الكتابة على الكتابة
دأبَت الفلسفة منذ أرسطو – على الأقلّ – على حمل الناطقيّة على الإنسان، جاعِلةً منها جوهره وماهيته. فالقضيّة الدارجة “الإنسان حيوانٌ ناطقٌ” تُحيل على أنّ ماهية الإنسان هي الكشف عن العالم، والإبانة عن أسراره ومبادئ انتظامه وقوانين سيْرِه وعِللِها وأسبابها. ولعلّ هذا هو ما يمنح العالم معنىً ويمنع عنه الاستحالة إلى فوضى (chaos) لا أصل لها ولا غاية. ولمّا كانت هذه الناطقيّة لا تنعطي ولا تتحقّق إلّا بجملة من الأفعال اللسانيّة والبيانيّة والحجاجيّة، التي تهدف إلى اختزال كلّ تعقيدٍ للعالم إلى جُملةٍ من القوانين الرياضيّة والأبنيّة المفاهيميّة؛ فإنّ المدخل لتفكيك هذه العلاقة الضاجّة بالمفارقة هو القراءة بما هي تعقّلٌ للعالم.
فمُذ أن وُجِد الإنسان ألفى نفسه يتلمّس مسالك فهم هذا السديم، باذلًا كلّ اقتداره لقاء الكشف عن طويّة العالم، وفكّ شفرات سريرته. ولا شكّ أنّ هذه المهمّة المعرفيّة الصعبة هي في باطنها مكاشَفةٌ لغويّةٌ. فعن طريق اللغة كتابةً ومُشافهةً طرح الإنسان مشكلاتِه وانشغالاته المعرفيّة، وباللغة حاول صوغ الواقع وإعادة توطينه في الفكر. ولعلّ من المُشكلات التي تطرحها الرؤية اللغويّة للعالم هي: ما الصياغة المُثلى للعالم؟ وما المسافة التي يجب أن نتّخذها إزاء النصوص المعرفيّة الكبرى التي حاولت إمثال الواقع عبر البنيات النحويّة وعن طريق الترسانة المفاهيميّة لكلّ علمٍ؟ ثمّ إلى أيّ مدى قد أستفيد كباحث من هذا الركام النصيّ لأعيد بدوري قول العالم عبر نصٍّ إبداعيٍّ (نصّي الخاصّ) يُتاخم المصادر ويتجاوزها؟
القراءة أو فهم العالم عبر الآخر
يُعدّ الدخول إلى النصوص التي أُنتجت في سياقٍ معرفيٍّ معيّنٍ بمثابة الدخول إلى عالم من الرموز والدلالات التي لا تنفكّ تنسلّ منها دلالات أخرى أشدّ تنوّعًا. ومن ثمّة فإنّ الباحث مُلزَم في البداية بالولوج إلى النصّ عبر بنيته الداخليّة، أي بما هو انتظامٌ للمفاهيم على المستوى الخطابيّ، حتّى قبل التفكير في المستوى الخارجيّ، أو استدعاء الشروط التداوليّة والمقاميّة لتشكّله كخطاب.
فالقراءة في البداية تقتضي إمعان النظر في النصّ، وتتبّع الدلالات التي تشكّل المكتُوب في كلّيته، حتّى تتكشّف للقارئ وتظهر الأطروحة التي يروم صاحب النصّ الدفاع عنها والمحاجّة على صحّتها. ومن ثمة يسهُل عليها التقاط فكرةٍ عمّا يحاجِج ضدّه من أطروحات. فهي مرحلةٌ مهمّةٌ في عمليّة القراءة، إذ أن الفحص عن الموضوع المركزيّ للنصّ من جنس الوعي بالدقيق من تفريعات إشكاليّته، والمستعصي من تفاصيل أفكاره الجزئيّة ومن ثمّة إخراج النصّ من الزمن البدئيّ إلى الزمن السيروريّ.
كما أنّ لهذا دورٌ في مراحل أخرى، خاصّةً تلك التي تتّسم بالكشف عن البنية المفاهيميّة التي تؤثّث فضاء النصّ، فالمفاهيم معالم، هي التي توضّح الأطروحة وتكشف عن بواطن النصّ وتُظهِرُ القول. إذ تصير القراءة تبعًا لهذا تَشكُّلًا لحياةٍ ثانيةٍ للنصّ، فهي جزءٌ من فعاليته الدلاليّة التي لا تكمل إلّا حين يصير النصّ مقروءًا.
هذا وعلى القارئ أيضًا أنْ يتفطّن للكيفيّة التي يورِد بها الكاتب حججه، وفحص مدى الاتساق المنطقيّ للنصّ، عبر النظر في الكيفيّات التي تنتظم وفقها الملفوظات، والعلاقات التي تنشأ بين ملفوظ وآخر، بتعبيرٍ آخر النظر فيما إذا كانت الغاية من التأليف الخطابيّ بين ملفوظ (أ) و(ب) هو:
• كأن تكون الغاية من استدعاء الحجة (أ) هي التأثير في المتلقيّ مثلًا قصد قبول الحجة (ب).
• أو أنّ الغاية التي يرومُها الملفوظ (أ) هو بيان رجحان ووجاهة ملفوظٍ آخر (ب).
• أو أنّ العلاقة بين الملفوظين يطبعها طابع الإلزاميّة، أي أنّ القارئ إذا قبَل بصحّة الملفوظ (أ) يلزم عنه مباشرة القبول بالنتيجة (ب) [1].
كما أنّ فهم القارئ للترتيب الحجاجيّ داخل النصّ، كفيلٌ بجعله يُدرك التفاضُل بين الحجج والعلاقات التراتبيّة التي تجعل حُجّةً أفضل من أخرى داخل الفئة الحجاجيّة الواحدة [2]، كما يسهّل عليه تمييز الحجّة القويّة من الضعيفة ومدى قدرة حجّة ما أو فئة حجاجيّة ما على مساندة النتيجة التي يدافع عنها صاحب النصّ.
ومادامت لا توجد هنالك نصوصٌ خالصةٌ، أي نصوصٌ خارج سياقات إنتاجها، فإنّ القارئ لا بدّ ألّا يقف عند عتبة البِنية الداخليّة، وأنْ يضع النصّ في حدْثِيَتِه، أي أنْ يقفز به إلى زمن إنتاجه، مستحضرًا النصوص التي حاورت أو حاورها النصّ، والزمن التاريخيّ والسياسيّ الذي كُتب فيه. وتتّبع التحوّلات التي وقعت على الدلالات، مع إخضاعها للنقد، حتى ولوج المسكوت عنه في النّص، وهو ما يعبّر عنه تأويليًّا بقول ما لم يقله العمل نفسه [3]، فسِرُّ الكلمة بتعبير نتشه هو أنّها “لا تعني ما تعنيه إلّا بالقياس إلى ما يُريده قائلها عند قولها” [4].
فالمنهج التأويليّ بما هو فعاليّة قرائيّة، يسُلّم بالطابع التوليديّ للنصّ، أي أنّه لا وجود لنصّ إنسانيّ يُفهم بطريقةٍ أحاديّةٍ، بل إنّ النصّ الواحد يُفتح على عدد لا متناهٍ من المعاني، فالنصّ لا يكشف عن نفسه موضوعيًّا، نظرًا لطابعه الزئبقيّ فهو “مُرتحِل لا يسلّم نفسه” [5]. ومَكْمَن مهمّة القارئ هي الحفر في بنياته من جهة كونه خطابًا، والتنقيب عن المتواري والمتخفّي خلف طبقات اللغة [6]. فكيف إذن يمكن الانتقال من القراءة التأويليّة إلى الكتابة عن النصّ بما هو كتابةٌ أولى (مصدر)؟ وكيف تُسعفنا القراءة التوليديّة في فهم المصدر والوقوف عند مفارقاته وتجاوز أطره وحدوده إلى مساحاتٍ أخرى؟
من القراءة التأويليّة إلى الكتابة على الكتابة
في أحد مواضع كتابه “تاريخ القراءة” الذي أراد له أن يُشكّل تاريخًا للقراءة بما هي فعلٌ إنسانيٌّ يُعبّر عن سعيٍ حثيثٍ لسدّ البياضات المرتسمة في ذهن الإنسان حتّى يتحصّل له فهم ومواجهة أسئلة الوجود الكبرى؛ يورد ألبرتو مانغويل حديثًا عن سقراط اعتَبَر فيه الفيلسوف اليونانيّ أنّه كان مُؤمنًا بأنّ أقصى ما يمكن لفعل القراءة أن يضطلع به هو إيقاظ الثاوي والخبيء داخل النفس الإنسانيّة. وبأن مُنتهى طلب محبّ الحكمة (الفيلسوف) هو البحث عبر هذه التجربة الإنسانيّة عن الحقيقة الموجودة موضوعيًّا في النفس وهذا ما لا يمكن للكتابة أو “الأحرف الصّماء الميّتة” [7]، بتعبير مانغويل أنْ تساعد الباحث على بلوغه.
كما نجد في كتاب حُنين ابن إسحاق الموسوم بـ”آداب الفلاسفة” ذكر أفلاطون الذي رأى أحد تلامذته يكتب ما يسمعه منه في صحيفةٍ، فأمره أن يمسحها قائلًا “احفظ بقلبك ما تسمعه أذناك من الحكمة ولا تتّكل على كَتْبهَا في صحيفةٍ فتعجزك طلبًا، فكلّ علمٍ لا يدخل مع صاحبه الحمّام ليس بعلم” [8]. هكذا تغيّر الموقف من الكتابة تدريجيًّا فما عادت بمثابة الحرج أو المعضلة أو الحجاب أمام المعرفة الحقّة المتمثّلة في القول الشفويّ الذي لطالما اعتُبر المُعبِّر الحقيقيّ عمّا يُعتَمل في الذات، لينتقل إلى الإشادة بالمكتوب خصوصًا مع الديانات التوحيديّة؛ وصولًا إلى لحظة ما بعد الحداثة بما هي لحظة التوحيد بين الصوت والكتابة والقول الدريدي بأنّه لا وجود لفصلٍ بينهما، لكونهما معًا يعبّران عن إحدى التمركزات الثلاث التي تدعم التمركز العرقيّ الغربيّ، ألا وهو التمركز الصوتيّ (logocentrisme) [9].
والمحاولة التفكيكيّة في عمومها تنهض من الرغبة في تفكيك ميتافيزيقا الحضور والأطر المعرفيّة التي انبنت عليها من قبيل مفاهيم العقل، والحقيقة والأصل [10]… ممّا قد يتيح فتح النصّ على الصمت، ومساحات الهامشيّ والمنسيّ فيه، وإثبات أنّ “الواحد هو قهر الكلّ، وأنّ العامّ هو استبعاد الخاصّ، وأنّ المطلق هو إغفال الشرط، وأن الكُلّيّ هو طمس الحدث” كما يقول علي حرب [11].
ومن ثمّة فإنّ الوضعيّة المتّخذة بإزاء النصّ باعتباره أثرًا كتابيًّا في هذا المستوى، هي وضعيّةٌ نقديّةٌ متطرّفةٌ، تتجاوز الوقوف عند دلالاته وسياقات إنتاجه، إلى الغوص في ما لم يقله النصّ، فالنصّ الماثل أمام الباحث لا يكون محض خطابٍ معرفيّ، ممّا يجعل المسلك غير متوقف على نقد البنية الداخليّة وتبيان خطأ المفاهيم والتصوّرات، بل إنّ من صميم عمل الباحث هو الكشف عن قواعد الخطاب وآلياته [12].
ومنه فإنّ النظر النقديّ في المصدر هو بدرجة من الدرجات تتبّع لجينيالوجيا تشكّل النصّ وكلّ زخمه المفاهيميّ، ومواطن انتقاله، والتحوّلات المعرفيّة التي أحدثها وأُحدِثت عليه داخل سياقات معرفيّة مختلفة، لأجل الإحاطة ببعض المعنى.
إنّ هذا المنطلق في التعامل مع النصّ ليس فوضى قراءةٍ، ولا تذريةٍ للمعنى توشِك أن تقضي عليه فنَسقط في العدميّة كما تذهب في ذلك بعض الاتجاهات النقديّة الكلاسيكيّة، إنّما هو ذهابٌ بالنقد إلى منتهاه، وتفكيكٌ للأصنام المعرفيّة التي أنتجتها الذات والآخر (إن صحّ هذان المفهومان) وفتح للحقيقة على التعدّد عبر تكريس ثقافةٍ مناوِئةٍ للتمركزات المتعالية والمتعالمة، لتسمح للباحث بإنتاج نصّ جديدٍ على أنقاض هذا النصّ. إذ “يتعلّق الأمر بكتابةٍ/ قراءةٍ لا تميّز بين النصّ وكاتبٍه، قراءةٌ فعّالةٌ تُنتج النصّ اللامكتوب (…) إنّها عمليّة للتوليد” [13].
نصٌّ لن يكون توافقيًّا بالضرورة، لأنّ الأداة المنهجيّة التي التُئِمت بها أجزاؤه، تُعادي منطق الشُرّاح، الذي هو في جانبٍ كبيرٍ منه منطق الشيخ والمريد، منطق الأستاذيّة الذي يكرّس علاقاتٍ ذات طبيعةٍ لاهوتيّةٍ (فوق/أسفل) ويسدّ أمام الذات آفاق تأسيسها لتأويليّتها الخاصّة للحقيقة. إنّ الكتابة على الكتابة إذن، من منطلق أخذِها مسافةً نقديّةً من المصدر، كتابةً جديدةً ومُغايرةّ، تؤسّس للاختلاف وتقطع مع الأحاديّة التي لطالما أسّست نصوصًا خجولة تلزم عتبات نصوص الأخرى، ولا تجرؤ على اقتحام المعنى وتفجير ممكناته.
لعلّ المستخلص من كل هذا إذن، أنّ العمل الكتابيّ مجرّد أثرٍ مشروطٍ بسلسلةٍ من الأعمال الأخرى التي تنجزها الذات من قبيل القراءة والفهم والتمحيص والبناء.. وهي كلّها شواهدُ على الكتابة كتجربةٍ إنسانيّةٍ تغايِر وتختلف جذريًّا عن الشفويّ والمحكيّ. ومادامت المدوّنة تمثّل حلقةً انتقاليّةً بين نصّ الذات ونصّ الآخر فإنّ مقتضى القراءة الذاتيّة التي يقوم بها الباحث في حقل العلوم الإنسانيّة هو عدم ملازمة النصّ، ملازمة المريد، والوعي بأنّ الأثر الكتابيّ الذي تشتغل عليه هو مجرّد حلقةٍ في سلسلةٍ من النصوص التي أنتجتها البشريّة حول ذات الإشكال وفي ذات القطاع المعرفيّ.
الهوامش:
[1]– رشيد الراضي، المظاهر اللغويّة للحجاج (الدار البيضاء، منشورات مؤمنون بلا حدود والمركز الثقافيّ العربيّ، 2015)، ص 76.
[2]– المرجع السابق، ص ص21 – 22.
[3]– تيري إيجلتون، “النقد والإيديولوجيا”، في عبدالغني بارة، الهرمينوطيقا والفلسفة، نحو مشروع عقل تأويليّ (بيروت، الدار العربيّة للعلوم ناشرون)، 2008، ص 38.
[4]– Gilles Deleuze, Nietzsche et la philosophie (Presse Universitaire de France), 1962، p84.
[5]– عبدالغني بارة، الهرمينوطيقا والفلسفة، مرجع سابق، ص 40.
[6]– المرجع السابق، الصفحة نفسها.
[7]– Alberto Manguel, A History of Reading (New York, Vintage CANADA Edition, 1998 p94.
[8]– حنين ابن إسحاق، آداب الفلاسفة، تحقيق وتقديم وتعليق عبد الرحمن بدوي (الكويت، المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم، 1985)، ص 42.
[9]– جاك دريدا، استراتيجيّة تفكيك الميتافيزيقا، ترجمة وتقديم عز الدين الخطابي (الدار البيضاء، أفريقيا الشرق، 2013)، ص 6.
[10]– المرجع السابق، ص 7.
[11]– علي حرب، نقد النصّ (الدار البيضاء، المركز الثقافيّ العربي، 2005)، ص 9.
[12]– المرجع السابق، 11.
[13]– محمّد أندلسيّ، نيتشه وسياسة الفلسفة (الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2006)، ص 173.