الصليبيون في القدس
تستمد رحلة الحاج البريطاني سايولف إلى الأراضي المقدسة في العام 1102م أهميتها؛ من كونها واحدة من أولى الرحلات التي وصلتنا بعد احتلال الصليبيين لمدينة القدس في العام 1099م، ومن هنا، فإن هذا النص يعد مثالياً للمقارنة مع ما كتبه الحجاج اللاحقون. ومع ذلك، لم تحظ هذه الرحلة باهتمام كاف من البحاثة الغربيين، ربما بسبب مرجعياتها المعروفة، أو بسبب الأخطاء في الاتجاهات التي أضعفت من مصداقية السرد.
تبين الرحلة التي قام بها حاج مجهول يدعى سايولف، بعد ثلاث سنوات فقط من احتلال القدس، ازدياد الطلب على نقل الحجاج الغربيين إلى فلسطين، حتى أنه وجد بالكاد سفينة في جنوب إيطاليا تقله إلى الأراضي المقدسة، وكان عليه أن يمر بمغامرات شاقة كادت تودي بحياته على طول البحر الأدرياتيكي، وعبر اليونان، قبل أن يبلغ مدينة يافا على الساحل الفلسطيني. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد تعرض لمخاطر أخرى نتيجة الأوضاع الناجمة عن الحروب الصليبية، وخصوصًا بين يافا والقدس.
ومن غير المعروف إن كان سايولف قد عاد إلى بريطانيا أم بقي في اليونان أو إيطاليا، ولكن نصه الوحيد المكون من 37 ورقة مخطوطة باللاتينية، كان مملوكاً لرئيس أساقفة كانتربري ماثيو باركر (6 آب/ أغسطس 1504 -17 أيار/ مايو 1575)، قبل أن يؤول إلى جامعة كامبريدج، ليترجمه ويحققه الباحث الكبير توماس رايت، وينشره في العام 1848 في مختاراته حول الرحلات المبكرة إلى فلسطين.
من الملاحظات التي تؤخذ على هذا النص؛ اعتماده بشكل واضح على ثلاثة أدلة معروفة لإرشاد الحجاج إلى أماكن الزيارة، يضاف إلى ذلك استخدامه لخارطة مقلوبة على ما يبدو، جعلته يخطئ أخطاء فادحة منها أن بيت لحم شمالي القدس. هذا إذا تغاضينا عن مبالغاته غير المعقولة، وغير المستندة إلى أيّ نص تاريخي، حول قيام المسلمين بهدم المقدسات المسيحية التي بنيت في الفترة السابقة على الإسلام، وربما الاستثناء الوحيد هو هدم كنيسة القيامة في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، والذي أعاد بناءها من جديد على نفقته بعد ذلك بفترة قصيرة.
وعلى الأرجح فإن هذه المزاعم ناتجة بالدرجة الأولى؛ عن الدعاية الصليبية التي كانت تحاول تبرير احتلالها للمناطق المقدسة لدى الجمهور الغربي، إضافة إلى معلومات مضللة استقاها من رهبان سريان (يسميهم آشوريين)، حدثوه عن تدمير مزعوم لكنائس خارج سور المدينة لا أحد يعرف عنها شيئاً، علما أن السريان هم الوحيدون من أتباع الكنائس الشرقية الذين سمح الصليبيون ببقائهم في القدس، بعد أن طردوا الروم الأرثوذوكس، واحتلوا مبانيهم، ومنها مقر بطريركيتهم.
أنواء جوية
بدأ سايولف رحلته في تموز (يوليو) 1102م من ميناء مونوبولي جنوبي إيطاليا على البحر الأدرياتيكي. وبعد صعوبات جمة في الإبحار وصل إلى ميناء برنديزي، ثم ميناء كوروفو اليوناني، ثم إلى جزيرة كيفالونيا اليونانية، وفيها مات أحد رفاق الرحلة، ثم انطلق إلى جزيرة باتراس، ومنها ذهب إلى مدينة كورنثوس. وبعد مخاطر جمة وصل إلى جزيرة قبرص، ومنها انطلق إلى ميناء يافا على الساحل الفلسطيني الذي وصله بعد ثلاثة عشر أسبوعا من بدء الرحلة.
ويقول سايولف إنه حين وصلت السفينة إلى مشارف مدينة يافا وتوقفت على مسافة من الشاطئ قال له أحدهم: “سيدي، اذهب إلى الشاطئ اليوم كي لا تهب عاصفة في الليل، مما يجعل من المستحيل الهبوط غداً”. ويضيف قائلاً إنه استأجر قارباً ركب فيه مع جميع رفاقه، ولكن، قبل أن يصل إلى الشاطئ، كان البحر مضطرباً، وازداد اضطرابه، ولكنه هبط ورفاقه بسلام، ودخلوا المدينة مرهقين جائعين وعثروا على مسكن ينامون فيه تلك الليلة. وفي الصباح وبينما كانوا عائدين من الكنيسة، سمعوا هدير البحر، وصراخ الناس، ورأوا الأمواج أعلى من الجبال، وجثثاً لا حصر لها قذفتها الأمواج إلى الشاطئ، بينما كانت شظايا السفن تطفو في كل مكان.
ويسترسل سايولف في وصف الكارثة التي أسفرت عن تحطم ثلاثين سفينة ضخمة، وغرق أكثر من ألف رجل وامرأة معظمهم من الحجاج، قبل أن يتوجه ورفاقه إلى القدس التي تقع على مسيرة يومين من يافا، كما يقول، عبر طريق جبلية وعرة للغاية وخطيرة، وخصوصاً في منطقة عمواس التي تشهد كمائن للمسلمين. وتجده يتحدث في هذا الجزء من الرحلة عن جثث مرمية على الطريق مزقتها الوحوش البرية، ولا يفوته تعداد أسباب الموت على الطريق، من قبيل الجوع، والعطش، وهجمات المسلمين.
في القدس
يدخل سايولف إلى القدس من بوابتها الغربية التي تقع، كما يقول، تحت قلعة الملك داود، عند الباب المسمى باب داود. ويضيف قائلاً: “المكان الأول الذي تجب زيارته هو كنيسة القيامة، التي بنيت بشكل ملكي ورائع، بعد اكتشاف صليب السيد على يد رئيس الأساقفة مكسيموس، برعاية الإمبراطور قسطنطين وأمه هيلانة. في وسط هذه الكنيسة يوجد قبر سيدنا، محاط بسور وسقف قوي للغاية، كي لا يسقط المطر على القبر المقدس، لأن سقف الكنيسة مفتوح على السماء”.
ويقول إن الكنيسة مثل المدينة مبنية على منحدر جبل صهيون، وإن الإمبراطورين تيتوس وفيسباسيان دمرا أورشليم بالكامل حتى تتحقق نبوءة يسوع، الذي قال باكياً عندما اقترب من أورشليم: “لأنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ”.
ويذكر سايولف أن الإمبراطور هادريان، الملقب بإيليوس، قد أعاد بناء الهيكل والمدينة، ووسعها حتى برج داود الذي كان في السابق على مسافة بعيدة، وأطلق عليها اسم إيليا الذي يفسر بأنه بيت الله. ويضيف أن البعض يعتقد بأن الإمبراطور جستنيان أعاد بناءها، مع معبد الرب كما هو الآن، لافتاً النظر إلى أن هذا الكلام هو مجرد افتراض.
ويشير رحالتنا إلى وجود أماكن مقدسة جداً في ساحة كنيسة القبر المقدس؛ مثل السجن الذي حُبس فيه يسوع المسيح بعد أن تعرض للخيانة، والمكان الذي تم العثور فيه على الصليب المقدس والصلبان الأخرى، حيث تم بعد ذلك بناء كنيسة كبيرة تكريماً للملكة هيلانة، ولكن هذه الكنيسة، كما يزعم، قد تم تدميرها بالكامل من قبل الوثنيين، أي المسلمين، وهذه مزاعم باطلة فالكنيسة التي أمر الإمبراطور قسطنطين ببنائها في المكان ما تزال قائمة حتى اليوم.
كنائس كثيرة
وبعد ذلك يستعرض سايولف بشيء من التفصيل؛ الآيات الواردة في العهدين القديم والجديد التي تتحدث عن الجلجثة، وعلاقة الأنبياء بها، ويقول إنه بالقرب من مكان الجلجلة توجد كنيسة القديسة مريم، في المكان الذي دُهن فيه جسد يسوع، بعد إنزاله عن الصليب، قبل دفنه، ولفه بقطعة قماش أو كفن من الكتان. وعلى الجانب الآخر من كنيسة القديس يوحنا، يوجد دير جميل جداً للثالوث الأقدس، حيث يوجد جرن المعمودية، والذي يجاور كنيسة القديس يوحنا الرسول. أما خارج باب القبر المقدس، من جهة الجنوب، فتوجد كنيسة القديسة مريم، اللاتينية، لأن الرهبان هناك يؤدون الصلوات الإلهية باللغة اللاتينية.
والملاحظ أنه في تعداده للمواضع المقدسة في المكان، مثل كنيسة مريم الصغيرة المخصصة للراهبات، ودير القديس يوحنا المعمدان، تجده يتحدث عن المسجد الأقصى وقبة الصخرة كما لو أنهما كانا مبنيين منذ عهد النبي سليمان، من دون أن يذكر شيئاً عن أنهما كانا مسجدين تم تحويلهما إلى كنيستين قبل عامين لا أكثر!
ويزور سايولف كنيسة القديسة حنة، ويمر عبر البوابة المؤدية إلى وادي يهوشافاط، إلى كنيسة القديسة مريم في نفس الوادي، حيث يوارى جثمانها هناك، ويقول إن قبرها يحظى بالتبجيل وأعظم آيات التكريم من قبل المؤمنين، وأن الرهبان يؤدون الخدمة هناك ليلاً ونهاراً.
إلى بيت لحم
ومن كنيسة القديسة مريم يصعد عبر طريق شديد الانحدار إلى قمة جبل الزيتون، إلى المكان الذي صعد فيه يسوع إلى السماء أمام أعين تلاميذه. ويقول إن في المكان برجا صغيرا مزينا بشكل رفيع المستوى، كما أنه محاط من جميع الجوانب بجدران. ومن هناك ينتقل سايولف إلى بيت لحم التي يقول إنها تقع على مسافة ستة أميال شمال القدس، والصحيح جنوب القدس، ويضيف أن الوثنيين (أي المسلمين) لم يتركوا هناك شيئاً صالحاً للسكن، كما فعلوا ببقية الأماكن المقدسة خارج سور مدينة القدس! ويقول إنهم (أي الوثنيين) تركوا دير السيدة مريم العذراء ولم يهدموه، و”هو مبنى كبير وجميل فيه كنيسة تحتها سرداب، حيث يُرى مكان ميلاد السيد، وفي الأسفل قليلاً، إلى اليمين، بالقرب من مكان الميلاد، يوجد المذود حيث وقف الثور والحمار عندما وضع الطفل أمامهما فيه؛ وكذلك الحجر الذي حمل رأس مخلصنا في القبر، والذي أحضره القديس جيروم من القدس”. ويلفت الانتباه إلى أن القديس جيروم نفسه يرقد في نفس الكنيسة، تحت المذبح.
ويشير سايولف إلى أن قرية بيت عنيا، حيث أقام يسوع لعازر من بين الأموات، تبعد عن القدس حوالي ميلين إلى الشرق، على الجانب الآخر من جبل الزيتون، وفيها كنيسة القديس لعازر وقبره، ويقول إن مدينة أريحا تقع على بعد عشرة فراسخ من القدس، أما نهر الأردن فيقع على بعد أربعة فراسخ إلى الشرق من أريحا.
الخليل والناصرة
ومن الأماكن التي زارها مدينة الخليل التي يزعم أنها كانت كبيرة وجميلة للغاية قبل أن يدمرها المسلمون، كما أخبره بذلك رهبان سريان. ويشير إلى وجود أضرحة الآباء الثلاثة القديسين، ويقصد إبراهيم عليه السلام وإسحق ويعقوب، ويذكر أنه زار أيضاً مدينة ناصرة الجليل، حيث تلقت السيدة العذراء مريم البشارة من ملاك الرب، حيث أن المسافة إليها من القدس تستغرق حوالي أربعة أيام، في الطريق الممتدة عبر شكيم، مدينة السامرة، والتي تسمى الآن نابلس. ومن هناك توجه إلى مدينة قيسارية فلسطين، ومنها إلى حيفا، ومن حيفا عاد إلى الناصرة.
من الناصرة انطلق سايلوف لزيارة جبل طابور على مسافة أربعة أميال إلى الشرق، ويلفت انتباهه وجود ثلاثة أديرة قديمة على قمته؛ واحد على اسم يسوع المسيح، والثاني تكريما لموسى، والثالث على بعد مسافة ما من الآخرين، تكريمًا لإيليا. ويضيف القول إن بحر الجليل، أي بحيرة طبريا، يقع على بعد ستة أميال من جبل طابور إلى الشرق والشمال الشرقي، ويبلغ طوله حوالي عشرة أميال وعرضه خمسة. وتقع مدينة طبريا على شاطئ البحر ومقابلها على الجانب الآخر توجد مدينة كورازيم وبيت صيدا، مدينة أندراوس وبطرس.
منابع الأردن
ويختتم سايولف رحلته بزيارة منابع الأردن ومدينة قيصرية فيليبي، أي بانياس الجولان، التي سأل فيها يسوع تلاميذه، كما هو مذكور في الإنجيل: “من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟”. ويضيف: إن نهر الأردن يتدفق من نبعه بمسار سريع جدًا، ويصب في بحر الجليل من جانب، ويخرج من الجانب الآخر، ليسير في رحلة تستغرق ثمانية أيام، قبل أن يصب في البحر الميت. ويلفت الأنظار إلى أن مياه نهر الأردن أكثر بياضاً من أي مياه أخرى، ويمكن تمييزها لمسافة طويلة في البحر الميت.
ختام الرحلة
ويقول رحالتنا مختتماً رحلته: “بعد أن قمنا بكل ما في وسعنا، لزيارة جميع الأماكن المقدسة في مدينة القدس والبلاد المحيطة، أخذنا السفينة من يافا، ولكن خوفاً من الاصطدام بأسطول العرب، لم نجرؤ على الخروج إلى البحر بنفس المسار الذي أتينا به، ولكننا أبحرنا على طول الساحل عبر عدة مدن، وقع بعضها في أيدي الفرنجة، في حين أن البعض الآخر لا يزال في يد المسلمين (..) وفي يوم الأربعاء من عيد العنصرة، بينما كنا نبحر بين حيفا وعكا، ظهرت فجأة في الأفق ست وعشرون سفينة للعرب، تابعة لقوات أميرال صور وصيدا، التي كانت تحمل جيشا لحرب ملك أورشليم. فهربت سفينتنا بسرعة إلى قيسارية. وقد طوق المسلمون سفينتنا من جميع الجوانب، وكانت المسافة بيننا وبينهم طلقة سهم، لكنّ رجالنا المستعدين لمواجهة الموت في سبيل المسيح تمركزوا بأسرع ما يمكن على قمة السفينة. وبعد مضي حوالي ساعة عقد قائد الأسطول المعادي مجلساً وأرسل بحاراً ليأخذ معلومات عن حالتنا واستعداداتنا؛ وبمجرد أن رأوا الوجه الجريء الذي أظهرناه، رفعوا أشرعتهم وتوجهوا إلى البحر، وهكذا انتزعنا الرب بنعمته من أعدائنا في ذلك اليوم”.
وهكذا غادروا الساحل السوري باتجاه قبرص ومنها إلى اليونان حيث توقفت روايته للأحداث في أيلول (سبتمبر) 1103.