الشّعر والدّهشة

الطّريق إلى كتابة الضوء
الخميس 2021/04/01
لوحة: شادي أبو سعدة

“إنّني أعيش شعريا على هذه الأرض” (هولدرلن).

أفردت مجلّة الجديد ملفّا خاصّا بعلاقة الشّعراء العرب بالكتابة الشّعريّة وبمفهومهم للشّعر ولعلاقة الشّاعر بعالم القصيدة والوجود، أسمته، “أنت والشّعر”.

هذا.. كلامٌ على كلامٍ.

مشروع سجال بين النّاقد والشّاعر أرادته ” الجديد” أن يكون.. فكان.

القصيدة.. الجنّة المفقودة

ما أكثر الشّعراء.. وما أقلّ القصائد.

حين يلج شاعر كون القصيدة فهو محكوم بالتِّيه منذ البداية، يبحث عن ذاته وقد حجبتها متاهات الوجود يريد لنفسه موقعا داخل ذاته وداخل العالم، فالكتابة الشعرية عنده صنو الحياة.

فقد اعتبر الشّاعر العماني عبدالله الريامي أنّ مشروعه الشعري هو مشروع وجوده الشّخصي. ويرى الشّاعر اللبناني عبده وازن أنّه، غالبا ما يبدو السؤال عن لماذا تكتب الشعر أشبه بالسؤال عن لماذا تتنفّس أو تعيش أو تحلم أو تتأمّل. وغير بعيد عن ذلك يعتبر الشّاعر اللبناني سامر أبوهواش أنّه يكتب الشعر لأنه من خلاله فقط يرى العالم بقدر من الوضوح ويجد له شيئا من المعنى. أمّا الشّاعرة المغربية عائشة الحاج فتقرن ممارسة الشّعر بالحياة، فهما متلازمان تلازم وجوب وإلزام إذ تقول “أكتب لأعيش لأحيا لأتنفّس لأنقذ حياتي من اللاجدوى”.

إنّ الكتابة الشعرية عندها، ترياق من مرض عضال، هو الشعور بالفراغ واللاجدوى.

من الواضح إذن أنّ ممارسة الشّعر كفعل إبداعي تحظى بمكانة أثيرة لدى الشّعراء عامّة وشعراء ملف “أنت والشّعر” على وجه التّحديد.

إنّ الشّاعر ذات قلقة تشوبها حيرة السؤال ويؤرقها غياب اليقين.. مثل صوفيّ إذا هام في الأرض بحثا عن مستقر وطمأنينة وسكون زادته على الحيرة حيرة أخرى حتّى يذهب العقل وتفنى الرّوح في محبوبها المبثوث في كلّ جمال..

هكذا الشّاعر في بحثه عن القصيدة.. مسافر مؤمن بالمطلق محمول بالدّهشة نحو جنّته.. القصيدة.

لكن، هل إن جنّة القصيدة، بابها، مفتوح للجميع؟ هل هي، دائما، بوصله للشّاعر نحو الخلاص والبقاء؟ ثمّ، هل إنّ كلّ كتابة شعريّة هي بالضرورة قصيدة؟

ليس عجيبا، اليوم، الإقرار بأن عدد الشعراء الكثير ليس دليلا على تطوّر الشعريّة العربية وأنّه من النّادر أن تجد عملا فنيّا لشاعر يمكن أن نسمّيه دون تحفّظ، قصيدة، وينطبق هذا الكلام، أيضا، على “شعراء الصّف الأول” من أصحاب الأسماء المعروفة في الساحة الثقافية العربية.

إنّ القصيدة مآل، هي نتيجة صراع دامٍ بين الشّاعر وذاته تكون فيه القصيدة غنيمة الشّاعر المهزوم، فهي صورة تناحر داخلي سرّي لذلك تجيء مشحونة ومكثّفة ومضغوطة لأنّها تعكس حالة شعورية آنيّة غير ثابتة.. متوهّجة بالضوء الذي أنقذ صاحبها، في لحظة ما، من براثن الظّلام.

هل هذه العمليّة الشعوريّة متاحة لكلّ شاعر؟ الجواب، قطعا لا.

إنّ ذلك يتطلّب قدرة عجيبة على استبطان شعور ذاتي وتحويله إلى كلمات وصور وإلى إيقاع شعري يختزل إيقاع حياة، بمناويل بناء فنيّة متجدّدة قادرة على مسايرة “خيميائيّة” الذّات وتطوّر حاجياتها الدّائم وبثقافة شعريّة كونيّة تساعد الشّاعر في انفتاح قصيدته على العالم.

وهذا، يتطلّب مادّة خاما هي الموهبة ومادّة مكتسبة هي الدّربة والممارسة.

الشّاعر في بحثه عن القصيدة.. مسافر مؤمن بالمطلق محمول بالدّهشة نحو جنّته.. القصيدة

إنّ الطّريق إلى القصيدة محفوفة بالمزالق والأوهام، والمسافة إليها بعيدة، أبعد ممّا بين السّماء والأرض، إذا بلغها شاعر بعد كدّ وجهد، سيكتشف نفسه ويفقه، أخيرا، معنى الدّهشة. وهو تماما ما قصده الشاعر المغربي حسن نجمي بقوله “أكتب الشّعر لأدوّن دهشتي”.

إنّ جوهر القصيدة، بعد ذلك كلّه، هو التحرّر الشّعري من هاجس الغاية والنزوع إلى الكتابة الآلية المثقّفة وإلى المطلق والكلّي.. نحو الدّهشة.

يرى حسن نجمي أنّه لا شعر دون اندهاش ودون حدس فمنهما تنبثق اللحظة الشّعرية ثمّ تحضر المعرفة وجوبا في رصد وتدوين هذه اللحظة وكتابتها وإثراء معناها الوجودي والشّعري.. بل يذهب أكثر من ذلك فيعتبر أنّه من الدّهشة يولد الشّعر، فيجعل منهما دالين لمدلول واحد.

إنّ الدّهشة وصياغتها في بنية القصيدة.. بنية ودلالة وصورة، هي، تحديدا، لحظة التجلّي الشّعري التي من خلالها يدخل الشّاعر جنّة القصيدة، ولأنّ هذه اللحظة لا يبلغها بالغ تظل هذه الجنّة مثل سراب خلّب، لشاعر مسافر نحو الأبديّة لا تعييه، أبدا، رحلة بحث عن جنّة مفقودة.. يعرف، أنّه لن يجدها أبدا.

“الشّاعر نبيّ بلا مريدين،

إنّما نحن معشر الشّعراء يتجلّى سرّ النبوّة فينا “ (إيليا أبوماضي).

تترى محاولات ربط الشعراء بالنبوّة والرؤيا على نحو اعتباطي لا ينسجم مع سياقات الحركة الشعريّة في علاقتها بالمرجع، وهذا من شأنه أن يزيد من عزلة الشعر العربي الحديث ومن رسوخ الشاعر في برج عاجيّ بعيد عن الجمهور فينفره الواقع وتبتلعه رمال الوقت المتحرّكة بلا هوادة.

من الضروري إذن أن يقرن الشّاعر العربي اليوم مشروعه الإبداعي بهاجس أسلوبي ودلالي يلتحم بالذّات وبالهمّ الجمعي، بعيدا عن أيّ فلسفة طوباوية أو أفكار ماورائية مجّانية لا تأتي من أجل تغذية القصيدة بأساليب جديدة بل من أجل حشوها بسياقات بالية.

الشّاعر النبيّ مهجور ومعزول..

عبده وازن: حركة النقد الشعري ضئيلة وهي تتضاءل أكثر فأكثر

الآن نحن في حاجة إلى شاعر خبير، يطرّز كونه الشّعري في مختبره الخاص بأدواته الخاصّة.

يرى الشّاعر سامر أبوهواش أنّ “مسألة المشروع لأيّ شاعر ينبغي أن تكون من خلاصات القراءة والنّقد لا الشّعر نفسه” وهي رؤية رصينة لا تسعى لعزل الشّاعر عن الحركة النقدية باعتباره نبيّا يتلقّى الكلام من الشياطين بل تتنزّل في سياق شعري حداثي يجعل من الحركة الشعريّة موازية للحركة النقديّة ومتفاعلة معه تفاعلا عمليا سيفضي حتما لنتائج شعريّة واضحة.

وفي السياق نفسه يرى الشّاعر المغربي ياسين عدنان أنّه لم يكن ليحقق شيئا ذا بال في الكتابة الشعرية لولا النقّاد. أمّا الشّاعر التّونسي محمدالنّاصر المولهي فيقول “كتابة الشّعر بالنّسبة إليّ ذاتية وقد أثّر فيّ في مرحلة ما النّاقد التونسي محمد لطفي اليوسفي بنظرته إلى الشّعر والشّاعر”.

تجيء هذه المواقف في شكل اعترافات صادقة من شعراء الملف تعترف بفضل النّقد والنّقاد في تطوير تجربتهم الشّعرية وفي توجيه ممارستهم الإبداعيّة. وإن كان لهذه الاعترافات من أهميّة في تبيّن توجّه الشّعراء اليوم نحو قيمة الشّاعر الخبير في مقابل الشّاعر النّبي، فهي، أيضا، تدلّ على أنّ الشّاعر الحداثي في حاجة إلى روافد معرفيّة حتّى تتطوّر تجربته، فهو حرفيّ والنّاقد دليله لحذق حرفته وتطويرها نحو الكمال.

وفي سياق مقابل، يعتبر عبده وازن أن “حركة النقد الشعري ضئيلة وهي تتضاءل أكثر فأكثر” ويرى أنّ النقاد لم يرافقوا حركة الشعر الجديد والرّاهن. ويقول الشّاعر العماني زاهر الغافري “غالبا لا ينتبه النقّاد سواء في الذي حققته في الكتابة الشّعرية أو الذي لم تحققه أرى أن أغلب الدراسات النقدية تلجأ إلى تصوّرات انطباعية قد تنطبق على الشّعر الحديث كلّه.”

إنّ هذه المواقف وإن بيّنت الاعتراف بأهميّة النقد للشّعر والشّاعر فإنها تجعل من الحركة الشعرية سابقة للحركة النقدية نحو الحداثة وما بعدها، وإن كان ذلك صائبا أحيانا فإنّه لا يخلو من غلوّ وإسراف ذلك أن الكثير من التجارب الشعريّة الرّاهنة في العالم العربي لا تعدو أن تكون محاولات إبداعية بسيطة جانبت كثيرا أو قليلا أدبيات الكتابة الشعرية.. وهذا يجعل من النّاقد متحفّظا على نحو كبير.. يترك الممارسات الإبداعيّة الجديدة تمرّ من أمامه دون مبالاة لأنّه لا يجد فيها إذا أتى بها إلى مختبره ما يؤهّلها لأن تكون شعرا قبل أن تكون شعرا جديدا حداثيا.

إنّ الأطروحات التي جاء بها شعراء الملف “أنت والشّعر” في معظمها، من طينة الشّاعر الخبير لا الشّاعر النّبي وإنّ تباين موقفهم حول علاقة الشّاعر بالنّاقد، هو تباين محمود يعزّز السجال الثقافي في الكون الشعري

لكن تظلّ الحاجة إلى تعزيز الروابط الإبستمولوجيّة بين النّاقد والشّاعر، اليوم، ملحّة، أكثر من أيّ وقت مضى..

من أجل شاعر خبير قادر على صناعة الدّهشة من أجل كتابة الضوء.

” أنت والشّعر”.. والقارئ

ظلّ القارئ عند شعراء الملف، قيمة مهملة..

لا يمكن للشّاعر والنّاقد على حدّ سواء أن يتطوّرا فنيّا إلا بعد أن يوليا القارئ الأهميّة اللازمة. ذلك أنّ الشعرية المعاصرة أضحت تهتم بالقارئ وتعتبره عنصرا أساسيا في العمليّة الإبداعية ولم يعد ذاتا نائية أو محتجبة، تستهلك القصيدة استهلاكا جماليا وتتفاعل معها تفاعلا انطباعيا سطحيا..

القارئ اليوم، غوّاص في بحر الشعر، ينهل من أسراره بأدوات قراءته ويتفاعل معه تفاعلا نقديا علميا حسب الكفايات التي يمتلكها والمرجعيات التي يتبنّاها.

وعلى الشّاعر، وهو ينتج عمله أن يترك مجالا لقارئه لينهي الفعل الإبداعي ويجعله شريكا في محنة الكتابة عبر تأويل الصور الشعرية التي تنزع نحو المدهش والغريب ومن خلال الإضمار والحذف في ضروب إيقاع الخطاب وعبر معمارية القصيدة وتشكيل مقاطعها.. ذلك كلّه جزء هام من شعريّة القصيدة التي لا تبلغ منتهاها إلا بتأويل القارئ وفك رموزها وإكمال المحذوف فيها.. ومن هنا يكون القارئ مسؤولا في العملية الإبداعية وركنا أساسيا في الكون الشّعري..

إنّ هذه الميزة لا توسّع من دائرة التفاعل والتلقّي فحسب (شاعر – ناقد – مقام – قارئ).

بل تجعل من القصيدة نخبويّة بالمعني الحقيقي للكلمة موجّهة لقارئ نوعيّ يجب أن تتوفّر فيه كفاءة شعريّة ونقديّة معيّنة حتى تنجح عمليّة التفاعل الإبداعي وتتحقق اللذة الفنيّة.

إنّ هذه القصيدة النخبوية لا تعمّق الفجوة بين الشّاعر والجمهور بل تجعل من العلاقة بينهما علاقة شراكة حقيقية في خلق القصيدة وهو ما سيقرّب المسافة بينهما ويجعل الشّاعر حريصا على تطوير قصيدته لقارئ يتربّص به.

يجب أن يتمثّل الشّاعر الحداثي إذن الإشكاليّة التّالية: ماهي علاقتك بالقارئ في القصيدة؟ وما المهمّة التي تركتها له؟ كيف تنظر إلى قارئك بعد كلّ قصيدة؟

إنّ هذا التفاعل الجمالي بين الشّاعر والقارئ ينشّط في القصيدة حياة اللغة وقيمة الخيال من خلال توسيع مجال الإبداع والانتقال من علاقة المشابهة والوصف إلى علاقة التّبعيد والخلق، من المعلوم والظّاهر إلى المجهول الخفيّ.

وهذا الانتقال الفنّي الكبير يساهم فيه القارئ الذي جعل من الشعريّة المعاصرة ذات ديناميكيّة مفتوحة على جدليّتي الإثبات والمحو والانغلاق والانفتاح: إثبات تشكّل شعري مغاير ومحوه من أجل إثبات جديد وانغلاق بنية القصيدة على ذاتها وعلى عناصر تكوينها وانفتاحها على العالم لحظة المكاشفة الشّعرية..

هكذا، حركيّة تقوم على ترحال دائم نحو الضوء..

إنّ هذا القارئ، إذن، الذي أعلن عن وجوده رولان بارت في كتابه “موت المؤلّف” باعتباره مقوّما من مقوّمات الخطاب النّقدي المعاصر.. يصبح من الجحود المعرفي نكران عمله داخل النّسق الشّعري، وكلّ قراءة لخطاب علائقي تغيب فيه وظيفة القارئ هي قراءة مبتورة لن تفضي لنتائج نقديّة يمكن البناء عليها.

مسارات كتابة الضوء

لوحة: شادي أبو سعدة
لوحة: شادي أبو سعدة

ماذا بعد..

الآن، نحن في مسار مغاير في بحثنا عن جوهر الشّعر وكينونة الجميل، لا شيء يوقف الشّاعر الحداثي، إنّه كالماء يجري، لا يقف عند شيء.

بعد مسار شعريّ طويل من التجريب والخلق والتشكيل آن الأوان أن نعترف بالقلب المعرفي الكبير الذي حصل للشّعر.. إنّه التحوّل من ثقافة المشافهة إلى ثقافة الكتابة، من القصيدة إلى اللاّقصيدة.

إنّ تغيّرا جذريا مثل هذا في مجال إبداعي يحظى بالمكانة النواة في الثقافة العربيّة يصعب تمثّله وتصبح الممارسات التجريبية التي تنطوي تحت لوائه نادرة ومتردّدة..

لكنّ كتابة الضّوء تتطلّب الكثير من الجرأة للمضي قدما.. هذه الجرأة التي لن تولد إلاّ من دهشة كبيرة..

ماذا نعني بكتابة الضّوء؟

قديما، ولفترة طويلة من الزّمن، كان اعتبار الشّعر فنّا يقوم على المشافهة والإلقاء وحتّى تدوينه أو كتابته لا تعني شيئا فهو كتابة ثابتة ونمطيّة لفن شفوي.. لذلك لم تتجاوز ضروب التجديد مستويات اللغة والصورة والإيقاع.. حتّي في أقصى تمظهرات تجريبها لا تحيد عن تلك الحدود أبدا.. تحرّكات ثائرة وكبيرة لكنّها حبيسة سجن صغير.. جسد القصيدة وهيكلها المقدّس.

إنّ الشّعر في هذا السياق.. مهما طالته رياح التجديد في البنية والدّلالة.. هو معيار.

المعيار نقيض الضوء.. إنّه الظلام.

هذا المعيار يجعل القصيدة أسيرة لسياج سابق للتجربة فهو معطى ما قبلي لا يمكن للشّاعر أن يحيد عنه..

ومن جهة أخرى فإنّ تلقّي هذه القصيدة يكون دائما وأبدا بالأذن، وحدها.

الآن مع الكتابة المارقة عن معيارية القصيدة يتحرّر الشّاعر ويتحرّر القارئ معه.

فالشّاعر سيختبر نفسه أمام ممكنات الكتابة في فضاء الورقة، سيخوض صراعا ذاتيا وإبداعيا داميا.. ستتشظّى ذاته إلى أشلاء.. سيجد القارئ شتاتها في القصيدة، لا محالة.

بهذا المعنى، لن تصبح القصيدة مجرّد تمثيل ساذج لصوت ما، بل ستصوغ هي الصوت وتنحت ثناياه في إبداع.. صياغة اللامنتهي في ثباته وفي تحوّله أيضا.

فالتّفاعل الجسدي الذي كان يمثّل جوهر الإلقاء الشّعري، بما يصاحبه من حركات اليد وملامح الوجه وتموّجات الجسد، ستعوّضه الكتابة، عبر البياض والحذف وتوزيع الحروف والكلمات والأشكال والمقاطع.

أمّا القارئ فلن يعود حبيس الأذن بل سيفجّر حواسه من أجل تقبّل الشّعر، العين ستكون جاهزة أيضا، وربّما، في عدد قليل من التجارب، اللّمس والشمّ. إنّها شعريّة الحواسّ التي ستفتح أفق الشّاعر والقارئ نحو المطلق وتترك لهما وللقصيدة أبوابا كبيرة ونوافذ كثيرة لدخول الضوء إلى جسد الشّعر..

إنّها عمليّة كتابة الضوء، والدّهشة الناتجة عن الحرية، مثل سجين رأى أخيرا ضوء النّهار يسيل من ثغر الشّمس.

الآن، خطوة أخرى..

كيف نسافر إلى هذه الكتابة.. إلى هذه الأبديّة الشّاهقة؟ (سؤال ممض).

الخيال والأنا الصوفيّة

“كلّما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة” (النفري).

الشّاعر، هذا الصّوفي المنثور في الوجود، الزّاهد في اليقين والفاني في الرّحلة. يخوض مساره بحثا عن ذاته وعن طمأنينة ما.. فهو رحّالة، والرّحلة صنو الحركة.

وهذه الصّفة ذات بنية أنطولوجيّة تقوم على المتحرّك في مقابل البنية العقلية الإنسانية العامّة التي تقوم على الكلّي والثّابت.

التحوّل من العام والجماعي والثابت إلى الفردي والمتحرّك هو ميزة الأنا الصوفيّة، وهي بذلك، الأشدّ ظمأ للكتابة الشعرية الجديدة.

نحن إذن، بصدد ذات تتحرّك باستمرار نحو حقيقة لن تجدها أبدا، ذات تتحرّك في اتجاه غير متناه فتخلق لنفسها نسقا ديناميكيّا متصيّرا، تماما، مثل تصيّر حقيقة اليقين والوجود.

تتّسم الأنا الصوفية إذن، بفعل الحركة الذي سيتجسّد شعريا بفعل الكتابة، ولا يتسنّى له ذلك إلاّ بالخيال.

إنّ الخيال، وحده، زاد الصوفيّ في رحلته المرهقة نحو المطلق. فبه سيعبّر في فضاء الورقة عن تجليات الحركة وتموّجات الذّات في مسارات الوجود. وهذا الفعل سيتطلّب قدرا كبيرا من الابتكار والخلق ويجعل الشّاعر يثبّت الرّحلة حسب لحظة التجلّي الآنية المتحوّلة وسيعتمد في ذلك على الخطوط والأشكال والألوان والتصرّف الحرّ في بياض الورقة.

فالخصوصية المعرفيّة الفلسفيّة التي تتميّز بها الأنا الصوفية تجعل من الكتابة غاية ووسيلة في آن واحد، فكرة وأداة لفكرة. وهذه الخصوصية تتطلّب لغة أخرى قادرة على التعبير على هذه الرؤية التي اتسعت وضاقت بها العبارة وأصبحت عاجزة أمام تجربة صوفيّة لا تكفّ عن البحث على الضوء.

إنّ الصوفي إذن، في حاجة إلى الكتابة غير الثابتة واللامتناهية من أجل التعبير عن رحلة الوجود ولحظة الكشف.. في حاجة إلى كتابة الضوء.

إيقاع الذّات وتشكيل المكان

التّفاعل الجسدي الذي كان يمثّل جوهر الإلقاء الشّعري، بما يصاحبه من حركات اليد وملامح الوجه وتموّجات الجسد، ستعوّضه الكتابة، عبر البياض والحذف وتوزيع الحروف والكلمات والأشكال والمقاطع

من مسارات الكتابة وثقافتها في الشّعر المعاصر، وهو وجه فنّي لم يلفت أنظار شعراء ملف “أنت والشّعر” هو الذّات الشّاعرة بما هي معين تنهل منه القصيدة إيقاعها المتحوّل والآني، فالإيقاع بذلك لن يكون معطى سابقا للتجربة أو منوالا جاهزا، بل هو مغامرة صوب المجهول ورحلة في متاهة خطرة تتواشج في رسم منعرجاتها ديناميكيّة الذّات وإمكانات الكتابة اللانهائية.

الإيقاع في الكتابة الشعرية الجديدة هو إيقاع ناتج من حشرجات كينونة يمزّقها وجود مرفوض وغياب منتظر، تخطّه يد محمومة ومريضة. فضروب الإيقاع المرئي هي انعكاس صارخ لذات مفكّكة ومتشظّية، لم تعد المناويل الإيقاعية التقليدية قادرة على الإحاطة بها أو التعبير عنها.

فالبياض ونقاط التتّابع وتباعد الكلمات وتقطّعها، كلّها، تجسيدات كتابية سيمائيّة للتّعبير عن ذات قلقة ومفكّكة. فبياض الورقة معطى مادّي مفتوح على المجهول تتوزّع فيه المقاطع الشعرية والكلمات وتتشكّل معمارية النص الشعري حسب ما يختلج في الذّات الشّاعرة من شعور. كلّ صفحة بيضاء هي كون شعريّ مغاير ومختلف، وهي ساحة وغى، تدور فيها حرب دامية بين الشّاعر وذاته، لا يعلم أحد مآلاتها.

المعنى فاض عن النّمط وسال على جسد التّجريب، هذا التطوّر في نسق الإيقاع باب من أبواب الدّهشة.

إنّ إيقاع الذّات، يتنزّل في سياق ثقافة المكان، وهي ثقافة أصبح الوعي بها أحد شروط المعرفة الشعرية المعاصرة وأحد أشكال يقظتها، ألحّ عليها ملارميه ومن بعده من المحدثين في الغرب، وأهملها عدد كبير من شعراء العرب.

إذ لم يعد المكان يختزل في مجرّد الخط، بل أصبح المكان في الكتابة أمكنة متعدّدة الأبعاد والمساحات ومتفرّعة الزوايا والشقوق، إنّه تموّج وليس امتدادا أو سطحا.

وهو ما سيجعل القارئ يتعامل في الكتابة مع إيقاع متحوّل باستمرار، نابع من ذات متحوّلة الأمر الذي سيلقي بهذا القارئ في فوهة المحتمل والمباغت والمجهول، وهو ما سيحقّق له الدّهشة ويحرّك لديه الخيال.

إضافة إلى ذلك، تمثّل ثقافة المكان قلبا معرفيا آخر، من مركزيّة الزّمان إلى مركزيّة المكان، فالقرائن البصريّة تستخدم الفضاء لا الزّمان الذي أصبح مجاورا للمكان وحافّا به بعد أن كان جوهر القصيدة.

وبناء عليه، فإنّ تطوّر مفهوم الإيقاع في الكتابة الشّعرية الجديدة، من الإيقاع الجاهز الماقبلي إلى الإيقاع المتغيّر، من الواحد إلى المتعدّد، من المعلوم إلى المجهول من شعريّة القصيدة كقالب معرفي مقدّس إلى متّسع لا نهائيّ، هو صعود جريء من البيت والحديقة والمدفأة.. إلى السّماء والشّمس.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.