القنديل والطاووس
لم ير الرجال وهو يجتاز المسافة من نبع الأحلام – هكذا تراءى له المكان – الذي كان فيه إلى النقطة التي رآهم فيها كمشكاة تشع بلون فردوسي أخضر.
وجد نفسه عند باب أبيض غير ثابت بل كان يتماوج تماوج الدخان ويكاد يبدي ما وراءه، جهد ليتبين ما كتب على اللوح الصغير المعلق فوقه، وبعد لأي قرأ: “أبو العافية”.
انتظر عند الباب عسى أن يفتح أو أن يدعوه أحد إلى الدخول.. إلا أن الباب لم يفتح ولم يدعه أحد إلى الدخول.
قيل له:
– لا تسأل ولا تطلب ولا تشارك ولا توكل ولا تكفل. ثبت نظرك، فإن رأتك العينان طلبتك.
شعر أن وراء الدخان أو الباب عينان تحدقان فيه! واقشعرّ بدنه إذ أحس بيد فوق كتفه وصوت يهمس له في اللحظة التي انفتح الباب فيها وانقشع الدخان:
– تعال معي.
دخل الغرفة، لم تكن غرفة كبقية الغرف إذ لم يكن لها جدران أو سقف، حتى الباب ما كان بابا!
ومع غرابتها وعدم صدقيتها: رأى أوراقا وألواحا مدلاة معلقة دون خيوط في الفراغ.
اقترب من أحدها، أو لعل اللوح اقترب منه وأقرأه ذاته “كل ما ترى هو ما لا ترى” وسرعان ما غاب ليحل محله لوح آخر قرأ فيه “لا تبحث عن المعنى في المبنى وابحث عن المبنى في المعنى”.
صمت متذكرا أنهم قالوا له: لا تسأل ولا تطلب ولا تشارك ولا توكل ولا تكفل.
وعندما غادرت ذهنه الذكرى كانت أمامه ورقة بردي كتب عليها بخط قلفطاري _ قرأه ولا يعرف كيف فهمه وهو لم يخبره من قبل _ “المشهد هو ما وراء المشهد”.
لاح له رجل – عبر الدخان – مادا إليه يدا فيها قطعة من دخان مطوية على شكل رسالة.
أخذ الرسالة – دون أن يسأل عما فيها ودون أن يسأل الشخص عمن هو – ووضعها في جيب بنطاله الصغير الخفي.
وما أن فعل حتى وجد نفسه على باب حجري نقش عليه بالخط الديواني الجلي (موسى بن ميمون).
وقف منتظرا نادلا يضع يده على كتفه هامسا له اتبعني أو أن ينفتح الباب وحده؛ إلا أن النادل لم يظهر والباب لم يفتح!
لا يعرف كم وقف منتظرا إلا أنه قدّر أن الزمن قد طال به على هذه الحال بسبب من ألم في قدميه.. فالمكان – إن كان ثمة مكان – لا ليل فيه ولا نهار أضواء وأضواء يغلب عليها اللون الأخضر.
تراجع إلى الخلف مرعوبا وكاد يقع إذ قاربت وجهه فجأة يد ممدودة خرجت من الباب الحجري مفتوحة الكف بانتظار أن يملأها شيء ما.
حار ماذا يفعل، والكف أخذت تتراجع ببطء إلى داخل الباب.
حار ماذا يفعل.. جيب بنطاله فجأة انتفخت.. تنبه إلى الرسالة/الدخان.
أخرجها من جيبه إلا أنها تسربت من يده واستقرت في يد الباب.
عادت اليد إلى الداخل، وانفتح الباب، ومد أمامه جسر خشبي تحته نهر جار.
هدير النهر واهتزاز الجسر والضوء الأخضر الخافت، جعل حركته بطيئة، وفرض عليه ألا ينظر إلى أمام.
مد قدمه اليمنى في نهاية الجسر إلى الأرض، فأحس بلدانتها فكاد يتراجع؛ إلا أنه تشجع ووضع القدم الثانية تاركا يده من فوق طرف الجسر فتحركت الأرض تحرك بساط ينسحب تحته، ثبت قدميه ورفع رأسه ناظرا أمامه.
كان هنالك امتداد وعمق يحجبان ما وراءهما وكأن ما أمامه بئر مستقيمة، ولكنه بعد مسير طال زمنه؛ لمح خيال رجل يقعد إلى منضدة كتابة تحت ضوء مصباح خافت يذكر بمصباح علاء الدين، بل إن البئر المستقيمة ذكرته فجأة بـ”سيمسيم” علي بابا.
وردد في دخيلته: عَلِّي أجد كنزا في هذه البئر؟ وحاول جاهدا أن يكون حواره الذاتي أقرب إلى المنى منه إلى السؤال لأنه كان يخشى السؤال حتى في أعماق نفسه.
وقف على بعد مترين من الرجل الذي كانت هيئته أقرب إلى التمثال منها إلى الكائن الحي.
كان يعتمر قلنسوة تحتها شعر طويل مجدول ولحية كثة وطويلة وكان ذلك، مع خفوت ضوء المصباح يضفي عليه رهبة ووقارا.
ظل واقفا والرجل صامت بل جامد، فترة كافية ليدخل فيها الملل إلى روحه، وقبل أن يفتح فمه بسؤال كان سيخرج من بين شفتيه؛ ارتفع ضوء المصباح مشعا وكأن ماردا خرج منه وملأ المكان صوته مجلجلا:
– ارم ما في يدك! جمد في مكانه فهو يعلم تماما أن يديه خاليتان وأنه كان يمسك بهما طرفي الجسر، إلا أنه إذ نظر إلى يده اليمنى: وجد فيها عصا مشعوبة، فألقاها لا امتثالا للأمر وإنما رعبا منها.
تحرك التمثال أو الرجل أو الرجل التمثال والأمر سواء لأن ذلك القابع أمامه كان ثابتا صامتا حتى تلك اللحظة.
ولكنه بتحركه ومع نور المصباح واقترابه منه، وجد فيه شيخا جليلا عليه سيماء الحكمة والوقار وكان في شعره الأبيض ولحيته البيضاء ما يزيد من هيبته ووقاره.
اقترب منه حتى كاد يلامسه وحدق فيه فارتجف من الداخل إذ كانت هاتان العينان هما نفسهما العينين ذواتي الجريدة وهما ذاتهما عيني غرفة الدخان.
السلب – السلب المبرهن عليه.
– السلب يوجب: قال الرجل الوقور.. وتذكر أنه في حضرة موسى بن ميمون.
وتابع قائلا: فإنه كلما تبين لك بالبرهان سلب شيء مظنون – له تعالى – كنت قد قربت منه درجة.
كل نسبة: تكون بين شيئين من نوع واحد
لا توحيد إلا برفع الجسمانية
الأبله يعتقد كل شيء.
لم يسمع شيئا وغبشت عيناه على شفتين تتحركان..
شعر أنه يتمايل في زورق صغير أو أنه يطفو فوق الماء.. استلذ ذلك الشعور وأرخى جسمه وسلمه للماء يأخذه حيث يشاء.
إلا أنه فتح عينيه وتدارك هيئته السابحة ووقف على قدميه إذ أحس أنه ارتطم بجسم صلب.
لقد كانت ضفة نهر وكان عليها فتيات يمددن له أياديهن في محاولة لإخراجه، وإذ مد يده اليمنى ليخرج خرج من كفه حجر صغير وكأنه طار بجناحي فراشة ليستقر في يد إحداهن فركضت في بستان نحو لفيف من النساء بينهن رجل يتكئ على أريكة.
أعطت المرأة الحجر للرجل، وإذ نظر فيه أشار إليها بحركة، رجعت إثرها إليه وأخرجته بمساعدة الأخريات من النهر.
وقف ليجفف ملابسه من الماء فلحظ أنه دون ملابس وما كان يستره سوى لفيف طحالب خمّن أنه التف حوله وهو مسجّى فوق الماء.
وقف على حالته تلك إلى أن يأذن له الرجل بالاقتراب.
طال وقوفه، وكانت الطحالب قد جفت وكادت تسقط كاشفة سوأته.
إلا أنه شذبها وشد إصرها جاعلا منها سترا له.
أتته إحداهن تمشي على استحياء قالت:
– أُذِن لك فتفضل.
مشى خلفها إلا أنه كلما مشى بعد عنه الرجل؛ رغم أنه قاعد ومتكئ!
لفت نظره جزع شجرة محفور عليه: تغرق في بحرها إن حييت؛ وتطفو إن مت فوقه.
وتحتها جملة أيضا محفورة ولكن بقلم مختلف: انظر إلى الماء إنه يعلو وينخفض فلو أنه سكن لأسن.
مشى إلى أمام فكاد يرتطم بلوح زجاج معشق مرسوم فوقه ميزان غير معدول، إلا أنه إذ دقق النظر رأى كفتيه في حركة دائمة بين علو وخفض.
التفت ليتابع مسيره خلف الفتاة؛ فما رآها أمامه، حسب أنها تركته أو أنه ضل طريقه.
إلا أنه تابع في الاتجاه ذاته الذي لايزال يرى في نهايته ذاك الرجل القاعد المتوكئ.
وبينما كان يمشي ونظره إلى الرجل، ارتطمت قدمه بجسم صلب وسقط جاثيا على ركبتيه مستندا إلى يديه.
حاول النهوض إلا أن الجسم الصلب منعه وكأنما يداه من حديد قد شدتا إلى مغناطيس.
حاول ثانية وهو ينظر إلى موقع يديه؛ فشاهد بينهما أرقاما متتالية:
١١-٢٢-٣٣-٤٤-٥٥-٦٦-٧٧-٨٨-٩٩/الله.
عندها وجد نفسه بين يدي الرجل وكان يمد له يدا فيها قدح وكانت البنات كل واحدة على آلتها الموسيقية تغني شعرا منغما، حدس أنه للرجل ذاته صاحب القدح.
لا أنا عالم ولا أنت.. سر الدهر
أو حل مشكل منه دقا
فما كان منه إلا أن قال: الله، وشرب القدح.
وفور بلوغه ثمالته زاغت عيناه وانقلب على قفاه وأصابه دوار وغاب عن الوعي.
لم يدر كم بقي في غيبوبته تلك، إلا أنه وجد نفسه إذ عاد إليه رشده، في غرفة من زجاج، وفي يده لايزال ذاك القدح من الزجاج.
شعر أن قوة ترفعه عن الأرض بل كان يطير في فضاء الغرفة، لم تكن غرفة بل هي إلى حوض السمك أقرب إذ كانت مكعبة الشكل مديدة الارتفاع وسقفها الذي ارتطمت يده – التي تحمل القدح – به كان من الزجاج المصقول والمقوى.
سمع صوتا.. صوت تكسّر زجاج، إلا أنه لم يكن تكسرا فيما هو فيه، وانما فيما يحيط به.
التفت إلى جهة الصوت، فلمح عينين تحدقان فيه، إنهما العينان ذاتهما.
اخترق القدح السقف دون أن يحدث خرقا فسقط ياسين إلى القاع إلا أنه لم يتأذ إذ سقط واقفا مفرود اليدين على جانبي جسمه وقدماه متصالبتان.
التفت ليرى العينين فرأى مكانهما لافتة من زجاج معشق مخطوط عليها: الزجاج يظهر ولا يوصل حتى إن كان ملونا.. وتحتها مباشرة وبخط مختلف لا تبغض فالبغضاء توحد المبغوضين.. جماع الأحوال مقام.
كان لا يزال مأخوذا من السقوط بهذه الطريقة عندما شعر أن في يده قطعة من قماش وفي اللحظة التي أراد تبيّنها ظهرت أمامه لوحة مشعة تبين ما فيها من كتابة رغم بهرها نظره:
– ليس الانعكاس هو الشعاع وليس الصدى هو الصوت: هو ليس هو.
وما أن أتم قراءتها حتى وجد نفسه تحت شعاع شمس في كبد السماء ذي لون أخضر وفوق رمال داكنة تغب ذلك الضوء.
أراد المسير إلى أمام فما ساعدته قدماه، وعندما حاول رفع قدمه بالقوة تبين له أنه مشدود إلى الأرض بقيد مربوط إلى كرة من حديد.
تفصد جبينه عرقا، لم يعرف أمن أشعة الشمس هو أم من الخوف؛ تذكر أن في يده قطعة من قماش فرفعها ليمسح بها عرقه، وما أن قربها إلى جبينه – حيث عين البصيرة – حتى انفلتت من يده وطارت فوق رأسه وانفردت فصارت مظلة كبيرة وتدلت حبالها وانتشلته من القيد وحلقت به في الفضاء فوق الفيافي الواسعة وحطت به عند مدخل كهف على قمة جبل.
شعر أنه يعرف هذا الكهف، بل هو يعرفه فعلا – هذا إن لم يكن يحلم – لقد أتي به إلى هنا وكان صغيرا ووضع بين يدي شيخ جليل ذي لحية بيضاء طويلة، نعم إنه يتذكر الآن بشكل أوضح: لقد تلا الشيخ كلاما وهمهم ثم تفل في فمه وضربه بالأرض ثم شاله وأعاده إلى.. إلى.. يا الله لقد كان أبوه وأمه حاضرين!
شعر أنه وقف طويلا على مدخل الكهف، فمشى خطوات ليدخله إلا أن عقدة أفاعٍ تحركت أمامه وراحت تفح وتتحرك متداخلة وعندما أراد أن يتراجع إلى الخلف، ظهر غلام وناداه: ادخل فلقد أذن لك.
أمسك الغلام يده اليسرى بيده اليمنى واتجه إلى مدخل الكهف، وبعد اجتيازهما مسافة قصيرة بعد المدخل حملهما تيار هواء صاعد، عبر فتحة في أعلى الكهف وحط بهما في قاعة فسيحة تفوح منها رائحة البخور
وتصدر عنها أصوات تهليل باسم الله مرفقة بضرب دفوف وطبول.
(اثبت في مقامك حتى لا تحول مع الحال وحتى تعرف غاية المقال من حوار الطبل مع عصا الطبال) ضجت هذه الكلمات في رأسه بل عصفت فيه وبه لقد سمعها من قبل فلقد كانت هي هي ما همهم به الشيخ في أذنه بعد تفله في فمه وقبل أن يضرب به الأرض.
خرج من خرج ذاكرته خروج الأفعى من جلدها وشعر أنه خفيف وعار إلا من تلك الطحالب.
نظر إلى يساره فما رأى الغلام المريد واستعمق في غيابات الكهف فما رأى الشيخ ولا رأى الحضرة.. بضع صفحات من كتاب قديم أصفر تتطاير في فراغ أمام عينيه.
رع وتب
تصلح الآخرة الأولى
الشيخ من يمحو اسم مريده من ديوان الأشقياء
الصالحون في المؤمنين قليل والصادقون في الصالحين قليل والصابرون في الصادقين قليل
ابق على الصراط بين جداري الأمل والعمل.
ثم سمع صوتا – كان سمعه منذ سنين – ألم تكفك الزيارة الأولى؟
التفت إلى جهة الصوت فوجد نفسه على قارعة طريق يجدى ولم يستجد ويعطى ولم يستعط.
كانت الطريق أقرب إلى درب زراعية منها إلى طريق مطروقة، إلا أنها لم تخل من مارة رائحين أو غادين.
نظر إلى أسفل جسمه حيث الطحالب اليابسة فرأى أنه يلبس بدلا منها ثوبا بنيا غامق اللون وشعر من ملمسه أنه من وبر الماعز.. ورأى في حضنه -إذ كان يقعد متربعا – طاسا نحاسية، فيها ثمرتا مانجو.
شعر أنه في إرم إلا أنه لم يحدد في أي إرم منها هو.
وبينما هو غارق في تأمله حاله، شعر بنسمة هواء أتت عن يساره، التفت فرأى طاووسا قد فرد ريشه فأحدث تلك النسمة، اقترب الطاووس منه وحدق في عينيه، ارتجف ياسين وكاد ينقلب على ظهره: للطاووس عينا بشر!
بل كانت له العينان – تينك – ذاتهما.
قام وركب على ظهر الطاووس كما أمره، فطار به محلقا في أجواز الفضاء، لم يتبين جهات أو معالم تحته أو فوقه فلقد كان ما يحيط به من فراغ كعباءة خضراء تكنه في رحمها.
لكنه إذ ثبت نظره في ريش الطاووس رأى أن كل ريشة منها عبارة عن عين، وأن كل عين؛ فيها عبارة مكتوبة، وعندما حاول تبين العبارات ما استطاع بسبب تمازج لون الفضاء الأخضر مع ريش الطاووس الأخضر.
إلا أن الطاووس زعق زعقة كادت أن تشق الفضاء نصفين، ولاح إثرها بصيص ضوء أبيض صدر من عرف الطاووس وسقط فوق ما علا ظهره من ريش، فتبين ياسين ما كتب في كل عين:
السوى نوى
الكمال ترك الأغيار
اخرج من ذاتك إلى ذاتك واختن قلف شهواتك
كاد يسأل الطاووس أين هو؟، إلا أنه صمت عن السؤال إذ قرأ الجواب فوق عرف الطاووس:
سألوني فقلت: لا لا فقالوا:
أن يكن لالا، فأين السبيل
ثم قالوا: إلام نبقى عطاشا
قلت: هلوا فحوضنا سلسبيل
انتفض الطاووس، وانقض وارتفع ومال يمينا وشمالا، فما تمالك ياسين نفسه، فسقط من عل وارتطم بجسم شعر – قبل أن يغيب عن الوعي – أنه حوض ماء.
في آخر الدهليز رأيت نفسي، ورأيت أنني أحمل القنديل وأسير في ضوئه ظلا يتطاول، وعيني على الطاووس.