الكتابة تحت مقصلة الخوف
“شيرمي فتاة رقيقة في عمر الزهور، تعيش بالقرب من وادي المشاعر الضائعة، حيث يقال إن كل شعور يفقده الإنسان يذهب إلى هذا الوادي، ويتحول إلى حورية. ذات يوم رأت صديقها يمسك بيد فتاة غيرها، حزنت شيرمي وعادت إلى بيتها محطمة القلب، وهناك صرخت غاضبة: أنا لن أحب مرة أخرى لئلا يتحطم قلبي من جديد.
في تلك اللحظة، ولدت الحورية كيلي، وكانت رقيقة ولطيفة لأنها أخذت المشاعر التي فقدتها شيرمي.. تمر الأيام لتدرك شيرمي أنها لم تعد كما كانت فتاة رقيقة عطوفا، فتجزع من نفسها، وتذهب إلى وادي المشاعر الضائعة كي تستعيد شعورها المفقود، وكان هناك شرط واحد لذلك، هو أن تموت الحورية كيلي. كانت شيرمي قد لمست عواطف كيلي الرقيقة، فقالت في نفسها، لن أكون سببا في موت كيلي، لكن كيلي أحست باحتياج شيرمي إلى مشاعر الحب التي فقدتها في لحظة غضب، كيلي أعادت الحب لشيرمي وماتت، فحزنت شيرمي وبكت، لكن الدموع أعادت كيلي إلى الحياة، لأنها دموع الحب”.
هذه واحدة من قصص الأطفال الإسبانية، كانت ابنتي ترجمتها لمجلة أطفال. رفضت المجلة نشرها، لأنها قصة تحكي عن علاقة حب بين ولد وبنت.
المغزى من الحكاية كلها، أن خوفنا على أطفالنا من التعرف على تجارب الحياة الإنسانية، ينتقل إليهم ويعطل نموهم الوجداني، فيظلون أطفالا عاجزين، مهما كبرت أعمارهم أو نمت عقولهم.
الخوف يشل قدرات الإنسان ويقلص من الطاقة الحيوية لديه، ليس في سلوكياته فقط، بل في معتقداته وآرائه وكيفية تلقيه للمعرفة والجمال، فإن كنا نريد لأطفالنا وجدانات ثرية وعقول خصبة، فعلى الكبار أن يحرروا أنفسهم من الخوف أولا. فالخوف يحول بيننا وبين أطفالنا، فلا نراهم كما هم، ولكن كما نريدهم نحن. ونتيجة ذلك، أن نفقد الثقة فيهم، ومع الوقت يفقد أطفالنا الثقة في أنفسهم.
هذه ملاحظتي بوصفي كاتبا وناقدا معنيا بأدب الأطفال في ثقافتنا العربية، أن كتاب الأطفال يكتبون عادة وهم تحت مقصلة الخوف. لم لا؟ ونحن نكتب للكبار أيضا تحت مقصلة الخوف، والخائفون لديهم مبررات لا تنتهي لخوفهم.
إن كاتب الأطفال الذي لا يشعر بالثقة في قرائه، يبالغ في تخليص الحكايات مما يظن أنه لا يليق بالطفل، فينتهي إلى نص بليد، ساذج، أقل من قدرة الأطفال على الاستيعاب والدهشة. هذه الظاهرة تنسحب على مختلف الفنون والآداب التي تُقدَم للطفل. فهي ليست نتيحة لغياب المهارة الفنية أو القدرة الإبداعية عند المهتمين بثقافة الطفل، بل نتيجة للحرص على استهداف المعاني والقيم التي نظن أطفالنا في حاجة إليها، وفي سبيل ذلك مستعدين أن نضحي بالرسائل الجمالية التي هي معنى الفن والأدب. وهي التي تعمل على الوجدان والمشاعر، إذ تتسرب إليهما بنعومة، وتعيد إنتاج نفسها، على نحو ذاتي. أي على نحو يخص كل طفل كذات مستقلة، تشعر بتميزها وتفردها. ولو غاب هذا الشعور بالتفرد، فإننا نكون قد أنتجنا (روبوتات) صغيرة، تكرر نفسها وتفقد قدراتها الإبداعية على مواجهة معضلات الحياة.
من الحيل التي يلجأ إليها بعض الكتاب في تفادي المعاني المقلقة، والتابوهات المحظورة: الترميز والتجريد. بينما لا ننتبه إلى أن اللغة الأولى عند الطفل، هي لغة التجسيد، إنه يفهم الأشياء عبر حواسه، لأن قشرته المخية غير مؤهلة بعد لفهم الأفكار المجردة، كما كان الوعي الإنساني في طفولته البدائية يتعامل مع الأفكار الكلية والمجردة عبر تجسيدها، وهو ما يعرف بالفكر الأسطوري، الذي عمل على تجسيد الخوارق والغيبيات والآلهة، فحتى قبيل الأديان السماوية، لم يكن البشر يعرفون الدين بهذا المعنى الرمزي المجرد الذي نعرفه نحن.
كاتب الأطفال الذي لا يشعر بالثقة في قرائه، يبالغ في تخليص الحكايات مما يظن أنه لا يليق بالطفل، فينتهي إلى نص بليد، ساذج، أقل من قدرة الأطفال على الاستيعاب والدهشة. هذه الظاهرة تنسحب على مختلف الفنون والآداب التي تُقدَم للطفل. فهي ليست نتيحة لغياب المهارة الفنية أو القدرة الإبداعية عند المهتمين بثقافة الطفل، بل نتيجة للحرص على استهداف المعاني والقيم التي نظن أطفالنا في حاجة إليها، وفي سبيل ذلك مستعدين أن نضحي بالرسائل الجمالية التي هي معنى الفن والأدب
في هذا السياق، يحكى أن طفلا، علمته أمه أن يعطف على كبار السن، ويحسن إلى الفقراء، وكلما سألها، ولماذا نفعل ذلك؟ تقول له: نفعل ذلك من أجل الله، أو نفعل ذلك لكي يحبنا الله. وذات يوم رأى امرأة عجوزا تجلس على جانب من الطريق، فعاد إلى البيت، وجاء بطعام وماء إلى العجوز، لكنها رفضت أن تأكل إلا إذا شاركها الطعام، وأثناء ذلك كانت تحكي له حكايات لطيفة ليأكل بشهية أكبر. عاد الطفل إلى بيته سعيدا. ولما نادته أمه ليتناول غداءه، قال لها: شكرا يا أمي، فقد تناولت غدائي مع الله.
المعنى من الحكاية، أن الطفل غير قادر على فهم المعاني المجردة إلا عبر تجسيدها في صور وأشكال. لهذا فهو ينجذب إلى الصور والمجسمات والألعاب أكثر من انجذابه إلى اللغة، فاللغة بطبيعتها رمزية. لهذا، فعلى كاتب الأطفال، أن يستخدم لغة قادرة على مخاطبة الخيال، تنزع إلى تنشيط التفكير بالتصورات التي ينتجها بنفسه، ثم يعدلها كلما يشعر أنه في حاجة إلى ذلك، وهذه الطريقة في فهم المعاني وتعديلها باستمرار، هي محفزات لتنمية الوعي الإبداعي.
المشكلة أننا لا نريد لأبنائنا أن ينطلق خيالهم في ما لا نعرفه وألا يتعلموا طرقا أخرى في فهم الحياة والتعبير عن أنفسهم بغير تلك التي نعرفها نحن. نفعل هذا من باب الخوف عليهم، وننسى أن ما وصلنا إليه الآن من وعي وفهم للمعاني والأشياء، جاء عبر رحلة طويلة، فيما لم يقطعوا منها بضع خطوات. وبهذا نعمل على قولبتهم، والسيطرة عليهم، بمعارف سابقة التجهيز، تخصنا أكثر مما تخصهم. فيتحول الفن عن مهمته الأساسية، وهي تحرير الطاقات الروحية والذهنية، إلى نوع من السيطرة وخنق القدرات والحد من الخيال، ليس هذا فقط، إن مجتمعنا بأسره، يشجع أبناءنا على دفن أثمن ما في أنفسهم، دفن تلقائيتهم، تقليص فورة الحياة لديهم وردم شغفهم الحر في الاكتشاف والمعرفة.
عندما يحدث هذا، تخرج على السطح النفس المزيفة للطفل، التي استبدلها بنفسه الأصلية المليئة بالطاقة والجرأة والشجاعة والخيال الإبداعي الجامح، والتي إن احتفظ بها سوف يكون ملوما، منبوذا، مغضوبا عليه باستمرار، ولكي ينجو من هذا يستخرج نفسا مزيفة، تقطن تلك الأقفاص التي صنعها الكبار، فيصبح الطفل غير قادر على التفكير إلا داخلها، هذا النوع من التدجين الذي يقوض أجنحته ويحرمه من الخيال والإبداع.
يقول الدكتور محمد طه استشاري الطب النفسي في كتابه (الخروج عن النص) عن تلك الآليات التي يتعامل بها الأهل مع أبنائهم “فنون من الزيف، طبقات من التشويه، مستويات من الدفن وأبعاد من الإجرام في حق النفس″.
مهم أن نؤمن، أن الطفل يحمل في داخله إمكانيات هائلة للمستقبل، ويمكننا تحقيقها معه بشروط رؤيته هو، بتأكيد قدراته والعمل على إزالة الخوف من نفسه، ولكن كيف نفعل هذا؟
يوقفنا علم النفس على أننا لا نستطيع التواصل مع أطفالنا بشكل حقيقي، سواء من خلال التربية أو الثقافة والفن إلا باستحضار الطفل الداخلي وهو الطفل الذي يسكن في نفوسنا جميعا. يرى إيريك بيرن (صاحب نظرية تحليل المعاملات) أنه تسكن بداخلنا ثلاث ذوات وهي: ذات الطفل وذات الوالد وذات الراشد، فذات الطفل هي التي نستطيع أن نرى بها كل جديد ومدهش. وكل من يعمى عن هذه الذات، لا يرى الطفولة في معناها الحقيقي.
فمثلا: إذا خاطبنا أطفالنا بالذات الوالدية التي تسكننا فقط، يكون خطابنا مجموعة من التحذيرات والنواهي التي تملأ نفوسهم بالذنب، فيفقدون بهجة الحياة. أما إذا خاطبناهم بالذات الراشدة، نشعرهم بالعجز، ويفقدون الثقة في أنفسهم. فكاتب الأطفال الذي لا يطلق طفله الداخلي ليخاطب به الأطفال جميعا، سوف يكون نصه عقيما، ساذجا، غير متناسب مع إمكانيات الطفل العقلية والتخييلية، غير مجد في تنمية قدراته الإبداعية وإثراء وجدانه، بل قد يكون مضللا ومعطلا لنمو وعيه.
لكن استحضار الكاتب للذات الطفلية التي بداخله، ليس سهلا على الإطلاق، فهو يحتاج إلى درجة كبيرة من البصيرة ليراها، وفصلها عن بقية ذواته الأخرى.
يرى العالم النفسي توماس هاريس أن هناك حالة تُسمى بتلوث الأنا وهي تداخل الذات الطفلية مع الذات الوالدية، فنرى شخصا يتصرف بشكل طفولي، لكنه يستخدم لغة الذات الوالدية أو العكس. وبالنسبة لكاتب أدب الطفل المصاب بتلوث الذات، فهو ينتهي إلى نتيجة مغايرة لما يقصده، لأن لغة الرسالة التي يرغب في توصيلها للطفل، مختلفة عن معناها. كأن يبالغ في التبسيط حد الخلل والتسطيح عندما يتصور أن ما يقوله عميق ومهم، بدعوى أنه يكتب من خلال الطفل الذي بداخله. في واقع الأمر، الطفل لا يحتاج التبسيط والتسطيح كي يفهم شيئا، فقط هو يحتاج لغة خاصة، تنبع من البدائي الذي بداخلنا، أعني لغة مفعمة بالحسية والصور الخيالية.
يرى كارل جوستاف يونج أن ارتباط الشخصية بالطفل الذي بداخلها هو الذي يوحد المتناقضات داخل نفوسنا، وهو مصدر لشفاء الروح، ويستشهد في ذلك بقول السيد المسيح “إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السماوات”.
إذا امتلأنا بهذه الثقة تجاه أنفسنا وتجاه أطفالنا، فلن نضيع فرصة أبدا في تعليمهم أشياء مفيدة وممتعة في آن، لأن ذائقة الطفل تنبني في فترة مبكرة جدا من وجوده، لقد أثبتت الأبحاث العلمية أن التركيب العصبي والمزاج النفسي للطفل يتأثران جدا بالحالة الفنية والجمالية التي تعيشها الأم أثناء حملها به.
كما علينا أن نصدق أن حواديت الجدات التي تبدو بسيطة، تحمل حكمة التاريخ في صيغته الطبيعية القابلة للحياة. ونعرف أن الكثير من كبار المبدعين، يحدثوننا عن أثر حكايات الجدات (الحواديت) في تشكيل وعيهم الجمالي، أكثر من النصائح التعليمية الحاسمة التي لا تستطيع المرور إلى طبقات النفس الخفية أو ما يُسمى باللاشعور، الذي يتحكم بعد ذلك في كل طرائقنا في الحياة، بل إن الخرافات التي امتلأت بها تلك الحواديت، والتي يستهجنها العقل الآن كانت بمثابة النماذج البدئية التي أشار إليها يونج في كتابه (النماذج البدئية واللاوعي الجمعي) تلك النماذج التي تشكل الجذر الحقيقي للبشرية، والتي دون الالتحام بها يصبح وجود الإنسان قشريا وضعيفا، فنموذج أمنا الغولة والأشكيف والساحرة العجوز والرجل ذو اللحية الزرقاء وغيرهم ماهو إلا استخراج الرعب اللاشعوري الذي يولد الإنسان به، حتى يكون المرء مؤهلا للانتصار عليه، وفي ذلك يقول ريجيس دوبريه “الجمال هو رعب مدجن”.
ليس هناك خطر في قص تلك الحكايات على أطفالنا، إنها تحررهم من الرعب وإن بدا غير ذلك، تطلق خيالهم، وتعلمهم لغة النفس الأصلية التي لا تنطق إلا بمثل تلك الصور القادمة من بعيد، من تلك النماذج البدئية واللاوعي الجمعي، فيقتربون أكثر من نفوسهم. لذلك يرى يونج أن الطفل وحده هو القادر على دمج تلك النماذج البدئية والمتناقضة بداخله وأن محاولة اجتثاثها يكون ثمنها العصاب.