الغيمة الخيمة
حالما، كان يمشي دون اتجاه. لم يخطر بباله أيّ مكان سيتجه إليه، لم يقرر شيئا قبل أن يبدأ بالمشي. كان يرتدي سروالا قماشياً بلون أزرق داكن، اللون الذي يشير أحيانا إلى مشاعر العزلة والحزن، وقميصا سماويا فاتحا. حين رفع عينه إلى الأعلى، رأى غيمة تتوسط سماء زرقاء. تفرسها مليّا وبدت له أنها خيمة كبيرة، فتذكر بيته الفارغ من أهله والمملوء بالحسرات، فطأطأ رأسه وفرك عينه كأنه يريد بذلك لجم دمعه. كان الوقت عصرا وكان الجو معتدلا، ومع ذلك كان يحمل مظلة سوداء، يستعملها كعكاز. الغيمة كانت لا تسير، بل تراها كانت ترقبه من بعيد. واصل سيره خالي الفكر، غير متعجل للوصول لمكان محدد.
مؤخرا كان يجد صعوبة في تذكر خريطة المدينة، فتختلط عليه الشوارع والأزقة، فهو من مدة لم يجرب المشي دون اتجاه، وربما لأن شكل المدينة قد تغير لطول انعزاله عن الناس، وربما هو النسيان الذي بدأ يسيطر على ذاكرته.
لون السماء كان ساعته البسيطة، لم يكن يهمه ما الوقت، كان يكفيه أن يميز فترة اليوم، أهي صباح أم زوال، أهي مساء أو ليل.
برأس منحنية، متعكزا بمظلته، أخذ يتنقل ببطء وبتردد شديدين من رصيف إلى رصيف ومن زقاق إلى شارع. وعلى الرغم من إجهاده لم يفكر في العودة. سرعان ما نسي من أين أتى وهكذا قرر أن يمضي قدما وكل متر قطعه كان ينظر إلى السماء فيطمئن كون الخيمة لا زالت ترافقه في السماء التي شرعت في تغيير لونها، فالشمس قد قررت العودة لمبيتها، لكنه فضّل الاعتماد على حدسه حتى يتبين له ما النهاية لهذا السير العشوائي. غمر الغيمة الخيمة احمرار الغروب ودارت في فلك أفكاره كآبة السنين الخوالي، كانت الوحدة عنوانا لها.
بسبب الخلوة التي فرضها على نفسه والانسحاب الاجتماعي الذي نهجه تمردا على وضعه، لم يعد يفكر في رفاق ولا معارف ولا أهل ولا خلان، اعتاد على ذلك والكل على ما يبدو قد نسيه وتجاهله. وهكذا استأنف حياته الرتيبة كأنه لا يريد أن يكون جزءا منها. لقد تساوت الهموم لديه ولم يعد يعنيه متى تنجلي.
بنظرة شاردة بحث عن الخيمة فوجدها غرقت في ظلمة السماء بينما كان جالسا على مقعد إسمنتي طويل على الرصيف واضعا رأسه على يده ومرفقه على فخده، ومستندا على مظلته. نهض ونظر يمنة ويسرة، فلم يدر أيّ طريق سيسلك، كان يعلم أن بيته يوجد بآخر الشارع الرئيسي للمدينة وهو الفاصل بين جنوبها وشمالها، وأنه كان عليه من البداية التوجه عكس ما سار عليه إن كان يروم العودة للبيت.
كثيرا ما كان عندما يخرج لا يهمه متى يعود إلى البيت، ربما لأن ذاك البيت بالذات لم يعد مكانه المفضل. وإذا كان الأمر كذلك فالحل يبدو سهلا للغاية وهو أن ينتقل إلى مكان آخر يعيش فيه، لكن المشكلة ليس في سقف يؤويه وينتهي الأمر، بل مشكلته مع من سيعيش فيه، والكل قد فارقه إما برحيل أبدي أو إكراه فرضته دوامة الحياة. وهو في السادسة والستين من عمره، ضاقت نظرته إلى المستقبل ولم يعد هناك شيء يبعث على الأمل. إنه الشعور بالفراغ وفقدان المعنى الذي تعوّد أن يتعايش معه، فهيهات كيف لرجل في عقده السابع أن يتعامل مع الشعور باللاجدوى واللامغزى؟ فقد اكتسب اليأس والاستسلام، ومحاولاته اليومية في الابتعاد عن البيت وأي مكان مغلق يجد فيه نفسه وحيدا، جزء من رفضه لهذا اليأس الذي لا حل معه. فقدان الاهتمام لديه يزيد يوما بعد يوم، وضعف التركيز والحزن أعراض اكتئابه الذي أصبح مزمنا. لقد أضحى شخصا محبطا لا يرغب في أي شيء ولا يرى أي حافز في أي شيء.
نهض أخيرا وهو يمسك بيمينه قبضة المظلة التي كان يتعكز عليها، ورغم نزول قطرات خفيفة من المطر، لم يشأ أن يفتحها ويتظلل بها، استأنف طريقه إلى أن وجد نفسه يفتح باب بيته. كان الوقت متأخرا، فهرع إلى فراشه البارد بعد أن تناول بسرعة حبات من الرطب، ودون أن يفكر في شيء سحب غطاءه وأطفأ المصباح كمن كان في عجلة من أمره للعودة إلى سريره. كان يعي جيدا أنه من الصعب أن يخلد إلى النوم بسهولة رغم تعبه جراء مشيه وقتا طويلا، لذلك وضع سماعة الراديو الصغير الأنيق الأنيس الوحيد ورفيق عمره على أذنه اليسرى التي لا زالت تعمل بشكل جيد أفضل من اليمنى، وأرخى سمعه لما تبثه إذاعته المفضلة، ليعاوده الحنين للزمن الجميل، فتنهمر دموعه وبات يبكي كما بكى بالأمس وأول أمس بل كما كان يبكي كل ليلة دون أن يدري كم من الوقت كان يبكي حتى يصبح وهو لا يدري متى أخذه النوم إلى أحلام لا يذكر منها شيئا.
في الصباح وقبل أن يقوم من فراشه، سمع على الباب طرقا خفيفا مصاحبا لرنين الجرس. ارتدى الصدرية الفوقية لمنامته وتوجه ليرى من على الباب والذي أرغمه على الاستيقاظ وترك فراشه مبكرًا. لم يكن ينتظر زائرا، لكن مفاجأته كانت كبيرة عندما فتح الباب بعد تردد سببه التوجس. الشخص الذي كان واقفا ينتظر منه أن يفتح ذراعيه ويحضنه بحرارة بقي هو الآخر بلا حراك. فللمرة الأولى يتذكر فيها حلما، حلم تلك الليلة الذي رأى فيه الغيمة الخيمة وبفراسة فهم تأويلها، فقال مبتسما ودمعه يسبق كلامه: “هذه رؤياي قد جعلها ربي حقا”. بسط ذراعيه فارتمت في حضنه ابنته الوحيدة، قد عادت من المهجر بعد سنين من الغربة، لم تكن بمفردها، كان برفقتها ابنها الأنيق ذو العاشرة من عمره الحاذق الذكي المرح، وحماتها المترملة حديثا. ردت البنت: “أبي لن تبقى وحيدا بعد اليوم.”
علم بعد ذلك أنها جاءت لتستقر نهائيا وتستثمر في وطنها ما ادخرته هي وزوجها طوال سنين الغربة.
صار من حين إلى آخر يختلس فرصة ليضع سماعة مذياعه ليتذكر الماضي الجميل لكن دون ذرف دموع، وبموجب دخول زوجته الجديدة، حماة ابنته، الغرفة، يتركه جانبا، فللوسادة حديث آخر قد يكون أكثر أنسا.