العشاء جاهز
تحسس كرشه المندلق بين فخذيه، حكَّ ذقنه المتهدلة بطرف إصبع ثخينة.
– أين العشاء؟
– سيدي، اضطر الطاهي للذهاب، ابنه مريض، وأدخله المشفى هذا المساء.
– هل هذا وقت مرض ابنه؟
تدخلت زوجة هيكل:
– سأعدُّ لك بسرعة شيئا لتأكله، فأنا كما تعرف لا أتعشى.
– لا، لا، ليس هذا الوقت المناسب لتتعلمي الطبخ.
قهقه هيكل وهو ينهي جملته.
– سأتغاضى عن سخريتك، ولكن يمكن أن أجهز لك طبق جبنة بيضاء بالبندورة، وصحن عجة مثلا.
– لا يا عزيزتي، لا تهتمي، سأطلب من مطعم الوجبة الجاهزة عشاء لنا جميعا، وسأدلل الحراس والعاملين في القصر، سنأكل معا، يمكنك أن تكسري حميتك ليوم واحد.
– ماذا تفضلين أن نأكل، اختاري لنا على ذوقك؟
– اطلب ما تشتهي، لن أتعشى على أيّ حال، ولن أخرق نظامي الصحي، وزني الآن سبعة وخمسون كيلوغراما، كسبت أصلا أكثر من كيلوغرامين منذ الأسبوع الماضي.
أدارت هيفاء ظهرها له، صعدت الدرج بخطوات رشيقة، تأمل شعرها الأشقر المنسدل على ظهرها، وقامتها الطويلة النحيفة.
لم يكن هيكل مشغولا بمعرفة تطور وزنه، يذكر أنه كان قريبا من مئة وثلاثين كيلوغراما العام الماضي.
– نادر هيكل على الهاتف.
– نعم يا سيدي، بماذا تأمر؟
– خمسة فراريج مشوية، شرائح من لحم البقر، كبة، كباب، سلطات متنوعة، مقبلات، بطاطا مقلية، عشر زجاجات متنوعة من الصودا، توابل، كتشب، خردل، ومخللات.
أريدهم بسرعة البرق.
– سيكون الطلب عندك بعد نصف ساعة على الأكثر، شرفتنا باتصالك يا سيدي.
بعد ساعة.
ضاق صدر هيكل لتأخر طلبه، كانت الساعة قد اقتربت من التاسعة مساء، فرك الحراس أيديهم، ومسحوا لعابهم عن أطراف أفواههم، منُّوا النفس بالوجبة الشهية المنتظرة، لم يكونوا معتادين على ولائم السيد الشره، وربما كانت المرة الأولى التي يسمح لهم فيها بالاقتراب من طعامه، عادة ما يأكل لوحده أو مع ضيوفه وهم يتحدثون عن صفقة ما تحضر على نار قوية، أو مع أصدقائه المقربين في وصلة سهر وسمر.
أمسك هيكل هاتفه من جديد، تطاير الشرر من عينيه، والرذاذ من فمه:
– أين الطلبية يا حمار؟
– لماذا الغلط يا سيدي؟
– اخرس الآن، وقل لي لماذا تأخر عشاء نادر هيكل؟
دون مقاومة، أجابه مدير المطعم:
-أأ، أر، أرسل، أرسلناه منذ أكثر من نصف ساعة مع وديع عامل التوصيل.
– وأين هذا الأحمق بديع، ألا يعرف طرقات المدينة؟
– وديع يا سيدي، بالعكس، أرسلت لك الأكثر خبرة من عناصري.
حاول المدير المضطرب التنصل من مسؤولية التأخير، ركَّز على تصحيح اسم وديع، خشي من وزر ما قد يحدث إن تجاوز غضب نادر هيكل الحد، فلن يتردد لحظة واحدة في إرسال رجاله لتكسير المطعم على رأسه.
أردفَ:
– سيدي، إن لم يضايقك الأمر، سأتصل بوديع، وأخبرك بما حدث معه.
– لا، أعطني رقم هاتفه، وأنا سأتصرف، سأكسر عظامه إن تأخر أكثر.
– أين أنت يا متخلف؟
– من يتحدث؟
– أنا نادر هيكل يا حمار، لماذا لم تحضر العشاء، أنا أنتظرك منذ وقت طويل
– آسف يا سيدي، لكني تعرضت لحادث سيارة، حاول سائقها تفادي الارتطام بي، انحرف إلى المنصف، اصطدم به بعنف ومات، مات يا سيدي…
– أين حدث ذلك؟
-مقابل فرع المرور، أنا الآن على الأرض، وحولي رجال الشرطة والإسعاف، لا…
– لا تتحرك يا بديع، أنا قادم.
– شكرا يا سيدي لنجدتك، على كل حال أنا لا أستطيع الحركة، وأعتقد أن ساقي مكسورة.
-لا تهتم، لا تهتم.
قبل ذلك بنصف ساعة.
ضوء القمر يتخلل الأشجار العالية قرب فرع المرور، نسمات ليلة صيف تحرك بلطف أوراقها، أصوات الشارع بدأت تهدأ، تمهل وديع، خشي أن يتعرض لمخالفة، شرد لثوان وهو ينظر ناحية الفرع، تجاوز الإشارة الحمراء.
شاحنة آتية من الجهة اليسرى، يقودها بهدوء فريد الراعي، عامل في شركة بناء، يعود إلى بيته بعد يوم طويل وشاق، لن تتناول زوجته وأولاده العشاء قبل وصوله، موعدهم الاعتيادي في الثامنة مساء، لا يخلف موعده إلا نادرا جدا، ولكنه تأخر في الخروج من الورشة، يحرص فريد على إبقاء هذه الجمعة العائلية قبل أن يخلد إلى النوم لأن يوما شقيا آخر بانتظاره غدا، يستيقظ قبل أن يرنّ منبه ساعته في الخامسة صباحا.
لم يرَ فريد الدراجة النارية المخالفة لإشارة المرور إلا وقد أصبحت على بعد أمتار منه، انحرف لليمين ليتفاداها، لكنه انتهى محطما واجهة شاحنته على اسمنت منتصف الطريق، لم يتحمل جسده رغم قوته هول الصدمة، انحصرت قدماه وانعصرتا داخل هيكل السيارة المشوّه.
تدخل عناصر شرطة المرور الذين شاهدوا الحادث بأمّ العين، قطعوا المعدن بمنشار كهربائي، سحبوا السائق المسكين من كتفيه إلى الخلف، وأخرجوه بعسر من سيارته، طلبوا تدخل الإسعاف، لكنهم لاحظوا جسدا بلا حراك، كان الموت أسرع من الجميع في الوصول إليه.
تجمدَ عامل التوصيل وديع بدرة على الأرض بعد أن ارتفع فوق الشاحنة، انزاح عن زجاجها الأمامي، وسقط على الأرض، تابعت دراجته حركتها المنقلبة لتلحق بالشاحنة عند المنصف، لم يفقد الوعي، لكن الذعرَ هدَّه.
اقترب شرطيٌّ منه:
– هل أنت بخير؟
امتقع وجع وديع، أحس بثلج يسقط على أطرافه، دارت عيناه في محجريهما، بقي لدقائق غير قادر على الرد.
تركه الشرطي، وأشار لعناصر الإسعاف، وضعوا فوقه غطاء من السلوفان لتدفئته، ثبّتوا جسده إلى نقالة، استعاد أجزاء حواسه التائهة، صرخ من الألم حين لمس المسعف ساقه اليسرى التي أخذت شكل أفعى ملتوية، همس في أذنه بصوت رحيم:
– استرخِ، حياتك ليست بخطر، لكن ساقك مكسورة، سأعالجها مؤقتا في المكان لكي لا تتفاقم إصابتها، وسننقلك إلى المشفى.
رنَّ هاتفه الجوَّال في هذه اللحظات، رجا المسعفين أن يضعوه على الأسفلت قرب سيارتهم، ظنَّ أن والدته تتصل به، لكن صوت الشتائم القادم من جهة نادر هيكل أعاده إلى الواقع، وفاقم ألم ساقه، وروحه.
أضواء سيارات الشرطة والإسعاف اختلطت مع نور البدر الساطع ومصابيح الشارع، لم يستطع هواء الصيف المنعش أن يطغى على رائحة الموت التي رافقت العربة الناقلة لجثة سائق الشاحنة إلى براد المشفى القريب.
قبل قليل.
انعطف سائق سيارة الإسعاف بمناورة نصف دائرية، عاد من الطريق العام الذي فتحه له رجال الشرطة، توجه لأخذ المصاب، فوجئ بسيارة دفع رباعي آتية بسرعة من الجهة المخالفة، لم يردع سائقها لا ضوء سيارة الإسعاف ولا إنذارها الصوتي الصاخب.
ترجل من سيارة الدفع الرباعي شبح عريض وطويل، ترك بابها مفتوحا، هرول، نظر يمنة ويسرى.
– هل يخصُّك سائق الشاحنة، أم عامل توصيل الوجبة الجاهزة؟
– عامل التوصيل، بل، ليس بالضبط.
– رجله مكسورة، ولكن حياته غير مهددة.
– ومن يأبه برجل هذا الأحمق، أين دراجته؟
لم يفهم المسعفون قصد هذا الرجل الذي بدا غريب الأطوار، واقتحم مسرح الحادث دون إذن من أحد.
هرع رجال الشرطة نحوه، طوقوا سيارته، وصوبوا أفواه بنادقهم إلى رأسه الكبيرة.
لم يكترث نادر هيكل بهم، كأن الأمر لا يعنيه، لم يستشعر أيّ خطر محدق، تهلل وجهه، جال بنظره في أرجاء المكان، وجد في فسحة المنصف الترابية بغيته، الدراجة منقلبة، لم يفارقها صندوقها الأحمر محكم الإغلاق، صادف بصره العائد شابا مستلقيا على عربة إسعاف، عرفه من لباسه الأحمر الكامل، توجَّه إليه بالسؤال، أشار إلى صندوق الدراجة:
– هل هذا طلب نادر هيكل؟
– نعم، نعم يا سيدي.
أضاف وديع ببراءة طفل:
– سيدي، ألن تأتي معي إلى المشفى لتساعدني، أخشى من لوم رجال الشرطة، لقد خالفت إشارة المرور، وتسببت بموت إنسان؟
– اذهب إلى الجحيم، تحمَّل مسؤولية خطأك، احمد الله أنك ما زلتَ حيّا.
بخطوات وئيدة، مشى نادر هيكل، لم يحاول فتح الصندوق بل افترعه عن قاعدته، وتجاهل المسرح وأبطاله ومشاهديه، عاد إلى سيارته، وأمسك بطرف بابها الذي بقي مفتوحا منذ نزوله.
اعترض ضابط شرطة طريقه، تبحر نادر في عينيه:
– ابتعد يا بني، أنا نادر هيكل، وبحركة مسرحية أدار عنقه نحو تجمع الشرطة الأكبر، وأهداهم بضع كلمات:
– تابعوا عملكم، الله يعطيكم العافية.
تسمّر الضابط في مكانه، صعد هيكل، وضع الصندوق الأحمر بجانبه، أشار إليه بكفه الكبيرة، لم يجد نفسه إلا وهو يؤدي التحية له بعد أن أغلق باب السيارة.
رفع المسعفون وديعا إلى سيارة الإسعاف، انتظروا ابتعاد السيارة السوداء، أخذوا طريق المشفى، كان زملاؤهم ينزلون جثة فريد الراعي في برّاد المشفى، دق أقلهم حظا أرقام هاتف من أصبحت الآن أرملة.