القصيدة التي لا تنتهي وحرية الشاعر
نبحث عن قِطَعِنَا في الحياة وربما لا نكتمل إلاّ قليلاً. يفعل الشاعر هذا بكثافة متعكزّا على اللّغة؛ مهتديا ببصيرته الملقحّة بإحساسه؛ يذهب إلى داخله ليخرج به ويمسك الحبّات الرملية للزمن من أجل المواقيت الأخرى التي تمشي إلى ما بعد قضبان الواقع ملتمسا الواقعية. لكي يجد لا بدّ أن يرى لكي يرى لا بدّ أن يتجاوز القضبان، لكي يكون يريد يده الداخلية ويد الآخر وجهه الذي يلتقط به الإشارات صوتا وصورة ورائحة ووجه الآخر المستعدّ أن يخاطب ويرسل ويتلقى.
حريته ليست من زاد الرحلة بل من مقوماتها، عندما نتساءل عن وظيفة الشعر أو نطالب بها قد يبدو وكأنّنا نريد تكليف الشاعر فيكون أوّل ما نفعله بذلك أنّنا نتعرضّ لحريته التي رأيناها أساسية. لكن ألسنا نريده أن يكون رُؤْيويا يسبقنا إلى الماضي والمستقبل؛ يقول عنّا، يجد لنا، لنفهم وننعكس، نتبرّك بالقصائد ونعطيها بعضا من خيوط القلب لتشدّها للواقع أو تحركّه ليطير ويسبح في فضاء لونيّ جديد وفسيح؟
يشبه فكتور هيجو في قصيدته “وظيفة الشاعر” الشاعر بالرّسول، يعتبره إنسان المدن الفاضلة الذي عليه أن يوقد شعلة المستقبل غير مكترث بإهانته أو شكره ويدعو مع ذلك الشعوب لتسمع الشاعر لأنّه الحالم المقدس صاحب الجبين المضيء. هيجو يحدد شكل علاقة الشاعر مع الزمن، يرى عليه أن يستبق، كما يطالب المتلقي بأن يثق إن لم نقل يؤمن برؤية الشاعر. في الاثنين لمس للحرية ومطر أفكار كثيرة من بينها خطر المطلبين ورسم العلاقة بين الشاعر والمتلقي والعلاقة بين رهف الشاعر وفكره أو حاجته لكينونته وحاجته للآخر وحاجة الآخر له.
تكليف الشاعر بالرّؤيوية شيء فيه إجبار القصيدة على الوصول إلى هدف ممّا يحيل الشعر إلى مسار النثر الذي يبني فيه الكاتب نصا يصل إلى نهايته بينما القصيدة كون مفتوح ــ لا منته مع أنّ الرؤيوية قابلة للحدوث وعلى مستويين: الماضي والمستقبل لطبيعة الشعر نفسه.
للقصيدة القدرة على الدوران في اللانهاية ككون منفردــ منفتح، الدخول إليه لا يعني بداية لوصول ما بل انطلاقا نحو العودة. الشاعر پول فاليري شبّه الشعر بالرقص والنثر بالمشي ولم يكن السبّاق لذلك، لكنه من شهد على الحرية الشعرية بقوله إنّ غايات الشعر فيه، ليس يذهب نحو أيّ مكان وإن لاحق شيئًا ما فيكون شيئًا مثاليًا أو حالة أو لذّة أو شبح زهور، حدًّا قصويا في الحياة أو قمّة عليا في الكائن.. يجدر التأكيد على أن التملّص من قيود أخرى بالنسبة إلى القصيدة الحديثة ممكن أيضا لصالح تكوين منطق القصيدة الجديد غير المُلْزَمِ إلاّ برحلته ودورانها الذي لا يفشل. لمَ نكبحها لتُكَسِّرَ وتُرَمّم من أجل بناء إيقاع محدد إذا كانت قادرة على التوازن بحركة صورها وفكرها وجاذبيتها وتَنْجَحُ في الذّهاب دون إلحاح الوصول؟
عندما تتحمّلنا القصيدة وعمرها منفصل عن عمرنا وتقنعنا بطعم تجربتها وطعم تجربتنا فيها فنتركها وقد أمسكت بمكانٍ عندنا ووَقّعَت أثرها على أبيض وجدته واستباحته فينا لا يمكن أن ندخلها في مُحاسبات ضعيفة تتعلّق بقوانين وأصول يستعصي عليها قبول التمرد مع أنّ تعقيد الزّمن يتحدّى، يطالب بمبادرات تنسجم مع السرعة التي يرتفع بها أفق الخيال.
أظن تسيلان من شبّه القصيدة بالخطاب المحبوس في قنينة، لنتخيلها يتقاذفها الموج، القارئ يحرّرها بوصولها إليه، بينما هي حرّرت بشكل ما كاتبها إذْ وصلته بنفسه وغامرت بوصوله للآخر. الأفواه الكثيرة والأقلام والأذان وحتى الخيالات المتعددة يمكنها أن تقرأها وتتفاعل معها، تُخْرِجَ منها وتَدخل إليها وتعطيها أبعادًا إضافية أو جديدة نهلت من تجارب المتلقي أو فكره. في هذا رؤيوية بثوب آخر وحرية الشاعر معها.
القارئ والشاعر أصبحا بمسؤوليات جديدة أهمّ ما فيها أنّها فردية ومختارة ومُتحدّية. الشّعر ليس طريقا يتيما في رحلة الإنسان بمرآتيه إلى الداخل والخارج؛ هناك فنون أخرى يمكن التعريج إليها ولا إلزام في كتابة الشعر أو في قراءته لكن بقاء الشّعر ومحاولات كتابته، التي يناسب بعضها وصفها بالرداءة، دليل على الحاجة الملّحة لا الترفية إليه. يبقى فقط أنّ رحلات القصائد لا تكون كلّها ذاهبة إلى البقاء وأن الشعر الحقيقيّ فقط ينجو من قبضة الزّمن ليعيش بقوانينه. يضم قارئه الحاليّ أو المستقبليّ وشاعره إليه ويمنحهما صكّ انتماءٍ وموقعًا في حين يحتمل الحدوث وتكراره.