إن الخلل قائم في الأنساق الثقافية والحوامل الاجتماعية التي استقرت في قاع الوعي الجمعي في شعوب المنطقة، وإن مجرد الشعور المنافي لِقِيَمِ الدولة المدنية -وهي دولة المواطنة وعدم الانتماء إلى ثقافتها الجامعة- يُعدّ انتهاكًا صارخًا لعرى الوحدة الوطنية، وقنابلَ موقوتة لتدمير الأوطان والهويات الكبرى، فحين تشعر مجموعة سكانية بشعور يؤدي إلى امتيازات مُعينة تقود أي إرهاصة غير طبيعية إلى شرخ واضح في السلم الأهلي.
وهذا يحدث غالبًا حين تفكر الأغلبية بحقها المطلق في قيادة البلد، أو ترى مجموعة سكانية تُؤلّف غالبية في جزء من البلاد أن من حقها الاستيلاء على هذا الجزء بحجج أو بأخرى، كحق تقرير المصير، أو تصرّ مجموعة أخرى على أنها من سكان البلاد الأصليين دون غيرها، وتُزكّي مجموعةً سكانية أو أكثر، على حساب غيرها، من دون النظر في من تزيحه من المجموعات السكانية الأخرى ولا سيما من “جـنّة السكان الأصليين”. وحين يحدث ذلك على أرض الواقع تدخل البلاد في نفق من الصراعات.
إن تاريخنا بلا أدنى شك ليس تاريخًا ورديًّا يخلو من الأشواك، أو تاريخًا ناصعًا لم تُرتكب فيه جريمة قط، وفي المقابل لم يكن تاريخًا دمويًّا شاذًّا عن تواريخ الدول والممالك والشعوب والأمم، مثلما يحاول الآخر تصويره، بل كثير منهم لم يكتفوا بهذا، فراحوا يزعمون مزاعم لا تمت لأبسط قواعد الكتابة بشيء ناهيك عن البحث العلمي وما يتطلبه من دقّةٍ وأمانة ونكران الذات؛ فقد أخفق هؤلاء في الخروج من النسق الثقافي والحوامل الاجتماعية التي أنجبت الأنظمة السياسية العربية ذات التوجه القومي العروبي الذي يُلغي الآخر المختلف وهي تحاول تذويبه في “الأيديولوجيا العربية”.
فقد تجاهلت هذه “الأيديولوجيا” مثلًا دور غير العرب المسلمين في تشكيل تاريخنا، وبناء على هذه النظرة تكاد الأقليات قاطبة تتفق على إقصاء العرب من أيّ خصلة حميدة، فالعرب بحسب زعم بعض متطرفي هؤلاء “متوحشون” لقربهم من الحيوانات؛ فإن أكبر قبائلهم ذات تسميات حيوانية، مثل أسد ونمر وثعلبة وضبة ويربوع وكلب، وإلى آخر قائمة أسماء الحيوانات.
تحاول الأقليات إقصاء العرب من أي فعل يُشير إلى الحضارة، على الرغم من أن اللغة العربية لغة الحاضرة، فَثَراء اللغة العربية هو البرهان الأكبر على انتشار العرب على مساحات شاسعة متنوعة جغرافيًّا، وأولى نقوش اللغة العربية في العراق (القرن التاسع والثامن والسابع قبل الميلاد) وعراقية الحرف العربي وكثرة النقوش بهذا الحرف في بلاد الشام، وفرض اللهجة العراقية لتكون لغة الشعر والخطابة، ومن ثم تبناها القرآن الكريم لتكون اللغة المعيارية للعرب العاربة والمستعربة على حدّ السواء.
يستمد الآخر-الشريك قوته من مصادر متعددة، أولها خطأ العربي حكومة ومؤسسات ونخبًا وأفرادًا بعدم الاهتمام بقراءة تاريخه العام أي تاريخه الثقافي والاجتماعي والطبقي والعقائدي، وصراعات المجموعات السكانية الداخلية ومن ثَم -وهو الخطأ الثاني- صعوبة الوصول إلى تفكيك سردياته. وهذا يقود من بين ما يقود إليه، إلى التعاطف غير الإيجابي مع مجموعات سكانية دون أخرى، ورفع شعارات لا تنم عن قراءة واعية
وفضلاً عن هذا وذاك، كشفت الحضارة العربية عن ابتكارات لم يعرفها العالم وأولها صناعة أول معجم في تاريخ اللغات في العالم (معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي)، وثورة التعليم التي قادها العرب حين وفروا التعليم لكل طبقات المجتمع مجانًا، فهم يتكفلون بمسكن وملبس وإطعام طالب/ طالبة العلم، مما جعل القراءة والكتابة لأول مرة في تاريخ البشرية متاحتين للناس كافة، وقد أَدّى ذلك إلى ظهور المثقفين من طبقة الفقراء لأول مرة في تاريخ الثقافة.
سردية الذات المتضخمة
يستمد الآخر-الشريك قوته من مصادر متعددة، أولها خطأ العربي حكومة ومؤسسات ونخبًا وأفرادًا بعدم الاهتمام بقراءة تاريخه العام أي تاريخه الثقافي والاجتماعي والطبقي والعقائدي، وصراعات المجموعات السكانية الداخلية ومن ثَم -وهو الخطأ الثاني- صعوبة الوصول إلى تفكيك سردياته. وهذا يقود من بين ما يقود إليه، إلى التعاطف غير الإيجابي مع مجموعات سكانية دون أخرى، ورفع شعارات لا تنم عن قراءة واعية تضمن لهذا التعاطف أن يكون حكيمًا ومنصفًا.
هذا التعاطف في الكثير من الأحيان يصل بنا إلى فجوات وطنية وقومية ودينية بكل ما تنطوي عليه مفردة “فجوة” وهم يجهلون آثار التمييز غير المنصف، والأدهى من ذلك أنهم يدعون إلى مراعاة حقوق الإنسان وحق تقرير المصير؛ إذ لا شروط وطنية تضعها النخبة العربية على شركاء الوطن مقابل التعاطف والدفاع عنهم، وأهم هذه الشروط: نعم لحقوق غير العرب المسلمين على شَرطي الإيمان المطلق بوحدة التراب الوطني وبأن اللغة العربية لغة تجمعنا، أي الإقبال على تعلمها بوصفها اللغة الوطنية الأولى للجميع، مثلما بقية اللغات يجب عَدّها لغات وطنية، لا النظر إلى اللغة العربية بوصفها لغة مفروضة من قبل العرب “الغزاة” أو العرب “الأجلاف”، ولا لإهمال أيّ لغةٍ وطنية أخرى، مهما كان عدد الناطقين بها قليلاً.
وما ذُكِرَ أعلاه جعل الذات عند الآخر-الشريك ترتفع نرجسيتها، فهو لا يتقبل النقد البناء والتفكير العلميّ وبيان حقائق التاريخ والجغرافيا، إلى أن أصبح أي حديث علمي عنه لا يتوافق مع سردياته المبنية على الاحتمالات، يُعدّ جرحًا لنرجسيته المتضخمة، ودليلاً آخر مضافًا إلى خزائن سردياته المليئة بكل ما يحط من شأن العرب، أي لكل ما يؤدي إلى قتل العرب معنويًّا، عبر إلصاق تهم العنصرية والشوفينية والاستعلاء والظلم، لأن الذات المتضخمة عند الآخر-الشريك لا تسمح للعربي الذي أشبعته قتلًا في مخيلتها، بأن يقول الحقيقة عبر بحوثه ودراساته، وإنما واجبه أَن يُردّد ما تريد سماعه لتدغدغ به نرجسيتها، وعليه أن يُوصم نفسه وتاريخه بما أَصَّلته عنه في سردياتها.
من هنا تتضح صعوبة أن يتقبل الآخر-الشريك أي قول يصدر من عربي لا يتضمن كيل المدائح له، والتباكي على مظلوميته على يد العرب، ولأنه يملك خزينًا من التسقيط والاتهامات والشتائم لأي عربي يتجرأ ويفكّك مزاعمه المؤسسة لسردياته، فهو يستعملها خطًّا هجوميًّا يُرهب به العربي، ويجبره على الانزواء والتسليم وعلى تكرار ذلك مرارًا لكي يتحول إلى سلوك جمعي؛ إذ يقوم عدد كبير من أبناء الشريك بِشَنِّ هجومٍ تسقيطي ولا يُغفل التسقيط الأخلاقي، وثلب الشرف لما له أهمية في مجتمعاتنا الشرقية.
إن قراءة التاريخ على نحو متمعن تُسهم في ملء الكثير من الفجوات التي كانت ولا تزال سببًا مباشرًا في الصراعات الأيديولوجية والعرقية والعقائدية والمناطقية. وتكون هذه القراءة صعبة ومستحيلة في بلدٍ لا يهتم أبناؤه بتسجيل حقائق تاريخهم؛ كيف ونحن في العراق، وهو حاضرة تاريخية لم تترك شاردة وواردة دون تدوين، بل أفاضت على الشعوب المجاورة، وعلمتها ثقافة التدوين باللغة العربية وبلغاتها الأم. وأمام هذه الحقيقة لم تترك المدونات التاريخية السابقة رأيًا لأحد سوى التأمل وإعادة النظر والحفاظ على الحقيقة التاريخية كما هي.