الشاعر‭ ‬يؤسس

الخميس 2015/10/01

مهمة الشاعر تبدأ خارج لحظة الراهن، إنه يؤسس نصه خارج إملاء الواقع المفجع، استجابته لما يحدث في الواقع هي من تكوينات الإنساني فيه، وإذا لم يكن صارخاً في وجه الظالمين ومتعاضداً مع المظلومين، فإنه يصبح تحت خط الإنسانية، وإذ قيل لك إن ثمة شاعرا لم يندد بالمجزرة أو صمت عنها، وعاش في وقتها غارقاً في التهويمات وميتافيزيقيا الوجود‭..‬ فهل يمكن التعاطي مع ما يكتبه على أنه منتج إنساني؟ إن منتجه يصبح مساوياً للمنتج الذي يؤسس للسلطة، فهو يمدحها ويعيش على فتاتها، وأظن أن مراتب الشعر في زمننا الحديث باتت أشد صرامة مع هذا النمط من الكائنات التي تلبس لبوس البشر، وتعيش على التطبيل للقتلة والمجرمين‭.‬

الشاعر ورغم كل الرؤى النقدية التي تبحث فيما يقوله، وتؤطره، يؤسس قوله في الحرية، ومن داخلها يرى رؤيا الخراب قبل حدوثه، هنا في سوريا عاشت عدة أجيال شعرية في مواجه تأسيس السلطة لبؤر القمع، كانت تتضاد مع نزوع العسكر إلى تسطيح الحياة وتشظيتها، ولعل المدقق في أنساق التعبير الكامنة في الشعر السوري يرى كم كان هذا الشعر يعلن الاحتجاج ويحذر من الخراب، وكيف كان صوت الشاعر يحاول الخروج من المعتاد والتقليدي، ورغم أن تراب القمع والقهر قد ألقي على عشرات التجارب الشخصية، إلا أن صوت الشاعر الذي ينبض بالحرية كان يخرج ليكون نذيراً، وليقول أن لا حياة خارج شرط احترام الإنسان، هنا لا يمكن لنا أن نتجاهل حقيقة تقول بأن الشعر السوري كان مسرحاً سياسياً واجتماعياً قبل أن يتم تأطيره بالمسألة الثقافية، وحتى هذه الأخيرة لم يكن بأيّ حال من الأحوال عزلها عن الواقع العام، ولهذا سنرى إن دققنا في القول الشعري لدى المكرّسين، كيف أنهم كانوا يستغرقون في عوالم يدعون أنها تقربهم من العالمي، بينما كان القول الذي يؤسسه الشباب في تجاربهم (شباب الأجيال الشعرية) يقترب من الناس ولا يبتعد عنهم‭..‬ ولهذا فإننا لن نجد صعوبة في فهم سبب انتماء الغالبية من الشعراء إلى ثورة السوريين‭..‬ وضمن السياق ذاته لا يمكن للقول الشعري السوري الراهن أن يكون راهناً إن لم ينتم إلى صف المقهورين‭..‬ لا ليرثيهم ويتحول إلى متتبع لمآسيهم فقط، بل إلى مستنهض لهم عبر تكريس قيم العدالة والإنسانية‭..‬

الشعراء الذين نعتد بهم في هذا الوقت يقفون ضد السياق الرسمي العالمي الذي يستخف بالدم السوري، ويقفون في الوقت ذاته ضد قيم التسلط والإجرام التي كرستها غفلة العالم عمّا يجري هنا، لهذا تراهم يذهبون صوب الأقصى من طاقة القول الشعري، إنهم وضمن سياق مجازي، ينزفون وكأنهم جرحى، قاب الرحيل كشهداء، مثلهم مثل من يروون عنهم الحكايات في القصائد، ففي الشعر يمكن للذات الجريحة أن تصرخ دون أن تلوي شيئاً، أو تهتم بقواعد الفنون الأخرى، إنها تعيد إنتاج الحياة بكل تفاصيلها ولكنها تمضي بها إلى ما لا يمكن تأطيره، ودون ذلك لن تكون صورة للشعر ولن تكون مرآة الشاعر الإنسان‭..‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.