المجتمعات الافتراضية
تدخّل وسائط الاتصال التكنولوجية الحديثة في مجال حياتنا اليومية، حوّل هذا التدخل في عالمنا العربي إلى شبه تداخل بين الأنساق البنيوية للمجتمع! أنساق بقيت لسنوات، إن لم نقل لقرون، خاضعة لمعادلة ثنائية: سلطة الحكم، ومحكومي السلطة! وما بين النسقين، شرائح تتمتع بشبه استقلاليات، لكنها في الوقت خاضعة لمعادلتي النسقين المتقابلين المتضادين، وهو ما نعرفه ضمن تشكيلة “الطبقات الوسطى”، التي تضم عادة شرائح المتعلمين والمثقفين والحرفيين والتجار.
الصراع المفروض باسم الافتراضي
ضمن هذه الأنساق الاجتماعية، ستتشكل ثقافة “التعامل مع” أو “التعامل ضد” ضمن جدلية الصراع من أجل البقاء (في السلطة) أو على الأوضاع القائمة من جهة، أو من أجل المطالبة “بالحق”، الذي تحول في أعين السلطة إلى باطل، فيما ستتعامل الأنساق “المتحكم فيها” ظاهريا على تحويل هذا “الباطل إلى حق” إذا اقتضى الأمر.
من هذا الباب، يبدو “وهم” الخروج من “توهم” الأشكال البنيوية التقليدية معيقا “لإيهام” التحرر من التقاليد والمجتمع الضيق المقلص للحريات، خاصة تلك الحريات الخاصة، الشخصية الذاتية، مطلبا اجتماعيا، أكثر منه سياسيا. لعل هذا ما جعل من وسائل التواصل، يشار إليها “بالاجتماعي”، فهي مطلب اجتماعي ثقافي قبل أن تكون وسائل إعلام أو تواصل سياسي، إنما أخضعت فيما بعد لمطلب حيوي في المجتمعات التي تعاني من الإكراهات السياسية، وتحولت هذه الوسائط الاجتماعية للاتصال إلى منابر يتداخل فيها السياسي بالإعلامي بالتواصلي الشخصي، بالاستهلاك والإشهار التجاري، مرورا بكل الأشكال المتداخلة التي تمنح في آخر المطاف قواسم المجتمع الكبير المشترك وغير المشترك فيه المسماة “خصوصية فردية”، والتي يراد لها أن تشارك في العملية التبادلية النفعية، كسلعة استهلاكية في آخر المطاف.
المواطن، المبهور والمشدوه أمام انفتاح المجال أمامه للخروج من الفضاء الضيق للاتصال المحلي والمناطقي، وأحيانا الأسري القبلي العشائري، وجد نفسه خلال فترة وجيزة، يتصور وكأنه تمكّن أخيرا من التغريد خارج القفص، وحتى دون إدراك أو معرفة مسبقة بما يفعل وبتبعات ذلك ومخاطر هذا الانفتاح على العالم الافتراضي، إلى درجة قبول تقاسم الخصوصيات العائلية والحميمية: صور وأحاديث ودردشات ورسائل صوتية ونصية، مرفوقة بقائمة “الأصدقاء والاتصالات”، يجد المستخدم نفسه يقاسم هذه الوسائط أسراره في ثقة الواثق من نفسه على أن العقل الإلكتروني الكبير هو “الصادق الأمين”. التطمينات التي تسوّقها المؤسسات الاتصالية من هذا النوع رفقة كل أنواع “الضمانات” لسرية المعلومات والملفات والصور والوثائق، تجعل المستهلك يقبل على المغامرة، هي في الأصل مقامرة.. فهو في نهاية الأمر مجبر على التعامل مع هذه الوسائل على اعتبار أنه لا خيار له من دونها، إن كان يريد أن “يعيش عصره” ويرفض أن يعيش العزلة في “عالم صار قرية صغيرة”، مجبرا أن يتنازل إما طواعية وإما مقتنعا أنه في مأمن وإما جهلا بأن كل بياناته العائلية مكشوفة للجميع، إن لم تكن لمغامري اللصوصية والتلصص، فلصالح شركات الاتصال والذكاء الصناعي ومخابر وكالات الاستخبارات.. “الأخ الأعظم” (بعدما تجاوزنا عصر “الأخ الأكبر”).
هذه البيانات، هي المادة الخام لمؤسساتها البحثية الإستراتيجية والتي توظفها ضد المستهلك من حيث يبدو أن هذا التوظيف هو لصالحه.. فهي في نهاية المطاف تجارة، يقبل بها الزبون ومعها يقبل بكل مخاطر الكسب والخسارة وبكل أشكال مخاطر السوق من تحايل وابتزاز وسرقة.. إنها المخاطرة الواعية التي تربك الوعي.. فالمدركون لهذه المثالب، على ضآلة حجمهم العددي، قياسا بغير المدرك بتفاصيل هذه الرهانات، مقبلون على بيع خصوصياتهم طمعا في عائدات إما ذات طابع تجاري نفعي أو خدماتي. المستخدم، يدرك حجم المخاطر والرهان، ولكنه لا يأبه بذلك، فهو في نهاية المطاف “مسلوب”، بفعل الإغراءات التي تفتحها له الشبكة العنكبوتية التي لا يقدّر مخاطر الوقوع في شراكها.. هذا الوقوع قد يكون سيكولوجيا عبر “الأوتيزم” السبرنطينقي (الإدمان) أو عبر التشبع والاندماج الكلي في عملية التنازل المستمر غير المتناهي على الخصوصيات، بدعوى “الاقتسام”، التي هي عقيدة دينية، تمثل “الحق الذي يراد به باطل”.. فالتّقاسم، تحوّل إلى عملية تبادلية تجارية، بحسب السوسيولوجي الفرنسي بيار بودريو، تتمظهر في شكل تبادل مصلحي، سلعي، خدماتي لا نهائي، أو في شكل تبادل تجاري نقدي، وغالبا ما يكون هذا التقاسم والتبادل “العيني” تقاسما للخصوصيات بغرض تسويقها كمنتجات سلعية، مقابل خدمات و”تحميلات وتطبيقات” للمستخدم تزيده إقبالا على إقبال، ونهما على نهم وشبعا على شبع لا يقوى المستخدم أحيانا على الفكاك منه.
الحق الذي أريد به باطل
يبدو للمستخدم العربي لوسائل التواصل الاجتماعي، المعاني من ضيق تنفس الحريات الفردية الاجتماعية الثقافية والسياسية والمحتقن في كل المجالات، أن هذه الوسائط، هي أدوات مقاومة متنوعة في انتزاع هذا “الحق” أيّا كان شكله: إلهيا، دينيا أو زمنيا، على اعتبار أن احتكار السلطة لمختلف السلط، كان في غالب الأحيان في مجتمعاتنا العربية وغير العربية المتّسمة بالشمولية والهيمنة باسم كل العناوين: قبلية، عائلية، ملكية، رئاسية.. هو الشكل المهيمن للنظام السياسي الأيديولوجي من بين هذه الأشكال الجديدة التي تدخلت لتوسع دائرة التداخل بين الأنساق وتجبر النسق المهيمن على التخلي عن سلطة الرقابة “الأبوية” على “الأنساق الصبيانية”، وسائط الاتصال التكنولوجية الحديثة.. نحن نتحدث عن “نسق صبياني”، في نظر النسق الأبوي المهيمن.. فذهنية السلطة تستمدّ شرعيتها بالنسبة إليها أولا، من حيث أنها صاحبة الحق الأول والأخير في إسداء الرأي والتربية وتقسيم الثروة والوجيه والتكوين والتعليم، تماما كما يفعل الأب المهيمن على أبنائه: إنها سلطة الضبط! وهذا عين ما ذهب إليه ابن خلدون في مسألة تشكل الدولة و”المُلك العضد” وأفولها.. ذهنية تملك المُلك، الذي آل إليه السلطان، باعتباره ثمرة جهوده، التي تتحول إلى ذهنية التملك الفردي.. ملكية خاصة.. دولة ونظاما ومؤسسات، كلها تتحول إلى ملكية خاصة لمجموعة أو كتلة أو عائلة أو طغمة مالية!
الشريحة الاجتماعية الوسطى، والتي عادة ما كانت وتكون، مدعومة من النخب غير المستفيدة من مزايا الحكم وتوزيع الريع والدخل القومي والقيم المادية والروحية، هي المحرّك لآليات المقاومة بغية افتكاك الحق باستعمال الباطل إن اقتضى الأمر.. فالغاية عادة ما تبرّر الوسيلة، ما دام أن نفس المعادلة مستعملة من الطرف الآخر المهيمن: جيش، أمن، إعلام رسمي، خطابة رسمية، قوانين..! في الجهة المقابلة، ستعمل الطبقات والشرائح الدنيا، تقنيات الإفلات من هيمنة وسيطرة الطغم بكل أنواعها وفي كل أشكالها، ومن بينها “الإعلام”.
انتشار تكنولوجيا الاتصال، خاصة مع ظهور الجيل الثالث والرابع للإنترنت وقريبا الجيل الخامس، ساهم، ليس فقط في تغيير شكل “المقاومات الرمزية” لأشكال الهيمنة المحلية والعالمية، من تعامل شفهي، أو ما كان يعرف بمعادلة “من الفم إلى الأذن”، والذي هو قانون “الإشاعة”، إلى تعامل بالصورة والصوت والآنية، لسرعة تدفق المعلومة. فالمعلومة صارت تتدفق بشكل سيلان متعاظم ومتسارع حتى أنه لم يعد للسلطة المتحكمة لا الوقت في التصدي لهذا الإعلام “الشعبي” غير المنضبط، المشاغب، ولا الكفاءة في فعل ذلك. فالشباب المشحون قوة لا تقوى على التصدي له الشيخوخة المزمنة حتى ولو جندت طاقات شبانية لهذا الغرض!
ألـ”Buzz“ولعبة التحريض والاستهلاك
“البوز”، جزء من هذا التحوّل نحو المشاكسة الإعلامية والتشويش على الخطاب الرسمي عندنا. يبدو هذا هو المظهر العام عندنا في العالم العربي الذي عرف تحولات مريعة خلال العقدين الأخيرين بفعل تدخل هذه الوسائط في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وفي كل مناحي الحياة اليومية، ويبدو هو المهمين، قياسا لتوجه “البوز” في الغرب، وفي أميركا مثلا. فإذا كان هذا “البوز” مرتبطا في الغرب بثقافة الاستهلاك وذا أساس تجاري تسويقي ترويجي، عوض معادلة “الإشاعة” والاتصال “بابا لباب ومن فم لأذن”، كما كان الشأن في تقنيات حقب ما قبل تكنولوجيا الجيل الثالث للإنترنت فإنه، وفي العالم العربي، ارتبط أكثر بالتعامل مع الواقع السياسي والاقتصادي والأخلاقي: ارتبط بالطابوهات وما أكثرها في العالم الشمولي أحادي اللسان والعين وعلى رأسها: السياسة، الدين والأخلاق. فقد كانت ثورات الربيع العربي تتكئ على هذه الوسائط وعبر منصات التواصل الاجتماعي، وبالأخص “الفيسبوك”.
“البوز” يفيد “الإزعاج”، إلا أن هذا التوصيف الإلكتروني يبدو أنه صار من خلال انزلاق سيميولوجي، يحمل دلالة “التشويش” على الخطاب الرسمي ليقدّم نفسه في شكل خطاب مواز، خطاب يحمل كل الأشكال التقليدية للمقاومة الثقافية والرّمزية الصامتة من سخرية واستهزاء وتعرية وفضح وتنكيت، هازمة بذلك معايير السلطات في الضوابط العامة لمستهلكي الخطاب من شرائح وطبقات دنيا، ومخترقة، بل ومشوشة على نظم البث الرسمية وعلى مضامين الخطاب الإعلامي والسياسي الرسمي.
حسابات لسرقات “سحابية“
من هذا المنطلق، يبدو سوسيولوجيا، أن قبول التبادل القيمي ضمن التجارة العينية: خصوصيات مقابل خدمات، ترضي الحلقة الأكثر ضعفا التي هي المستهلك، لهذا نراه يحاول استعمال هذه الوسائط لصالحه بغض النظر عن مساوئها والمصالح التي يراد أن تجنى منها من الطرف المستثمر: خيار مفروض لا مناص منه.
تطوّر عالم تكنولوجيا الاتصالات، وسّع من دائرة التواصل. هذا التوسع، بقدر ما زاد في توسع التعاملات والتواصل بين الأفراد والدول الجماعات والمؤسسات المالية والخدمية، حوّل هذا التوسع إلى مجال التدخل والدخول غير المنضبط بل والإجرامي إلى حواسب وحسابات المتعاملين، باستعمال تقنيات التجسس الإلكتروني لصالح الشركات المنتجة والمسوّقة لهذه الخدمات، والتي تتعامل من خلال هذا الكم من المعطيات وبنوك من البيانات مع مصالح وذكاء خبرات دولية في كل المجالات لتوظيفها في سياق سياسات الهيمنة الاقتصادية أساسا، مهما كانت أبعادها. الفيروسات المساعدة على إفساد برامج الاستخدام هي في كثير من الأحيان رديفة لتلك البرامج المساعدة على كشف هوية الفرد أو الجماعة أو المؤسسة والدخول إلى بنك المعلومات والبيانات الشخصية وسرقتها ثم استعمالها لأغراض مغرضة وإجرامية، سياسية كانت أم مالية أم أخلاقية من فئة الابتزاز والضغط لأهداف غير أخلاقية في نهاية المطاف.
فالسرقات الرقمية في عالم الأعمال والبنوك، لم تعد وحدها هي الخطر، فهناك أخطار أكثر وهي سرقة البيانات والأسرار، أسرار الأفراد والدول وبرامج الأمن الداخلي للدولة والأسلحة وبرامج تطوير الصناعات العسكرية خاصة في مجال أسلحة التدمير الشامل.
الحسابات الفردية على وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت هي الأكثر عرضة للقرصنة واستعمال الأسماء المستعارة ونشر المعلومات السرية عن الفرد أو الشخص مهما كانت صفته، بغرض الإساءة إليه. هذه الممارسات الاجتماعية، لم تكن معروفة في السابق بسبب عدم وجود إمكانية هذا التواصل الشبكي العنكبوتي في المجتمع العالمي اليوم. الويب، صار بيتا عنكبوتيا، يمكن لكل الممارسات الاجتماعية التي نعرفها سابقا في المجتمعات الحلية، توجد وبضراوة أكبر في المجتمعات الرقمية، خاصة وأن المتعامل هو مجرد اسم ولقب أو اسم مستعار، لكنه يحمل هوية رقمية “IP”، يمكن تتبعه ومتابعته عن طريق برامج خاصة لمراقبة التتبع “Trackers”عن طريق التتبع المضاد، حتى أنه لا يكاد يوجد حساب واحد أو جهاز واحد غير مخترق أو عصي عن الاختراق. والحرب القادمة ستكون حربا إلكترونية بالأساس، هي حروب سحابية عبر الحسابات.
الشركات العالمية المنتجة لبرامج مكافحة الفيروسات التجسسية أو التخريبية للبرامج والمواقع والحسابات، كثير منها أو جزء منها متورّط في إنتاج برمجيات من هذا النوع بعرض إنتاج برامج مضادة للفيروسات: فيه الداء والدواء، خاصة وأن كثيرا من برامج المضادة للفيروسات تحمّل من الإنترنت بمعدل كبير من الخطر من المصدر.
هذا اللهث من طرف المستخدمين للإنترنت عبر الهواتف المحمولة خاصة لسهولة استعمالها ومرافقتها الدائمة للمستخدم ليلا ونهارا، واستخدامها بغير الصورة المهنية والأخلاقية التي ينبغي التعامل بها معها، يعود إلى زمن الانغلاق والانحباس الإعلامي والتحكم في الخبر والمنع وتقليص حرية الإعلام والرأي، ممّا جعل المستعمل يلجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي إما منتجا للمادة المنشورة، صورة كانت أو فيديو أو نصا، أو استهلاكها، وهو الغالب. استهلاكها على أنها مصادر خبر حقيقة تنافس الصحف المكتوبة والقنوات الإعلامية الوظيفية (حتى لا أقول الاحترافية)، التي صار ينظر إليها على أنها غير ذات مصداقية لتحكّم الدولة والأجهزة القانونية في تسيير أسلوب نشرها للخبر أو التعامل معه. هذا التصوّر، الصحيح ولكنه خاطئ، جعل من المواطن يترك الإعلام الرسمي أو الصحيفة، كونه غير دقيق في تصوّره أو موجه في ظنه لكي يسقط في “إعلام الفتنة”، غير المهني، الذي لا أخلاق مهنية تتحكم فيه ولا روح المسؤولية، بل تتحكم فيه الأهواء والنزعات والغرائز والميولات الذاتية والجماعية، الغرض منها تسويق فكرة أو الحصول على أكبر عدد من النقز و”لايك”، لأسباب تجارية، يراد منها كثرة التصفح لنيل نقط الامتياز وبالتالي التحول نحو البحث عن التجارة عن طرق تزييف الحقائق واستعمال الكذب والدجل وكل أشكال الممارسات غير الأخلاقية التي يعاقب عليها القانون.
رهان تكنولوجيا الهشاشة البنيوية
ولعل أكبر رهان يواجهنا اليوم هو كيفية أخلقة التواصل عبر هذه المواقع وهذه الحسابات. صحيح أن المسألة مرتبطة بأخلاق الفرد، لكن ليس كل الأفراد على خلق وليس كل الأفراد لهم تصور واحد للعمل الاتصالي أو نفس الهدف، فالغايات كثيرة، والوسائل أكثر، والغاية تبرر الوسيلة في كثير من الأحيان.
القراصنة، عادوا أكثر انتشارا، بعدما كانوا مرتبطين بقرصنة البحار، صارت القرصنة السحابية اليوم أو الافتراضية هي أكبر مغامرة يقوم بها الجيل الرابع من الثورة السيبرنطيقية، التي بلا شك قد أنتجت كثورة معرفية اتصالية أكثر من ظاهرة اجتماعية ثقافية، علينا أن نواكبها ونتعرّف عليها قبل إنتاج ميكانيزمات التصدي لها عبر القنوات القانونية وتطوير المنظومة السياسية الجنائية لتشمل كل هذه الظواهر التي لم تكن معروفة، بل والتي باغتت دولنا ومؤسساتنا التي بقيت ضمن المرحلة التقليدية ولم تدخل عالم الرقمنة العلمية إلا مؤخرا وباحتشام أحيانا، في انتظار تهيئة النفس وإعادة رسكلة منظوماتنا القانونية والإدارية والبشرية وضخ دم جديد شباني في مجال الإدارة الرقمية للأعمال والعلم والمال. وهذا يتطلب جهدا جبارا في التكوين وفي المال وفي الممارسة اليومية، خاصة أننا مقبلون على جيل جديد آخر من التجارة الإلكترونية، حيث ستدخل القرصنة المجال واسعا للمؤسسات المالية والبنوك وأيضا الأفراد. فإذا كانت اليوم القرصنة مرتبطة بحسابات التواصل الاجتماعي وهي المنتشرة بكثرة، ففي المستقبل القريب سنجد أنفسنا أمام تفشي ظاهرة أكبر هي قرصنة الكبار، لاسيما وأننا في مواجهة كبار قراصنة العالم “الهاكرز” لما يتعلق الأمر بأسرار الدولة والمال العام والخاص والأسرار الفردية والجماعية. وقد لاحظنا كيف تمت قرصنة حساب وزيرة الخارجية الأميركية في موسكو من طرف قراصنة روس وكيف استغل القراصنة هذا الفعل في التأثير على مجريات الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أميركا نفسها. فأميركا وروسيا وبقية الدول الصناعية والنووية كلّ ما تخشاه هو قرصنة شيفرة المنظومة العسكرية وخاصة الأسلحة غير التقليدية.
إن الأسرار المعدة للبيع مقابل خدمات “الإبحار” والتحميل، والتجارة بين الأفراد، من شأنها أن تفتك بالخصوصيات، لكن هذه الخصوصيات قد تخترق أيضا من قبل أشخاص ووكالات وتنظيمات، من شأنها أن تربك صاحب القرار والمستفيد الأكبر من هذه المنظومة الشبكية العالمية، مما يجعلنا نؤكد أن العالم اليومي يتجه أكثر فأكثر نحو “الهشاشة” البنيوية، ما يجعله مهددا بالزوال بالسرعة القصوى التي لم يعرفها تاريخنا الإنساني في أيّ محطة تاريخية له: فحضارة ما بعد الحداثة، قد ينتهي تمددها الهائل بالانكماش الفجائي في أيّ لحظة، على اعتبار أن كل ما زاد على حده انقلب إلى ضده.