الكلبة ميجان
كانت الكلبة ميجان محبوبة جدا من كافة سكان الكومبوند السكني الفاخر جدا. منحتها فروتها البيضاء الممهورة بتوقيعات سوداء هنا وهناك نوعا من الخفة ورعونة في الأداء والحركة. الكومبوند بأكمله كان ملعبها. بدت كما لو كانت من كلاب الشارع الضالة. ليس لها مكان محدد أو مالك معروف. تجدها مرة في صحبة مشيرة هانم الدبلوماسية العجوز. ومرة أخرى مع مستر علاء رجل الأعمال الشهير. يداعبها السياسي الشهير الحاصل على الدكتوراه من شمال أميركا. تجري وراء الأستاذة الجامعية التي لا تتحدث مع الآخرين إلا من خلال جسدها المترهل وشفتيها المتهدلتين. مرة تجدها في مدخل الكومبوند في صحبة رجال الأمن المرهقين. ومرة تجدها بجوار المسجد الذي لا يرتاده سوى عم محمود الجنايني وبعض العمال. ومرة تجدها تداعب المتواجدين حول حمام السباحة. تقفز وراءهم، تلتقط ملابسهم، تلاعب أطفالهم، تعبث في حقائبهم.
كانت ميجان أيقونة المكان. الجميع يعرفها رجالا ونساء وأطفالا. القاطنون في الكومبوند والعاملون فيه. رغم وجود أنواع كثيرة من الكلاب الأخرى في أجواء الكومبوند، فقد ظلت ميجان فريدة في تميزها، وتفرّد صوتها، وهيمنة وجودها. طابعها الهاسكي الروسي الفريد منحها حضورا غريبا، وتميزا نادرا في أرجاء الكومبوند الشاهقة أسواره، والممتلئ بحمامات السباحة التي لا يرتادها أحد! ربما كانت ميجان هي الأكثر إنسانية وسط صمت الكومبوند وانعزاله المريب.
التنوع الكبير بين سكان الكومبوند فرض أيضا تنوعا غريبا في نوعية الكلاب المصاحبة لهم. أصحاب مناصب ومتنفذين. رجال أعمال. أي أعمال! أساتذة جامعات قضوا نصف عمرهم في الخليج. ممثلون وممثلات. مفكرون ومفكرات. نخبة مجتمعية بامتياز! جميعهم تركوا مناطقهم القديمة، واختاروا أطراف القاهرة الجديدة موئلا لهم. جمعتهم جميعا تلك الرغبة المتراكمة في الانعزال عن المحيط العام. رغبة عارمة في التحصن بأسوار عالية تخفيهم عن عيون العامة والمتلصصين والفضوليين.
داخل الكومبوند، عوالم فردية أخرى منفصلة عن بعضها البعض. كل فيلا محاطة بأشجار عالية تفصلها عمّا حولها. كل حمام سباحة مسوّر بأسوار أخرى تخفي تلك الأجساد المترهلة، وتمنحها قدرا كبيرا من الخصوصية والانزواء. جزر داخل جزر! بجانب الكومبوند والفيلا والحديقة وحمام السباحة لا بد من كلب. الكلب تتمة الانعزال، الانعزال بالإعلان عن التحصن خلف طوق كلب. أي كلب؟ ربما. أي نوع؟ ربما. كلاب كثيرة وعديدة ومتنوعة جلبها أصحابها معهم عبر سفرياتهم العديدة والمتكررة، من روسيا وألمانيا وبلجيكا وأستراليا وأيرلندا وجبال القوقاز. وسط كل هؤلاء الكلاب بدت ميجان متميزة، جذابة، لافتة بشكل غريب للنظر! بدت تتمة ليوم المقيمين، لازمة لهم، طرفا من أطراف حياتهم!
حينما تعالت أصوات ميجان بطريقة لا تمتّ بصلة لنباح الكلاب، وأصواتهم المألوفة، بدا الأمر غريبا ومرعبا جدا لسكان الكومبوند المفتقد لحضور أصوات البشر وصخبهم الإنساني. بدا صوتها أقرب للنواح المصحوب بالاحتضار. يتحرك رأسها بشكل دائري إلى أعلى، ببطء شديد حتى ترتد دموعها الغزيرة على جبهتها. تعاود النباح مرة أخرى بنفس أطول، وعزيمة خائرة، لتعيد رأسها كله إلى أسفل، وترد بقايا الدموع إلى إسفلت الطريق الدافئ. ظلت على هذه الحال فترات طويلة ومتعاقبة، بينها استراحات قليلة ومحدودة. تجمع الكثيرون من السكان حولها. مدام شهيرة كانت أول الحاضرين.
ماذا بكي دارلنج.
تلاها الأستاذ الجامعي، الذي أقبل صامتا، مادا يده برفق إلى ظهر ميجان مداعبا إياها. بدا الأمر غريبا فعلا. تقف ميجان على قدميها الأماميتين، بينما تبدو قدماها الخلفيتان كما لو كانتا جذورا ممتدة في الأرض. بدت صلبة باردة خالية من دفئها وحركتها مثل أسدي قصر النيل. لم تحرك ميجان ساكنا، بينما أصابع الأستاذ الجامعي تتحرك برفق على سطح ظهرها المنتصب في دعة وخنوع. بدا الجميع مرتعبين من نباح ميجان. حالة جديدة غير معهودة بين أرجاء الكومبوند. صخب وجدل وحوارات. سكان يرون بعضهم لأول مرة. نساء يشاهدن نساء أخريات لم يعتدن رؤيتهن. حتى الأطفال أعجبهم الموقف واندسوا بين الأرجل الطويلة الحاضرة.
جلس عم محمود بجوار ميجان مستندا على سور خشبي لإحدى الفيلات ثم ربت على ظهرها بأصابع خشنة متشققة. نظر إلى الجميع وقال:
ميجااااان ترى ملك الموت!
أي ملك موت! يرد الطيار تامر الأنيق باندفاع ودهشة.
ولماذا لا نراه! يعقب مستر مهند رجل الأعمال الشهير.
وكيف دخل الكومبوند بالأساس! تواصل مس كارولين صاحبة صالات الرقص الشهيرة مسلسل الأسئلة الغريب!
يا جماعة ملك الموت الذي يرسله الله، ليقبض أرواحنا! يعقب عم محمود متمتما بكلمات لم يفهمها أحد من الواقفين حول ميجان.
في لحظات اختفى المحيطون بميجان، وانسلوا جماعات وفرادى. ركبوا سياراتهم واصطفوا في طوابير طويلة هم وذويهم تاركين الكومبوند لملك الموت! مع غمرة اندهاش أمن البوابات من هذا الهروب الكبير، كان صوت ميجان يخفت رويدا رويدا، بينما كان جسدها الرقيق يتداعى على فخذ عم محمود لتصمت إلى الأبد.