السرد بضمير المتكلم

قراءة في المشروع السردي للطفية الدليمي
الأربعاء 2020/12/02
لوحة: ستار كاووش

هذه ورقة!، لن أدعي بأنها مادة نقدية، بأدوات ومنهج، لكنها تتّسم بكونها ذات طبيعة احتفائية، احتفاء بالسيرة، بالمنجز الذي اعتبره مشروعا تنويريا، وليس أصعب على القارئ من الخوض في تجربة ابداعية غطت نصف قرن من الكتابة وأكثر، وعشرات الأعمال من روايات وقصة ودراسات وحوارات وترجمة؟ إذن هي رحلة في سيرة كاتبة هي سليلة مراحل من عمر الأنوثة، الأنثى الألهة التي كانت تحرك المصائر، مروراً بمرحلة الحكّاءة التي تحاول أن تعيد لحياتها التوازن، الحكّاءة التي أنجبت فيما بعد الكاتبة، ولا بد من الإشارة هنا إلى الزمن الطويل، المساحة البيضاء بين الحكي والكتابة، هي المساحة نفسها بين اللفظ والمعنى كما يقول عبدلله الغذامي في كتابه “المرأة واللغة”. حسنا، بالنسبة إليّ أجد من المهم في البداية المرور على كتاب لطفية الدليمي “عصيان الوصايا” فهو ينطوي على سيرة حلمية لصبية هي ابنة النهر والبستان والحقول، حيث يحضر هذا التصور باعتباره فكرة تحيل إلى الجريان! لقد كانت لطفية الدليمي في حياتها ومنجزها تجري مثل نهر، بل سيكون حضور الماء بوصفة جريانا طاغيا في مجمل مشروعها السردي الذي بدأ بلقطة تشبه ما تمنحه الأقدار لنا، أو تفرضه علينا، فهي في كتابها عصيان الوصايا تقول “عند ما لمست يداي أول كتاب – غير كتب المدرسة – دخلت أنفي رائحة التبغ الخام ممتزجة برائحة الكتب الصفراء، الورق الهش والطباعة الحجرية، مزيج من روائح كانت تفور من نبع سري في حجرة معتمة تسللت إليها ذات ظهيرة صيف، أنا الصبية الصغيرة التي تتصبب عرقاً وترتعش وهي تعبر الغرفة إلى كشوفاتها الأولى لتمزق أول الحجب، كان الخوف من انكشاف تسللي إلى حجرة المحرمات يرعش يدي النحيلتين وهما تقلبان الكتب الشهية في بصيص نور يتسلل من كوة وسط السقف يدعونها “السماية” والكلمة تصغير عامي لصفة منسوبة للسماء. كانت السماء سندي في الانغماس بالخطيئة الأجمل: استراق قراءة الممنوع والمحظور”.

في هذا المقتطف، تظهر كلمة سماء وكأنها الينبوع الذي تهبط منه الأحلام والنصوص والأسرار، فالسماء كانت دائما ومنذ البدء هي الجهة التي تذهب إليها الأسئلة، وتهبط منها الإجابات، إنها المساحة الحلمية، وهي جاهزة دائما لتقرضك ذهنا صافيا، العلاقة معها غالبا ما ترافقها العزلة، إنه نوع من التواصل لا يحتمل وسيطاً، ذات مستقلة  في طرف من الخيط، يمتد طرفه الآخر داخل السماء الفسيحة. من هنا، من تلك الغرفة الممنوعة، بدأت الرحلة الحلمية، حلم البنت الصغيرة التي تعيش في فضاء ريفي تحيط به الأنهار والحقول، لكنه أيضا فضاء محكوم  بقائمة من المحرمات، فكان لا بد من كوّة، نعم كوّة صغيرة تطل منها على ذاتها وعلى العالم، فكانت القراءة، ثم الكتابة التي ستفتح لها فيما بعد مسارات الكشف، الابواب التي تؤدي الى بعضها كأنها متاهة، العالم متاهة، ورحلة لطفية الدليمي فيها من الرجاحة العاطفية والعقلية الكثير، وفيها في الوقت نفسه الكثير من المعاناة والألم. أدونيس يكتب في مقدمته لكتاب غاستون باشلار، الماء والأحلام إنه «علم بلغة الشعر»، و«شعر بلغة العلم». أما الفيلسوف الفرنسي فيرى أنه إذا كانت الطبيعة تنتج أزهاراً، فإن الخيال يحفر عمق الكون متجهاً نحو الكشف عن البدائي والسرمدي معاً، للهيمنة على العارض وعلى التاريخ. والخيال ينتج في دواخلنا براعم يحاول باشلار اكتشافها عبر قراءته قصائد شعرية لكبار شعراء العالم. لكن البراعم التي يحاول اكتشافها في هذه القصائد هي براعم مائية.

الفحص السريع للمنجز الأدبي الذي قدمته لطفية الدليمي، يحيلنا كما أرى إلى حقيقة تتعلق بفكرة الرد المضاد، إنه أدب الشك بكل نسق ثابت، أدب التفكيك والأسئلة اللجوجة، فاللغة الأدبية كما يقول رولان بارت، في كتابة أسطوريات، تقوم بمهمة التأكيد – من خلال أساليبها وتركيباتها وطبقاتها الدلالية المتعددة – على الردّ المضاد.

ما هو الرد المضاد؟

لوحة: ستار كاووش
لوحة: ستار كاووش

هنا – في هذا المدخل – أحاول إيضاح ما تنطوي عليه هذه المهمة الرد المضاد، فهي  تنطوي على إعادة ترتيب مقررات النظام، من خلال خلخلة الأنساق الاجتماعية والثقافية بشكل عام. فيكون دور اللغة الأدبية هنا، صناعة الخطاب السردي، وبواسطة طاقة الحكي، يمكن تشريح الثوابت، والكشف عن الدسائس التي أقرّتها عقلية التهميش النفعية فيها، وأنساق التزييف التي نسجتها أصابع التاريخ. حسنا، ما يفعله السرد في الواقع هو خلق عوالم موازية، جدال يشبه محاولة تقويض بناء الأحكام المسبقة التي أنتجتها الوقائع، تفكيك الصورة القديمة، إعادة إنتاجها ووضعها في سياق جديد، فكل كتابة هي جديد، وكل نص هو ردَ مضاد.

والنص يتشكل عند لطفية الدليمي محملاُ بروح الأنثى الحاملة لهذا الردَ، فهي تستدعي بشكل مركز صورة الأنثى الإلهة، كما في مسرحيتها “الليالي السومرية”، شخصية نيسابا سيدة المعرفة، وشخصية المرأة العرّافة، التي تظهر كصوت خفيّ لامرأة رائية تُنذر وتوجّه الأحداث، وشخصية أورورا الخالقة، التي تتبادل أدوارها مع عشتار وشمخت الغانية؛ إنها تقدم رؤية مغايرة لصورة المرأة المنمط في الملحمة. في مشهد من المسرحية، يقف كورس الآلهة وبصوت واحد يقولون: نحن مجمع آلهة أوروك نناشدك أيتها الإلهة أورورك، يا من خلقت الثور الوحشي الجبار جلجامش، والذي يضطهد الناس بمظالمه ليل نهار، ابن لوكال بمدا المكتمل القوة…… ثم تهبط أورووك، تتجه إلى الشاطئ، وتغسل يديها بالماء وتقول: على هيئة الإلة آنو، سأجعله وأمنحه القوة والبسالة.

أما الصورة الثانية التي تحرك المشغل السردي للطفية الدليمي هي صورة الحكاءة التي تواصل الحكي كي تقدم مرافعتها الناجحة من أجل الحياة، ومن أجل الشراكة، فهي تعترف في كتابها عصيان الوصايا، أن أول كتاب حصلت عليه هو كتاب ألف ليلة وليلة، وهذه الإشارة ليست عابرة، إنها علامة على تلك الرغبة الأصيلة بالتواصل مع  السلسلة الأنثوية، حتى تصل في المرحلة الأخيرة من رحلتها، إلى الأنثى الكاتبة، والتي تملك قوة الخطاب، وملفوظات اللغة بكل ما تملكه هذه الألفاظ من قدرة على المحاججة أمام التاريخ.

لقد كان  تعبير رولان بارت “الرد المضاد” إذن، اكتشافا رافقه الخوف، لكن هذا الخوف لم يكن سوى الضرورة التي ترافق كل كشف جديد. تقول في جزء من عصيان الوصايا “في حجرة معتمة تسللت إليها ذات ظهيرة صيف أنا الصبية الصغيرة التي تتصبب عرقاً، ترتعش وهي تعبر الغرفة إلى كشوفاتها الأولى لتمزق أول الحجب. الخوف من انكشاف تسللي إلى حجرة المحرمات علامته ارتعاش يدي النحيلتين، لقد كانتا تقلبان الكتب الشهية في بصيص نور يتسلل من كوة وسط السقف”.

ومفهوم الرد المضاد عند بارت، نجده عند مئات الكاتبات الشجاعات في رواية “اللون أرجواني” للكاتبة والشاعرة والناشطة الأميركية أليس والكر مثلاً. فهي حكاية عن حياة النساء، نص فتح جرحا في ضمير العالم، وعرض أمام التاريخ صورة عاره، نص هو أشبه بمواجهة شجاعة لواحدة من السلالة الطويلة لشهرزاد، إذ حاولت أليس في روايتها تفككيك عقلية الاستبداد والعنف. خضعت الرواية بالطبع للرقابة في فترات عدة، منعت في الولايات المتحدة من التداول، لكن الكاتبة كانت تردد دائما “يجب أن تكون المرأة مليئة بالشجاعة لتحقيق أحلامها النائمة”. في النهاية ظهرت أليس والكر شجاعة حقاً، فلقد استطاعت من خلال الحكي أو الكتابة فيما بعد أن تقدم مثالا عن المرأة التي تحاول إيقاظ  جمرة أحلامها من تحت رماد النوم. في النهاية تأخذنا تجربة لطفية الدليمي إلى هذا المقتطف المختزل لفيلسوف الأنوار كانط “إن بلوغ الأنوار هو خروج الإنسان عن القصور الذي هو مسؤول عنه، والذي يعني عجزه عن استخدام عقله دون إرشاد الغير. وإن المرء نفسه مسؤول عن حالة القصور هذه، عندما يكون السبب في ذلك ليس نقصًا في عقله، بل نقص في الحزم والشجاعة في استعماله دون إرشاد الغير. تجرّأ على أن تعرف. كن جريئا على استعمال عقلك. ذلك شعار الأنوار!”.

ومادامت هذه الورقة التي كما وصفتها ذات طبيعة احتفائية، تتعلق بكاتبة عراقية وجدت نفسها يوما ما بأنها خلقت لتكون حلقة في السلسلة الشهرزادية الطويلة، سلسلة  تمتد من الحكي إلى الكتابة، فلا بد من التصدي لفكرة الشجاعة كقيمة إنسانية توقظ الأحلام من نومها، حيث كانت الكتابة لديها فعلا مقاوما لطقوس النظام العام من خلال تفكيكه، وكشف تصدعاته الفلسفية والأخلاقية والثقافية. لقد وجدتُ بوضوح هذه الفكرة الطليعية في معظم أعمال لطفية الدليمي، رواية “سيدات زحل” على وجه الخصوص، فهي تكتب – على الأقل في ما ظهر لي من خلال الأعمال التي قرأتها لها – بقلب عارٍ كما يقول عبدالفتاح كيليطو في إجابته عن سؤال ماذا تعني لك الكتابة “كنت دائما متأثرا بعنوان لبودلير ‘قلبي عاريا’، من الممكن أن تكون هذه هي الكتابة”.

ويتجلّى هذا المعنى، عري القلب في مقتطف اخترته لا على التعيين، لكنه يدعم  كما أظن تصوري، حول القلب العاري، والمتعلق بما يقوم به من عملية إيقاظ ما هو مخزون بتعسف تحت طبقة النوم، تقول الساردة في “سيدات زحل”، “ما الذي يمنح الروح قدرتها على مجالدة الألم؟ أهو الحب؟ أم جرثومة الحياة العنيدة؟ أم هي الأحلام التي نستولدها من شحنات الألم والحب؟ ما الذي يدفعني للمضي قدماً؟ هل هي رحلتي نحو نفسي التي تجول بلا منطق ولا حذر في الأعماق؟”.

وبالقدر الذي جعل الساردة، مشغولة بالأسئلة، بالثمن الذي يمكن دفعه لتحقيق  توازن الذات، وتنزيه نبتة الحياة من الأعشاب الضارة، يوجد كذلك قدر كبير من الألم، ألم الحب، وألم الأحلام النائمة، فهي هنا ذات يغمرها الشك، ذهنية معلقة بين افتراضات متضادة على المستوى العاطفي والوجودي، ارتيابًا ربما بخصوص الحقائق أو التصرفات أو الدوافع أو القرارات التي تصدر عن جهة ما تعتبر المرأة تهديدا لوجودها الذكوري. والشك أيضا هو إحالة تتضمن البحث عن المعرفة، معرفة العالم، ومعرفة الذات. لطفية الدليمي في حوار لها قديم، تطرح رأيا يقترب من تخوم الرؤية الاشراقية، حيث يظهر الألم عندها مقابلا للزيت، في ثنائية ينطوي جانبها الآخر على مقابلة الشعلة للحياة، تقول “ألم الجرح يجعلني أرتجف وأكظم البكاء، وأرى شلالات الضوء تتدفق في داخلي، الألم يتحول حين يُكبح إلى مصدر للاستنارة، لا أحب ألمي ولكنني أتقبله وأدجنه وأحدد درجته فلا يغلبني ولا أبدي السخط عليه، أعتبره جزءا من طريق الوصول”.

 ورواية “سيدات زحل” بناء على هذه الثنائية، الألم والاستنارة، بنيت على شكل كراسات، كل واحدة تحمل عنوانا فرعيا له باب نلج  منه إلى معادلات موضوعة لفحص العلافة بين النتيجة والسبب، مرافعات عاطفية وعقلية للذوات الشكاكة: بيت البابلي، سرداب الرؤيا، شارع الطاووس الأزرق، زهرة أوكيناوا أو الجمال..، وأيضا توجد ثلاثة مشاهد تقديمية أو استهلالية في الفصل الأول تحمل العناوين: بغداد نيسان 2008، هوامش في أوراق بغداد 2003 – 2006 ، بغداد 2006.

تسرد لطفية الدليمي على لسان شخصياتها في هذا النص الذي يفتح ممراً واسعا للصوت الأنثوي، فجائع النسوة الشقيات اللواتي كنّ حبات القمح التي دارت عليها رحى الحروب في العراق، ونظم الاستبداد والظلامية الاجتماعية والطقوسية. في هذه المنطقة بالذات، يمثل المنجز السردي للطفية الدليمي فعلا مجيدا ، ضروريا للكشف عن التصدعات العميقة التي تخلقها الوقائع العنيفة على صورة المرأة المتوارية خلف واجهة كبيرة، تظهر فيها أمجاد السلطة، والايديولوجيات والمساحات الواسعة للشعارات الحماسية المريبة، بينما المرأة مبعدة في السرداب تلعق جراحها دون أن ينتبه لها أحد، لهذا يبدو فعل الكتابة عند لطفية الدليمي موازيا لفعل الإنجاب الذي هو ديمومة الحياة ، فالكتابة لصاحبة وصايا العصيان، لم تكن ترفا، بل هي خيار وجودي، ورحلة شاقة للبحث عن الذات المغيبة. في جزء من كتابه أسطوريات، يتحدث رولان بارت، عن مجلة فرنسية اسمها “هي” جمعت سبعين روائية في صورة واحدة. ويقول المحرر في تقديمه للصورة “إن المرأة تنجب الروايات والأطفال، على سبيل المثال، جاكلين لونوار لها بنتان ورواية واحدة، لمارينا غراي ابن واحد ورواية واحدة، ولنيكول دوتراي ابنان وأربع روايات”. وهذا يعني على رأي المحرر أن الكتابة نشاط مجيد، وهو يمثل عملية خلق توازي عملية الإنجاب الذي هو ديمومة العالم.

وسوف أختار للحديث عن تجربة لطفية الدليمي، خطاً يعتمد على قضية الكتابة النسوية، أحاول فيها إلقاء الضوء على العلاقة بين الشخصية الرواية التي ترسمها الكاتبة متعددة الاشتغالات، وبين التاريخ الذي وضعها في دائرة المعنى، المعنى الذي تحت مظلة اللفظ كما يقول الغذامي، اللفظ وهو مادة كتابة التاريخ. وهذه العلاقة ستقودنا كما أظن لطرح أسئلة تتعلق بالنص السردي المتخيل باعتباره خطا موازيا يسعى لتفكيك الحوادث في التاريخ وإعادة تركيبها، وفحص المصائر للكشف عن الذوات المهمشة التي يعبّر عنها ضمير الأنا الأنثوي المنفي، عن التشظيات والانكسارات، وأيضا لكي ندخل من هذا الباب إلى التصور الأخلاقي للشراكة بين الرجل والمرأة، حيث تتجلى هذه الفكرة الطليعية في كتابها عصيان الوصايا، والذي كان عبارة عن سيرة أدبية، لا يخلو من هوامش لها علاقة بالسيرة الشخصية، وهو محاولة أخرى في طبقة من طبقاته، لتأكيد فكرة أننا لا نستطيع إطلاق صفة الأنثى أو الذكر على الرأس، مثلما نفعلها بسهولة عندما يتعلق الأمر بالجسد.

إن الذات الانثوية كما تفصح عنها لطفية الدليمي في اعمالها السردية، هي في موضع الغياب، دفعتها الأنساق الثقافية تحت مظلة الموجهات الذكورية، أو لفظ الفحولة، خارج فاعليتها الطبيعية. لكن الكاتبة حاولت في معظم أعمالها، تحرير ضمير المتكلم من موضع غيابه، بمنح شخصياتها النسائية، والرجالية أيضا الفرصة للتلويح بهذا الضمير باعتباره حقا. عبدلله الغذامي في كتابة “المرأة واللغة” يقول في فقرة مكثقة وذكية “فقدت المرأة ذاتها، أو أن الثقافة سلبتها هذه الذات، حتى أن الروائية ماري جوردون، كتبت روايتها الأولى بضمير الغائب، مع أنها حكاية عن الأنا، ولكنها لم تجرؤ على استخدام ضمير الأنا لأن المرأة ليست أنا، وليست ذاتا، إنها ضمير غائب وحسب، ولقد جعل الخوف يمنع الكاتبة من أن تجعل نفسها ذاتا لها ضمير يتكلم ويحيل إلى ذاته. أما الحرج الذي ستقع فيه المرأة، هو أن استخدام ضمير المتكلم، يعني أن المرأة قد صارت ذاتا، وصارت متكلمة، يعني حينئذ تأنيث أول ضمائر اللغة، وهذا حرج ضخم لا يمكن تمثله في ظل خطاب الخوف”.

ويظهر بالنسية إليّ توصيف الكتابة نسوية وأخرى ذكورية، قريبا من عبث خبير الفوتوشوب، أنه يقطع الصورة الواحدة التي التقطتها العدسة إلى نصفين، ويحاول بعدها إقناعنا أنهما صورتان، التقطتا في مكانين مختلفين، تحت سماءين مختلفتين، وأنهما يحملان مشاعر ذات طبيعة مختلفة في لحظتين متباعدتين، هذا التصنيف حسب منطق الكتابة، تحوم حول الشبهات والمغالطات والنوايا المريبة، منها بالطبع نوايا خبير الفوتوشوب، نفسه، ومنها نوايا المدونة التاريخية التي تنظر للكتابة من زاوية المهيمنات. وحين تحضر مفردة النسوية مضافة إلى الكتابة، علينا التوقف لفرز السياق الذي تحضر فيه هذه المفردة، نحن أمام طروحات تشبه من يضع المادة نفسها في وعاءين، أو قوقعتين. وأرى أن لا توصيف يتسم بالوضوح في تأصيل مفهوم الكتابة النسوية، إلا في إطار الرغبة الأنثوية بإيقاظ الأحلام من نومها كما تقول أليس والكر، أو في إطار ضبط الميزان الذي لم يكن منزها من التزييف طوال الوقت، إنها النظرة ذاتها، في أن المرأة هي وجود أقل قيمة، حتى عندما تكون عنصرا فاعلا في دورة الإنتاج، في النهاية هو إنتاج خاص بها لا يمكن مقارنته بفكرة الإنتاج كمفهوم، فأدب المرأة بهذا التصنيف يحمل نسقا مضمرا في أنه أدب لا يعتد به، خطاب يجيء من منطقة الاضطراب النفسي. والحقيقة التي أعرفها، أن الكتابة ذاتها هي الكتابة، السرد هو ذاته عندما يكون اشتغالا إبداعيا يقوم به الرجل أو المرأة.

 ودعوني هنا أعرض واحدة من أكثر القراءات تداولا بخصوص حكاءة “كتاب الليالي”، فشهرزاد تظهر لنا باعتبارها إحالة لفكرة المقاومة، فهي خاضت معركة نبيلة من أجل إخراج الأنثى من دائرة المهيمنات الذكورية، والانتصار الذي حققته في “كتاب الليالي” هو تتويج لشرف الحياة الإنسانية، الحياة التي هي استحقاق وليس هبة، حيث تبرز صورة شهرزاد مضيئة تغطي الواجهة كلها، علامة على الشجاعة والحس السليم، على الحكمة والطاقة الكامنة تحت طبقة الهشاشة الظاهرة. إذ أن فعل الحكي في الليالي كان قيمة مثالية، دخلت فيها الحكاءة المواجهة، فكانت الليلة الأخيرة تتويجا لقوة الذات الأنثوية، نهوضها من تحت رماد الاستبداد، إنها توقظ أحلامها النائمة كما تقول أليس والكر، النوم القسري في الحقيقة، لأنها أحلام مغطاة بطبقات ثقيلة من الرماد، فكان “كتاب الليالي” هو اللحظة التي انتفض فيها طائر النوم إلى سعة اليقظة.

 أعمال لطفية الدليمي السردية، في مقاربة مع “كتاب الليالي” تشكل امتدادا للمحافظة على مجد الحكاءات اللواتي سلمن راية البوح والردَ إلى غيرهن وغادرن بطمأنينة، إنها من عائلة الحكاءات نفسها، النساء اللواتي مازلن يواصلن لياليهن، واللواتي سوف يسلمن المهمة لمن تولد فيما بعد. إن القوة تكمن في السرد، هذا ما تريد أن تقوله لطفية الدليمي في خطابها الأدبي بشكل عام، بل في جميع اشتغالاتها، في الترجمة والدراسات والأعمال السردية، وقد استطاعت أن تستدعي في أعمالها التاريخ والأسطورة والحكمة والمكر في التجربة الانسانية، بل كانت تستدعي الموتى أيضا وتقديمهم كشهود في مرافعة ضد زيف المدونات الرسمية، ولم يكن تواصل فعل الحكي عندها من أجل الاستهلاك، بل مناورة طويلة وصبورة لنسج النص الكامل لسيرة الأنثى، النص الذي تحاول في اتمامه ليكون خيطا متصلا، مرتبطا بكفاح  سلالة من الحكاءات، وهي بهذا المعنى ابنة شهرزاد، مع احتفاظها بالشكل الذي عبر مرحلة الحكي إلى الكتابة. هنا استدعي مقتطفا من حوار مع عبدالفتاح كيليطيو يجب فيه على سؤال فيما إذا كان هو ابنا لشهرزاد، يقول فيه “منذ ترجمة ألف ليلة وليلة، ابتداء من سنة 1704، من طرف أنطوان غالان (مستشرق فرنسي 1646 – 1715)، أضحى كل الكتّاب تلاميذ لشهرزاد. من الذي لم يتأثر بتلك الحكايات؟ سواء كنا عربا أو أوروبيين، يستحيل عدم التعلق بألف ليلة وليلة. المثال الأكثر جلاء، يحيلنا بالتأكيد، على مارسيل بروست في ‘البحث عن الزمن الضائع’ حينما يتخذ الراوي مع نهاية الرواية قرارا، قصد تأليف كتاب في مثل ضخامة ألف ليلة وليلة. إذا كانت على درجة من التأثير، فلأنها تطرح إلى جانب سؤال البقاء، قضية القراءة. على العموم، القارئ هو استحضار لشهريار. يتعلق مصير الكاتب بهذا الكائن المجهول، في أغلب الأحيان، مثلما أن مصير شهرزاد يرتهن بالإرادة الاستبدادية لسلطان ألف ليلة وليلة. الجاحظ، سيعبر عن ذلك بطريقته: يوصي الشخص العاقل كي لا ينسى قط بأن القارئ عدو. لا نبخس، بالتالي، مقدرته على المعرفة حينما يكتشف خلال القراءة، حقيقته الخاصة”.

وفي هذه الورقة الاحتفائية، أحاول أيضا أن أقدم ما يشبه المقاربة بين المنجز السردي للطفية الدليمي من جهة (ثلاثة أعمال، روايتان ومجموعة قصصية) وجدت فيها صوت لطفية الدليمي الواضح، والخطاب الفلسفي النقي الذي يسعى لإيقاظ الأحلام من النوم من خلال الأدب الرفيع الذي تعالى عن التسطيح، أدب الأسئلة الكبيرة، والحفر بعيدا في الأفكار المقلقة، يقابل هذا في الجهة الأخرى فعل الحكي باعتباره دفاعا عن الذات وأسلوبا طليعيا للتغير، متخذا طبيعة بناء الشخصية واستدعائها للنموذج من التاريخ، ثم صياغته بعد تنزيهه من هيمنة الاستبداد، فشخصياتها كما تبدو لي هي حاصل هذا التجوال، تجوال من أجل اختراع النموذج أو المثال الذي يدعم تطلعات الأنثى ضد الصورة الناقصة، فهي تستعين بالتاريخ، وهو المنطقة نفسها التي تمثل البئر، لكنها تشهد في جانب آخر عملية انتشال هذه الذات ومنحها المكانة التي تليق بها تحت الضوء.

  واقتراح المثال عند لطفية الدليمي يتجلى في رسم شخصياتها بدقة، ليس من أجل تركيب أيقونة مؤثرة، تستخدمها كذريعة لتوبيخ السيرة الذكورية، بل تريد استبدال واقع التهميش أولا بواقع العدالة، أو لطرح تصور آخر عن ثنائية القوة والهشاشة. فشخصيات لطفية الدليمي وحيدات منكسرات، منفيات، مظلومات، هذا صحيح كما يظهر في طبقة الحكي الفوقية، لكنهن في طبقة أخرى جوانية، مقاومات يحتفظن بالألم باعتباره طريق الاستنارة، إنهن شخصيات مؤثرة لا يخضعن للاستهلاك التاريخي، والكاتبة هنا تقدم وجه الأنثى التي يفاجئ المتفرج بمكنوناته، وجه في مواجهة الحرب، في مواجهة المنفى، صورة الكائن شديد الإخلاص لبناء الأسرة، صورتها وهي تتفوق في الحقول المعرفية، المرأة العاشقة، المستعدة للبذل والتضحية حتى تخوم الاستثناء والفرادة، وايضا المرأة الشهرزاد، والتي حرصت لطفية الدليمي منذ البداية أن تتمثل في صورتها. الأنثى الباحثة عن ذاتها في الفوضى، وفي المدونة التاريخية المزيفة، فالساردة في “سيدات زحل” مثلاً تقول “هل يعرف الآخرون من نكون حين نجهل ذواتنا؟ أيمكن أن يعرفنا الآخرون أفضل مما نعرف أنفسنا؟”.

إذن هي رحلة شاقة لكن المرأة معتدة بنفسها، ومؤمنة بقدرتها على كشف ذاتها المستقلة، غير الخاضعة لتقييمات الآخر، المرأة في النهاية كما تريد أن تقول لطفية، ومن خلال معظم شخصياتها، هي كيان مستقل، ولها صورتها الكاملة، المضيئة، أما تلك الصورة المعتمة، والمنفية في السرداب، فهي قادمة من عصور الاستبداد، حيث تظهر الكتابة، الحكي باعتباره  الصوت القادم من الظلام.

عبدالله الغذامي في مقدمة كتابه المرأة واللغة يقول “يقول عبدالحميد بن يحيى الكاتب ‘خير الكلام ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا’ وهو بهذا يعلن عن قسمة ثقافية يأخذ فيها الرجل أخطر ما في اللغة وهو اللفظ، إنها التجسد العملي للغة والأساس الذي ينبني عليه الوجود الكتابي والوجود الخطابي لها، فاللفظ فحل (ذكر) وللمرأة المعنى، لاسيما وأن المعنى خاضع وموجه بواسطة اللفظ، وليس للمعنى وجود أو قيمة إلا تحت مظلة اللفظ.. هذه قسمة أولى، أفضت إلى قسمة ثانية، أخذ الرجل فيها الكتابة واحتكرها لنفسه، وترك للمرأة الحكي، وهذا أدى إلى إحكام السيطرة على الفكر اللغوي والثقافي وعلى التاريخ”.

 إنه في النهاية هاجس النفي، والرغبة بإزاحة المظلة لكي يكون الوجه مغمورا بالشمس. في مقالة لها عن الكتابة النسوية نشرتها جريدة المدى منذ سنوات، استدعت لطفية الدليمي جملة لفرجينيا وولف، وردت في كتابها “غرفة تخص المرء وحده”، “إن المرأة حين تكتب تفكر عبر أمهاتها”. حسنا يبدو أن هذا الاستدعاء يمثل تكثيفا لتصور لطفية الدليمي عن الكتابة النسوية باعتباره سيرة متصلة للأنثى عبر التاريخ، وهي تنجب أمهاتها، مثلما تنجب الروايات، وهو بالنسبة إليّ استدعاء صالح ليكون داعما لرؤيتي التي أريد طرحها في هذه الورقة. أما جملة فرجينيا وولف نفسها، فهي اختصار للتصور الأنثوي للكتابة، والتي التبس المفهوم والتأصيل بخصوصه. أما لطفية الدليمي في مجمل تجربتها السردية، كانت تحاول كما أرى خلق نموذج يتسم بالشجاعة، عن أنثى لها صوت خارج من البئر الأبوية، أنثى خارج الأنساق الثابتة، خارج مدونة اللفظ الرسمية، خارج خطاب التاريخ.

وفي نظرة سريعة على بيوغرافيا المنجز الأدبي للطفية الدليمي، سوف نلاحظ ملامح هذا المشروع التنويري فمن خلال مسح لمعظم أعمالها، نكتشف تلك المحاولات الحثيثة، لتفكيك أسئلة حول المدينة والذات الأنثوية، اعتبارا من ممرّ إلى أحزان الرجال، مرورا بالبشارة، التمثال، إذا كنت تحب، عالم النساء الوحيدات، من يرث الفردوس، بذور النار، موسيقى صوفية، ما لم يقله الرواة،، الساعة السبعون، ضحكة اليورانيوم، برتقال سمية، حديقة حياة، سيدات زحل، مسرات النساء، عشاق وفونوغراف وأزمنة، وأيضا في الأعمال المسرحية “الليالي السومرية” والدراسات وحتى الندوات  مسرحية قمر أور، دراسة حول جدل الأنوثة، المرأة والحرية، اللغة في السجال بين الرجال والنساء، صورة المرأة العربية، دراسات في واقع المرأة، دراسات في حرية المرأة، كتاب أوضاع المرأة في ظل العنف بعد الاحتلال.

ولقد كان الحكي في كل أعمال لطفية الدليمي، يتركز في رسم صور أنثوية تعبر عن النموذج الفاعل الخارج من التصورات المسبقة عن خموله، واستقراره في سرداب التاريخ، هذا النموذج احتل في فضاءات النص المساحة كلها، نموذج هو مركز النص، أو مركز العالم، تتحدث الساردات بضمير المتكلم، فتمنح القارئ إحساسا بحضور نموذجها ومركزيته، إنها مركزية الذات الماسكة لزمام الكينونة، والمالكة لتحريك شخصياتها النسائية والرجالية. وفي المقتطف الذي سأورده هنا، يمكننا الاستدلال على الكاتبة المختفية خلف شخصيتها الرئيسية، والتي تمرر خطابها وفلسفتها، فحياة البابلي في سيدات زحل، هي التي تدوّن، تكتب الحكاية، اختفاء الأسماء من كراساتها ما هي إلا ذريعة لكي تقول إن الأنثى، هي واحدة، حكايتها واحدة، وهذه الحرب هي اختصار لكل الحروب التي مرت، وكانت المرأة هي التي تحملت الجزء الأكبر من آثارها، وحتى العنف الموجة بشكل مباشر إلى الرجال، هو في الحقيقة يحمل تأثيرا أعظم على النساء،  سيدات زحل، هن الشهرزاديات اللواتي يعرض فكرة المرأة الشريكة، الأكثر تضررا من الوقائع، والنساء اللواتي  يمثلن الفاجعة في السيرة الطويلة للعالم.

“أنا حياة، وهذه كراساتي التي  شرعت بكتابتها منذ سنوات، ودونت فيها حكاياتنا، حكاية عشقنا الصاعق. قصص الفقد وأوجاع السجن، والاختفاءات، عار الإخصاء وبتر اللسان، خزي اغتصاب البنات. دونت أكثر من ثلاثين كراسة طوال كارثة الحصار وحروب الاحتلال، وكنت كلما أنهيت واحدة منها وعدت إليها أفاجأ باختفاء الأسماء فتختلط الأحداث..”.

إذن، تحاول الساردة هنا أن تقول إن سيرة النساء هي سيرة الاختفاءات، اختفاء الأسماء حتى اختلطت الوقائع كلها فصارت واقعة واحدة من أبعد نقطة في التاريخ إلى الآن، إنها فكرة التغييب القسري على وجه الدقة. في رواية “سيدات زحل” يتمركز الصوت المؤنث فاعلا سرديا، فحياة البابلي، الشخصية الرئيسة، هي البطلة التي رفضت صورتها في مخزن الذاكرة المعتم، قاومت بشجاعة، طرحت الأسئلة عن الحرب والاحتلال والموت، وهي طوال فعل الحكي كانت تكشف الأسرار، إنها تفضح في الحقيقة كل تزييف، تحاول أن تعيد  مدونة الخلق المشتركة إلى جوهرها، وهي بهذا  تحاول صنع الحياة كما تفهمها باعتبارها جوهرا مشتركا بين الأنثى والذكر.

تروي “سيدات زحل” قصة خمس نساء عراقيات، وصحافية فرنسية، احتفظت كل امرأة منها بكراسة، تحاول فيها توجيه  خطابها الخاص المتصل بخطاب الأخريات، رواية عن الألم، الحرب، العنف. رواية عن الخارج والداخل، عن العالم الذي أصبح حلبة ملاكمة أو ساحة للكراهية، وبين الداخل، حيث قدر الأسئلة  الذي يفور، فالساردات جميعهن يقمن بعملية وضع عربة الحكاية على السكة، ينقلن القارئ إلى سؤال هو: ماذا يعني الجحيم لامرأة تعيش في سماء الخوف. لكن السرد أيضا يقدم لنا صورة عن العنقاء، الطائر الذي يستيقظ دائما من تحت رماد النوم، سيدات زحل هن الوجه الآخر لديمومة الحياة، وهنا لا بد لي من الإشارة إلى جوهر المشروع الإبداعي للروائية لطفية الدليمي، إنها تفتح في أعمالها دائما نفقا مظلما، ربما كان نفق المدونة التاريخية المعتمة، لكنها في النهاية تنفذ شخصياتها، تضع في أيديهم  خرائط الخروج إلى الضوء، وهذه الإشارة تتماهى تماما مع فلسفة الكاتبة بأن سمة الحياة هي الديمومة، ولا بد من وجود الضوء، مثلما ثمة ضرورة وجودية للظلمة.

وأسئلة حياة البابلي كانت متنوعة، متشابكة، أسئلة حول العالم، التهكم من الموجودات والبحث عن تعليل عقلي لما يحدث من أمور غير منطقية، وتفتتح الرواية بالتساؤل شكًا، فحياة البابلي تتساءل في “سيدات زحل”، “أأنا حياة البابلي؟ أم إنني أخرى؟ ومن تكون آسيا كنعان التي أحمل جواز سفرها؟”.

إنها ذات تبحث عن إجابات في إناثها المنحدرات من السلالة نفسها، تحرك نظراتها في جميع الاتجاهات، من أجل الحصول على الخريطة السرية، والتي سوف تساعدها على الخروج من نفق الحيرة، وهي في رصدها للتفاصيل الدقيقة التي تفرزها الوقائع العراقية، تحاول أن تقدم  خطابا أنثويا لا يشبه تلك الخطابات التي يرسلها خصمان في حلبة ملاكمة، بل خطاب من أجل إعادة ضبط ميزان العدالة، ربما بالحب، أو تقديم شهود التاريخ، أو الدعوة لفحص الأنساق الثقافية. لطفية الدليمي في منجزها الأدبي، ليست إيزابيل الليندي التي تقول في أحد حواراتها “ما لا يمكن غُفرانه هو أن الأمهات بالذات هن اللواتي يعززن النظام ويمنحنه الديمومة بتربيتهم أبناء متعجرفين وبنات مستعبدات؛ ولو أنهن اتفقن فيما بينهن على عمل ذلك بطريقة أخرى لاستطعن القضاء على تسلط الذكور خلال جيل واحد”.

و”سيدات زحل” هي سيرة ذاتية للمرأة على مر التاريخ، سيرة تتشظى فيها الأسماء والتواريخ والأوراق والهوامش والكراسات، تسترد فيها حياة البابلي ذاكرتها، اسمها وهويتها التي بها تتخلص من التباسات وعيها. حيث تنتقل بين البيت والسرداب خائفة من موت يترقبها: بدأت أهذي، عبارات ترصعها الأسماء عشرات الأسماء تساقطت من بين شفتي وأنا أهذي.

أما في روايتها عشاق وفونوغراف وأزمنة، هناك أسئلة تطفو من خلال طبقات السرد، ومن خلال سير الحكاية، لماذا مثلا كلف الأب ابنته بتحرير أوراق العائلة من الصندوق، وإعادة تصنيفها، هل الأمر له علاقة باعتراف أن التاريخ نفسه لم يكن عادلا، وقد جاءت الفرصة لكي تقوم الكتابة بقطع الأعشاب الضارة من مدونة العائلة، هل كان اشتغال نهى الكتبخاني بإعادة تحقيق وتصنيف المخطوطات من أجل الحفاظ على سيرة العائلة، أم من أجل فضح التصدعات في البنية التي تبدو متماسكة؟

لوحة: ستار كاووش
لوحة: ستار كاووش

في النهاية تتحمل نهى جابر صبحي الكتبخاني بطلة الرواية إرثا يتضمن تحرير تاريخ العائلة من الزيف، فهي في سرديتها تفضح هذه المدونة، وهنا يظهر الدور التنويري للبطلة في قدرتها على سرد التاريخ، بكل انكساراته وانتصاراته، تاريخ الحب والكراهية، الموت والحياة، التصدع والعافية، لقد كانت نهى هي العنقاء التي خرجت من رماد المنفى، ومن ظلم التاريخ، لتعيد للمدونة الإنسانية شكلها العادل وهي الحارسة الأمينة الموثوق بها لأسرار العائلة، المرأة التي كشفت في النهاية عن تصدعات عميقة في سلسلة العلاقات خلال قرن من الزمان، إنها تقترح حكايات كثيرة متنوعة، حكايات صغيرة ، تماما كما فعلت شهرزاد، لكن الحكايا بمجموعها كونت مدونة العائلة، أو مدونة العالم، مدونة فيها هواجس الوحدة والنبذ والتوحش الذكوري، في التأريخ أيضاً، ظلم للمواقف الناصعة، فالانتهازية والعمالة وسيلتان مضمونتان في الغالب للسيطرة والسلطة والمال. يقترب والد صبحي الكتبخاني من الوالي العثماني في بغداد، فيرشوه بإهدائه جارية، وحين تتحول السلطة للبريطانيين، يحاول أيضاً الاقتراب منهم ومجاراتهم، فيستبدل زيّه بما يلبسون ويسرع في تلبية دعواتهم للوجهاء في بغداد. وفي هذه المنطقة من المعالجة الروائية، والتي تتعلق بصندوق الأسرار. يمكن عقد مقاربة مع  أسطورة “صندوق باندورا”، بندورا اليونانية التي اعطيت صندوقا مغلقا لتحمله واشترط عليها ألاّ تقوم بفتحه ففي فتحه ستموت البشرية، وباندورا كانت فضولية فغلب الفضول عقلها ولم تهتم بالكوارث المريعة التي ستصيب البشرية! فتحت الوعاء لتخرج منه شرور وأمراض فتكت بكل البشر. وعلى الرغم من النسيجة اللفظية التي تحاول أن تحمل المرأة سبب خراب العالم، باستخدام لفظة فضولية، لكن الأسطورة في مقاربتي تحاول أيضا في طبقة من طبقاتها، تحليل قدرة المرأة على فتح الخزائن التي  تضم في داخلها الأسرار، حيث يقوم الرجال الخائفون من الخزي بدفنها بعيدا، لكن نهى جابر الكتبخاني كانت أمينة في عرض الانتهاكات تحت الضوء، إنها فاضحة الأسرار التي يخاف منها الجميع، المرأة التي تحاول تقديم مرافعة عادلة ضد الاستبداد الذكوري.

وفي مجموعتها القصصية “عالم النساء الوحيدات” تعود لطفية الدليمي لتقديم نموذجها الأنثوي، إنها الشخصيات نفسها تقريبا، الذوات التي تنطلق من الفكرة نفسها، المقاومة، شخصيات شهرزادية بامتياز، نماذج نسوية تعاني من وجودها في النفق، إنه النفق  نفسه الذي تحدث عنه الغذامي في كتابة اللغة والمرأة، ثنائية اللفظ والمعنى، حيث يكون النموذج في واحد من أطوارها تحت مظلة اللفظ الفحل، الخطاب المنتج للتاريخ، فالشخصيات في هذه المجموعة، وحيدات يسعين لفسحة أمل في عالم منعزل، لكنهن في الوقت نفسه، يحلمن، بل هن يحاولن بمنبهات هزازة أن يوقظن أحلامهن كما تقول أليس والكر من النوم، في النهاية؛ هذا ما كانت لطفية الدليمي تقدمه دائما، أن عملية كسر الأبواب ممكنة، مادام فتحها مستحيلا، حينها فقط نرى تحت الضوء نموذجها الذي تحقق، متمثلا بالمكاسب التي تحققها شخصياتها في آخر الأمر .

على الرغم من كل هذه الروح المنفتحة في نصوص لطفية الدليمي، تظهر في بعض حواراتها امرأة ليست مطمئنة تماما، ففي إجابتها على سؤال حول وضع المرأة تقول في حوار لها “إذا شئنا الحديث عن المرأة العراقية والعربية اليوم فلا بد من القول إن نكوصاً خطيراً طاولَ جهود هذه المرأة وأصابها في مقتل وأطاح كثيراً من النجاحات النسبية التي حققتها المرأة خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، وواضح كيف أطاح المدّ الديني المدعّم بالعقلية الأصولية في الخطاب السياسي والديني فسحة الليبرالية الخجولة التي أتيحت للمرأة في تلك العقود الخوالي.

وتمثل النساء في “عالم النساء الوحيدات” تصورا معياريا للمرأة العربية والعراقية، إنها كائن يعيش تحت مهيمنات، وتقييدات حقوقية وقانونية ، ولكنهن أيضا متمسكات بالأمل.

ففي القصص الخمسة التي تضمها المجموعة، تطرح الساردات أفكارا متداولة، ولكن بمعالجات مختلفة ..الفقد الذي عانته ومازالت تعانيها النساء العراقيات في الحروب.. غياب الوعي في العقول.. القصة الأولي والتي تحمل نفس عنوان المجموعة كانت الأقوى من حيث المعالجة والطرح حيث استخدمت الكاتبة اسلوب الميتافيكشن بالسرد.. ربط تاريخ العراق القديم “هل يعرف الناس أن لغرفة النساء الوحيدات رائحة خاصة لا تميزها سوى النساء”.

ففي القصة الأولى قصة جمعت “عائدة” والآنسة “م” والراوية كلها تقاطعت بالحب والألم والتضحية لأجل من نحب وحتى يعيش من نحبهم بسلام وحب، تحدثت عن الحرب في العراق وما خلفته هذه الحرب من كوارث وقتلى وأناس عادوا من الحرب معطوبين عطبت روحهم أيضاً من الحرب ولكن هل تعطب الحرب الحب ومشاعر الحب التي نحملها بداخلنا، أم تكون مشاعر الحب هي الأقوى وتتغلب على كل عطوب الحرب؟

كم هي قاسية الحياة التي تفرض علينا حياةً تقتل أحلامنا وطموحاتنا وتنزع الفرح منا انتزاعاً وكأننا ما خلقنا للفرح تضحية الأنسة “م” وتضحية الراوية وعائدة كلها تضحيات لنساء لا يرغبن بالوحدة ولكن الحياة فرضت عليهن الوحدة فكان لا بد من العيش بالوحدة وتحمل هذه الحياة ليس لأن الواقع هزمهن إنما رفضاً لكل الصيغ الاجتماعية التي تفرض علينا العيش تحت أيّ مسمى يراه المجتمع مقبولاً.

جمعت في قصتها الثانية بين التاريخ والحب والحرب أيضاً من خلال قوة الأساطير التي تعيد الأموات فيظهرون أمامنا ليتمثل جواد أمام نهال وكأنه يكلمها وتعيد استرجاع قصتها معه من خلال تمثال “جوديا” لتثبت مرة أخرى أن الحب لا يموت ويبقى مخلداً ونفضل الوحدة رفضاً لكل الصيغ الاجتماعية بالارتباط وغيرها .

” أنا لا أملك سوى نفسي وجسدي المتعب المنسي في هذا العالم وغرفتي هي حريتي وحلمي”.

ويبدو أن الهشاشة والضعف في شخصية المرأة الوحيدة، وجها فلسفيا تحاول لطفية الدليمي تأكيده، هنا في هذه النقطة أحاول تقديم مقتطف يتعلق بثنائية الهشاشة والقوة، وهي الثنائية التي شكلت ملامح معظم شخصيات لطفية الدليمي في معظم اعمالها، الضعف الإنساني باعتباره خيرا، تقول مارثا كرافن نوسباوم فيلسوفة أميركية وأستاذة في جامعة إرنست فريوند للقانون والآداب في جامعة شيكاغو، في كتابها “هشاشة الخير”، “الحظ والأخلاق في المأساة اليونانية والفلسفة. المعضلة الأخلاقية للأفراد الذين يلتزمون بالعدالة بقوة، يتعرضون لعوامل تؤدي إلى تسوية أو حتى إبطال الازدهار البشري”.

هنا تحاول نوسباوم  في مناقشتها للنصوص الأدبية والفلسفية إلى تحديد مدى قدرة العقل على تحقيق الاكتفاء الذاتي. وهي في النهاية الفكرة الأفلاطونية القائلة إن الخير الإنساني يؤمّن الحماية من الخطر بشكل كامل، لكنها أيضا تعترف أن “الهشاشة والضعف يمكنهما أن يكونا  مفتاحاً لإدراك الخير الإنساني.”

 وفي هذه النقطة بالذات، عند الوصول الى طبقة  دلالية أعمق في “عالم النساء الوحيدات” تظهر الوحدة قوة، والهشاشة خسرانا، إنه شكل من أشكال الرفض، إيمانا  بأن العالم لا يمكن أن يحافظ على ديمومته إلا بالحب، الكراهية هي تقويض للحلم الإنساني، عالم النساء الوحيدات لا ينطوي عند لطفية الدليمي على الهزيمة، نعم إنه علامة على الألم، لكنه ليس الهزيمة، هو خيار احتجاجي، والاحتجاج قوة، ايمان، عقل نشط، يمارس ردا مضادا حسب تعبير بارت، ضد الصيغ والأنساق الثقافية  المهيمنة. وفي نهاية هذه الورقة أجد ان المشروع التنويري الذي بدأته لطفية الدليمي وما زالت جادة بالمواصلة، يشرح للقارئ العلاقة السرية بين الإناث الحكاءات، الكاتبات ، بسلالة أصلية من الإناث الآلهة. مضيفا للخاتمة مقتطفا من كتاب فرجينيا وولف “غرفة تخص المرء وحده” تقول فيه “لقد أدَّت النّساء طوال هذه القرون دورَ المرايا بكلِّ ما تمتلكه من سحر وسُلطة حلوة، عاكسة بذلك صورة الرجل على نحو مضاعف عن حجمه الطبيعيّ. ومن دون تلك السلطة، ربَّما، بقيت الأرض مجرَّد مستنقعات وغابات، ولكانت أمجاد حروبنا كلّها مجهولة، ولكُنَّا حتَّى الآن نرسم الخطوط العريضة لأحد الغزلان على بقايا عظام الغنم، ونقايض حجر الصوَّان بجلود الخِراف أو بأيِّ حلية بسيطة تثير اهتمام ذوقنا البدائيّ، ولمَا وُجِد الرّجل الخارق (سوبرمان)، ولا حتَّى المستبدّ، ولمَا لبس القياصرة ولا الأباطرة تيجانهم، ولمَا خسروها أيضاً. وأيّما كان استعمال المرايا في المجتمعات المتحضِّرة فهي جوهريَّة في أعمال العنف والبطولة”.

المصادر

  • عبد الفتاح كيليطو: حوار في موقع ألف ليلة وليلة.
  • رولان بارت: كتب أسطوريات.
  • لطفية الدليمي: سيدات زحل.
  • لطفية الدليمي: عشاق وفونوغراف وأزمنة.
  • لطفية الدليمي: عالم النساء الوحيدات.
  • عبدلله الغذامي: اللغة والمرأة.
  • أليس والكر: اللون أرجواني.
  • لطفية الدليمي: حوار في جريدة المدى.
  • مقدمة أدونيس لكتاب الماء والأحلام لغاستون باشلار.
  • لطفية الدليمي: مسرحية الليالي السومرية.
  • كانط: مقالة في التربية.
  • فرجينيا وولف: غرفة تخص المرء وحده – ترجمة عهد صبيحة، إصدار دار نينوى – دمشق 2017.
مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.