الشعوب عصية على التغيير
عندما كنت أتصفح الكتب في مكتبة صديق، لفت نظري كتاب عن العراق صدر عام 1969. يتحدث الكتاب عن مرحلة سبقت سقوط الملكية، لكنه يركز على “عراق قاسم”. في المقدمة والفصول الأولى، ثمة استعراض تاريخي وآخر اجتماعي يتداخلان ببعض.
هذا النوع من الكتب يستثير المهتم. كنت قرأت قبل سنوات طويلة كتاب حنا بطاطو عن التاريخ الحديث للعراق وطبقاته السياسية والاجتماعية. أكثر ما أثار الانتباه بالنسبة إليّ في وقتها، أنه طبع عام 1977. أي أنه لم يصل إلى مرحلة التغييرات العاصفة في العراق الحديث، خصوصا تأثيرات الحرب العراقية – الإيرانية، وما أعقبها من غزو للكويت وحرب تحريرها والحصار الخانق ثم الانهيار الكبير في 2003. تستطيع أن تفهم أكثر لأن الكاتب يعالج مرحلة أوصلت إلى ما بعدها من دون محاولة لاستقراء المستقبل. المستقبل كان في علم الغيب.
كتاب “العراق في عهد قاسم” أكثر استفزازا. لكي يصدر في نهاية الستينات، يكون قد أعدّ على الأقل في النصف الثاني من الستينات. أبعد بعشرة أعوام تقريبا عن سنة نشر كتاب بطاطو. البعث لم يصل إلى السلطة، ولا صدام حسين ولا الخميني. زد على ذلك أن الكاتب أوريل دان إسرائيلي. ما دخلهم في العراق كي يكتبوا عنه. ثم تقرأ وتصدم بكم يعرف عن العراق، وكم لديه من القدرة على وصف أحواله. الصدمة الأكبر أن ما كتبه قبل نصف قرن يصح إلى حد كبير على عراق اليوم.
كل هذا الثراء من النفط والأمل في التفوق والألم من الحروب والعذاب من الحصار والتشرذم من الغزو، لم يغير الكثير في العراقيين. لم يرجم الكاتب بالغيب، ولكن من الواضح أن العلوم الاجتماعية تمتلك الكثير من الأدوات التي تغيب عنا بسهولة خصوصا عندما يصبح الأمر عاطفيا وتصبح الدلالات ببعد شخصي أو ذاتي، محب أو كاره، فتختفي الكثير من ملامح الصورة.
للإنصاف، فإن موضوع العراق ببعده الاجتماعي كان قد تصدى له عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي في سلسلة كتب طويلة. ورغم أن الوردي شخّص الكثير من مشاكل المجتمع العراقي، إلا أنه أسهب في الكتابة وأغرق القارئ بكثير من الأمثلة والتفاصيل في متن التحليل، فكان من السهولة أن تضيع الفكرة التي يستطيع باحث غربي اختزالها وتقديمها بتكثيف معرفي أكبر (في تقديري، الإسرائيليون غربيون على الأقل في طريقتهم بالبحث العلمي والاجتماعي). لو توفر للوردي محرر بارع ليزيل الكثير من الزوائد أو ليحيلها إلى الملحقات في نهاية كل كتاب من كتبه، لكان قد وُفّق في تقديم صورة أسهل للفهم.
تعلمت درسا جديدا في التاريخ: ان الشعوب لا تتغير كما نظن. الشعوب تتفاعل مع المؤثرات، وتحاول أن تتأقلم معها، لكن الشخصية الاجتماعية لمجتمع ما تبقى كما هي إلى حد كبير. الاختراع الذي اسمه الدولة والذي استعاض عن فكرة الإمبراطورية بعد تفكيك الامبراطوريات، هو وجه من أوجه ممانعة التغيير. هذه الكتلة البشرية تقترب من بعضها وتسمي نفسها ألمانا أو إيطاليين، لتكون أساس الدولة التي تنتظر موحدها أو صانعها.
الأديان والصراعات الدينية والتبشير بالسلاح أو بالكلمة تفرض أنماطا من التغيير. لكن أنظر إلى حجم القسوة التي تمارس من قبل الأديان لفرض هذه التغييرات. ثم أعد النظر بالأديان نفسها وتمعن بصيغتها الأولية، أي في مراحلها الأولى. هل كانت تلك الأديان تختلف كثيرا عن نمط الأعراف القبلية والاجتماعية السائدة؟ إتمام مكارم الأخلاق يشير أول ما يشير إلى منظومة أخلاقية سائدة تنتظر من يتمّها وليس من يغيّرها.
ألبس رجب طيب أردوغان بدلة، وضع أمامه ميكروفونا واتركه يتحدث. هل هذا رئيس عصري بالمفهوم الحديث لرجال الدولة، أم “غازي” على حد وصف سلاطين الدولة العثمانية لأنفسهم فخرا؟ شخصية التركي القادم من السهوب في وسط آسيا والذي أسس أكثر من إمبراطورية قبل أن يؤول الأمر إلى العثمانيين بعد هزة الاجتياح المغولي الثاني للمنطقة، لا تزال حية وواضحة، ليس في شخصية أردوغان وحسب، بل في الكثير من الأتراك الذين تلتقيهم على مراحل مختلفة من الحياة. في مطبعة مؤسسة “العرب” الغراء في التسعينات حين كانت المؤسسات في لندن تطبع صحفها بنفسها، كان فريق الطباعة تركيا، وكان على رأسه “عمدة” لا يذكّرك إلا بشخصية الجاويش أو العريف التركي في الجيش الانكشاري. لم يكن يعامل فريقه كجنود في فصيل عسكري، بل بقي طوال السنين ممتعضا من أن صاحب المؤسسة عربي يوقّع على شيك راتبه آخر الشهر. كان يقول حاضر “أفندم” على مضض.
أعتقد أن من الضروري التعامل مع مفردة التغيير بحذر، خصوصا ببعدها الاجتماعي، وعندما يتجاوز الأمر حدود الأسرة الصغيرة. ما يبدو أنه تغيير، قد لا يكون إلا مظهرية تعبّر عن مزاج مرحلي سرعان ما يتبدد. المثل الفرنسي يقول ما معناه “لا تتغير الأشياء إلا لتعود كما كانت”.