الكائن واللسان.. الإنسان الهامشي وانفصام اللغة
لذلك ظهرت الكتابة متأخرة مع انتهاء التحول النيوليتي في الألفية الثالثة قبل الميلاد، فقد اخترع السومريون الحرف المسماري للتعبير عن مظاهر الحياة السائدة آنذاك. إن الكتابة دائما ما تقرن بالمدينة والتحضر الذي يستوجب التعامل مع الآخر اقتصاديا، وهذا ما يفسر ظهور الكتابة في الشرق الأوسط مبكرا. فقد كان الشرق الأوسط مهدا لظهور أول المدن، فأقدم مدينة هناك ترجع إلى تسعة آلاف سنة قبل الميلاد فلا مشاحّة في ظهور الكتابة هناك أولا.
وهكذا انتشرت الكتابة في العالم عبر الآلاف من السنين واختلفت الحروف واللغات رغم اعتقاد علماء الإناسة بوجود لغة أصلية وحيدة ولدت كافة اللغات الأخرى. ولكن الشيء الأكيد أن الإنسان القديم حاول ترجمة لهجته وكلماته البدائية من خلال الرموز لتتطور لاحقا وتصبح حروفا تعبر عن المعاني اليومية بشكل واف وبدقة.
فاللغة المكتوبة مرتبطة باللغة التي يتكلم بها الإنسان في الأساس وليس العكس. أي بقول آخر اللغة الأولية أو الدارجة السائدة في كل عصر كانت هي الممول الرئيسي لكل كتابة ظهرت على سطح هذا الكوكب.
لو تتبعنا مسار اللغة العربية بالتحديد فسنكتشف أنها لغة ككل اللغات الأخرى، انطلقت من اللهجة المحلية لسكان الجزيرة العربية مع أنها لم تكن تكتب بهذا الشكل ولم تكن لها حروف مبتكرة خاصة بها. فقد استمدت اللغة العربية حروفها من الحرف النبطي أو بالتحديد من الحرف السرياني ثم أضيفت له في ما بعد النقاط مع بعض التعديلات الطفيفة في الحروف.
يبقى الإقصاء هو الحل الذي تتبناه المجتمعات الضعيفة التي لا تعرف كيف تكيف بين ثقافاتها وأفرادها، فمن دون مدارس ومؤسسات تربوية قوية لا يمكن أن نكوّن مرحلة انتقالية ولا أن نصنع تعايشا بين الأفراد
وبعد ظهور القرآن بدأ القاموس اللغوي يتشكل وتحددت ملامح اللغة العربية فأصبحنا نفرق بين الدارجة واللغة الرسمية التي تتعامل بها الدولة. وتبقى اللغة الرسمية دائما وليدة رحم الدارجة وليس العكس. ومع تقديس الإنسان للقرآن وكتب الحديث عبر العصور بدأت اللغة العربية تتحجر في دلالاتها القديمة والمقدسة والتي يجب عدم تحريف معناها لأن ذلك بدوره تحريف للمقدس واستعمال بعض كلماتها في سياق آخر سيُعدّ استهانة بالمقدس كذلك.
فمشكلة العربية ككتابة ولغة رسمية من أول ظهور لها أنها اقترنت بالمقدس وأي مساس بها يعد مساسا بالمقدس نفسه. وهي ما زالت حبيسة القرون الأولى بعد ظهور الإسلام. فمحاولة تأويل مخالف لكلمة ما أتت في القرآن أو الحديث قد تجر صاحبها إلى المحاكمة والقتل.
وهكذا يجد الإنسان العربي أو الشعوب الناطقة بالعربية نفسها أمام خيارين؛ أولهما الرضوخ للمقدس واستعمال اللغة العربية في المجال الديني فقط، واستعمال لغة أجنبية أو لغة أخرى تصلح لممارسات الحياة وهذا سيعجل باندثار اللغة العربية لا محالة -مثلما حدث للغة السريانية- لأنها لا تعبر عن الواقع المعيش.
أما الخيار الثاني فهو تحرير اللغة العربية من المقدس وخلق بنك لغوي يتوافق مع التطورات الحاصلة في كل العلوم والمجالات وتعد الترجمة من بين الحلول الناجعة في هذا المجال فمشكلة المصطلحات أصبحت عائقا يؤرق الباحثين والكتاب في شتى العلوم والفنون. أما بالنسبة لتشكيل الحروف والنقاط فهي تجعل من تعلم اللغة العربية أمرا صعبا على الأجانب عكس اللغات الأوروبية التي يسهل تعلمها بسرعة.
اللغة دائما مقرونة بتاريخ الشعب، وثقافته زاد أساسي لها، ولا يمكن تجاهل بعض المظاهر التي يواجهها الناطقون باللغة العربية من سكان شمال أفريقيا تحديدا فالعامل التاريخي له دور بارز في تشكيل الخارطة اللغوية، علما أن هناك أكثر من لغة محلية يتجاوز عمرها ظهور اللغة العربية بألف سنة على الأقل.
دون أن ننسى تأثير الحملات الإسبانية والفرنسية على المنطقة لغويا فهناك تنوع ثقافي ولغوي ثري جدا ظاهريا في حين أن التكيف أمر صعب ويمكن أن يفشل في الدول التي لا تملك مؤسسات قوية كدول شمال أفريقيا.
فالمؤسسات الحكومية والرسمية تتبنى اللغة الفرنسية كلغة تبادل تجاري واقتصادي وسياسي وحتى ثقافي في حين أن اللغة العربية اقتصرت على المساجد والمدارس في مراحلها الأولى فقط. في حين أن أغلب الجامعات تدرس باللغة الفرنسية.
وهكذا أصبحت اللغة الفرنسية لغة نخبوية حضارية تستجيب لمظاهر الحياة في حين اقتصرت اللغة العربية على الخطاب الديني العنيف فقط مع بعض المحاولات الجادة التي يقدمها المفكرون والكتاب من خلال مؤلفاتهم وإسهاماتهم بهذه اللغة.
أما اللغات المحلية الأخرى فهي لغات هامشية رغم أهميتها التاريخية والاجتماعية، وتبقى حبيسة الدوغمائية التي تفرضها الأغلبية بحكم الشرعية الدينية والتاريخية. هناك شرخ واضح بين الناطقين بهذه اللغات وهذا ليس عيبا في اللغة التي هي أداة فقط في يد الإنسان. وإنما راجع إلى انفصام تاريخي وثقافي يعود تاريخه إلى بداية الفتوحات الإسلامية في المنطقة.
فالتكيف يتطلب ذاكرة مشتركة وينبغي أيضا على الأشخاص التحرر من التماثل الثقافي للمجموعة الإثنية التي ينتمون إليها، وفي علم الاجتماع يتطلب التكيف أن يتعلم المهاجر لغة البلد الذي يستقبله -لا أن يطمسه ويدعوه بربريا، وذكر كلمة بربر في قاموسهم بمعنى همجي- وكذلك السمات الكبرى لتاريخ هذا البلد ومثله وقيمه -هذا ما تجاهله الاحتلال الفرنسي يولد الكره في هذا الشعب- وسيتم هذا التعلم بشكل بديهي بواسطة المدرسة العامة، بيد أنه يفترض مسبقا مرحلة انتقالية يقوم مجتمع المهاجرين خلالها بالحفاظ على هويته وتقويتها بغية ربط هويته القديمة والجديدة.
لقد أثرت الكراهية للأسف على هذه الشعوب وجعلتها هذه الفروقات الثقافية وخاصة اللغوية -لأنها تعبر بشكل جيد عن الحالة الثقافية للشخص- تنفصل معنويا عن الآخر بل وتطالب بإقصائه، دون أن نهمل الجانب الاقتصادي الذي هو أصل العداء القبلي أو العرقي إن صح القول. رغم أني لا أجد كلمة عرق مناسبة ولكنها تفي بالغرض هنا لأننا نتحدث عن حالة اجتماعية فقط. فمثلا نجد الطبقة الميسورة والحاكمة تستعمل اللغة الفرنسية في كل تعاملاتها حتى في الحياة الخاصة وهذا لا يدل على أن لها ثقافة غربية بل هناك من هو رجعي أكثر من المعربين أنفسهم.
أما البروليتاريا فتستعمل اللغة المحلية أو الدارجة كما يحلو للبعض تسميتها وفي الرسميات يمكن للعربية فقط أن تكون ندا ضعيفا للغة النخبة والتي لا يمكنها أن تصمد في التعاملات الاقتصادية والسياسية لأن سكان شمال أفريقيا لا يمكنهم التكلم بالعربية الفصحى في شوارعهم لأسباب تاريخية واجتماعية ونفسية أيضا.
وحيث تتجابه ثقافتان أو أكثر تظهر شخصية من نوع جديد تتجلى صورتها في الرجل الهامشي. هذا الرجل يمكن أن يكون عدائيا أو مسالما فهو رجل هجين ثقافيا، يتقاسم على نحو حميمي أو غير حميمي ثقافتين متمايزتين أو أكثر بحكم المنطقة وتاريخها الثقافي، وقد يكون مقبولا بشكل كامل من فئة معينة ولا يكون مقبولا ومهمشا من فئة أخرى كالأمازيغية التي عانت من التهميش ولا يزال المعرب يحاول فرض سيطرته عليها بفرض الحرف العربي على هذه اللغة، وقد يكون مهمشا من كلا الطرفين.
يبقى الإقصاء هو الحل الذي تتبناه المجتمعات الضعيفة التي لا تعرف كيف تكيف بين ثقافاتها وأفرادها، فمن دون مدارس ومؤسسات تربوية قوية لا يمكن أن نكوّن مرحلة انتقالية ولا أن نصنع تعايشا بين الأفراد بل حتى أننا سنفشل في المحافظة على إرثنا اللغوي والثقافي. فمن دون مؤسسات قوية لن نستطيع تكوين حس مدني ولا وعي حضاري وستكون اللغة إحدى ضحايا هذه المأساة الاجتماعية.