المختلف والمؤتلف
يستعيد الناقد المعروف خلدون الشمعة في كتابه “المختلف والمؤتلف” الصادر حديثا عن دار المتوسط الكثير من القضايا الفكرية والأدبية والثقافية الإشكالية والمهمة، ذات الطابع الراهني والملح على المستوى الثقافي والأدبي العربي، وما تثيره من أسئلة أو تمثّله من تحديات مثل مثل قضايا الحداثة والتقدم والعلاقة مع المركزية الثقافية الغربية ومفهوم المثاقفة وعلاقة الأدب بالتاريخ ومفهوم التحرر النسوي وفلسفة الاختلاف وتقنية القناع في الشعر العربي المعاصر. وتظهر أهمية هذا الكتاب من خلال الرؤية التحليلية والبحث الرصين والموسّع في جوانب هذه الموضوعات والقضايا، التي ما زالت تغري بالحوار حولها نظرا لمركزية حضورها في حياتنا الثقافية والفكرية الراهنة.
يتوزّع الكتاب على أربعة محاور أساسية تتوزع هي الأخرى على مجموعة كبيرة من العناوين الفرعية والهامة، تبدأ من موضوع الاستشراق وخطاب المركزية الغربية وتنتهي مع مناقشة موضوع رهاب المغايرة والولع بالاختلاف وموقع الفلسفة عربيا. يفتتح الناقد موضوعات الكتاب بالحديث عمّا خلقه خطاب المركزية الغربية من صور نمطية عن الشرق استطاعت أن تخترق وعي العربي عندما شكلت عنده مفهوما جوهرانيا مراوغا للحداثة، استنفرت عملية ردم مستمرة لكنها متعثرة لبرزخ معرفي ممتد بين الأنا والآخر، وكشفت عن هوة واسعة بين الذات والموضوع.
يعتمد الناقد على أطروحات إدوارد سعيد في نقد الاستشراق كمقدمة في نقد شعريات المثاقفة، بعيدا عن مسألة شيطنة الآخر، انطلاقا من دراسة نماذج شعرية وسردية بهدف اختبار حركتين تمضيان في اتجاهين مختلفين، تقود إلى ما يسمّى بالفضاء الثالث وفق توصيفات هومي بابا. ولتبرير هذا الاختيار يبين أن الفضاء الأول يتمسك بأسطورة الأصالة والعودة إلى الأصل، بينما يتميز الفضاء الثاني بأنه فضاء ضدي يرفض الانفتاح على المركز الأوربي.
وفي هذا السياق يتحدث الناقد عن دور إدوارد سعيد في نقد الاستشراق عندما كشف عن الطبيعة الأيديولوجية للصدام ولكن ليس من ناحية الأدب. لذلك نجده يعود إلى بدايات القرنين السادس والسابع عشر التي تشكلت فيها صورة الشرق من خلال الاستشراق في الآداب الغربية، حتى تحولت هذه الصورة إلى مرآة يرى الغرب نفسه فيها. وللدلالة على ذلك يعود إلى ترجمة ريتشارد بيزون لكتاب ألف ليلة وليلة والهوامش التي وضعها له بغية إشباع نزواته الجنسية المقموعة إلى جانب أمثلة أخرى من الرواية والشعر الغربي.
ويشير الناقد إلى مسألة هامه تتمثل في أن الثيمة الشرقية وما لحق بها من تقنيات لم تكن هي التي ساهمت في ظهور الاستشراق الأدبي، وإنما عملية التثبيت المستمرة لهذه الصورة النمطية ذات البعد السلبي في المخيال الغربي، حيث لم تستطع العولمة الثقافية في الوقت الراهن أن تلغي هيمنة المركزية الغربية. وينتقل الكتاب في موضوع آخر إلى دراسة إشكالية المثاقفة كنظرية وسياق ومصطلح منوّها بضرورة ألا يتحول نقل المصطلح إلى ممارسة أصولية تقوم على الحرفية العمياء، من أجل الوصول إلى ممارسة تأسيسية تنتقد وتعترض وتصحح وتبتكر.
ويحدد إشكاليات الثقافة في علاقة المصطلح بالنظرية نظرا لأن الأخيرة هي مجاله الحيوي. وتتحدد هذه الإشكالية الثانية عنده في ترجمة النظرية الأدبية ومصطلحاتها بالسياق المحدد لمعنى النظرية لأن هذه المناهج وجهاز مصطلحاتها المعرفية تتداخل حدودها تداخلا شديدا، ما يجعل منها أنظمة معرفية مفتوحة على بعضها البعض.
وتتبدّى علاقة التاريخ بالأدب عنده من خلال استعادة تجربة الخبر في التراث العربي وأثرها تجربة بورخيس الذي مزج بين الخبر والقصة والأدب والتاريخ في حين أن كتاب الأغاني للأصفهاني سبق ذلك على نحو مبكّر. ويؤكد الناقد أن بورخيس يعود في مصادره إلى المفهوم الواسع للأدب العربي والتراث التاريخي والفلسفي ولذلك يقوم بتحديد هذه المصادر عنده. كما يتناول العلاقة بين الأغسطية التي تحتفي بطرق الأداء الكلاسيكي والشرقية ممثلة في ألف ليلة وليلة.
وبعد أن يتحدث عن تجربة عمر باوند وترجمته لرباعيات الخيام يتناول موضوع الحب الدنيوي الذي يراه يتجاوز في عدد أعماله أنواع الحب الأخرى، ثم يفرد عنوانا خاصا لشعريات المثاقفة بدءا من منعطف ما بعد الحداثة وعلاقته بالحداثة ومسألة السياق التي تتعلق بموقع كل منهما على مستوى التتابع الزمني. إن ما بعد الحداثة التي تحمل على المستوى الفلسفي نزعة مناهضة لفلسفة عصر التنوير لا ترى مجالا للتفاؤل الذي كانت تبديه الحداثة، لأن هناك قوى قاهرة تتحكم بالمجتمع لا مجال للسيطرة عليها، ولهذا فهي تعترض على ما يسمى بالسرديات الكبرى لتأكيد انعدام الحقيقة.
أما ما يتعلق بالثقافة التي باتت تعتمد على الاستهلاك بدلا من الإنتاج فإنها أفقدت الأشياء معناها من حيث معناها واستبدلتها بالرّغبة في امتلاكها. كذلك تحولت الحاجة إلى علاقة افتراضية زائفة يقود إلى حيازة أشياء وهمية، ما جعلها تتحول إلى وسيلة للسيطرة على المجتمع.
ويحاول الناقد أن يستكشف علاقة الأدب العربي بما بعد الحداثة من خلال استذكار نماذج منه أهمها كتاب أدونيس وكتاب كمال أبوديب عن المتنبي ودراسة إدوار الخراط لهذه الظاهرة في رواية “الزيني بركات” لجمال الغيطاني، من خلال توظيف نصوص من عصر الانحطاط في هذه الرواية للتعبير عن قضايا معاصرة.
وفي هذا السياق يتحدث عن روايات استغلت علاقات التجاور الكاشفة عن المفارقة والتناقض في الواقع من خلال استخدام تقنيات الكولاج والتضمين والمجاز. أما في الشعر فيجدها ماثلة في تقنية القناع والإلماعة عند بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وعمر أبو ريشة.
ويتوقف الناقد الشمعة عند مسألة التحرر النسوي في ضوء مجموعة من الالتباسات التي يوجزها في أربعة، أولها أن المفهوم مازال معياريا وليس وصفيا، والثاني أن الخطاب الأصولي الديني والقومي والماركسي يخلق حالة من التماهي بين الحقائق والقيم العاطفية، ويتحدد الرابع في غياب هذا المفهوم عن ميادين العلوم السياسية.
وينتقل لاحقا لإيجاز عدد من محددات التحرر النسوي في ضوء علاقته بالخطاب الأصولي السائد، ثم يخلص إلى أن هذا المفهوم لم يعد تعدديا وقد أصبح شموليا، كذلك يرى أن انضواء الخطاب الأصولي القومي والماركسي تحت مرجعية من نصية دينية ثابتة أدخل مفهوم التحرر النسوي في مرحلة يتعذر فيها تحرير العقل من النص.
ويستعيد الناقد الأهمية الخاصة لقصيدة نزار قباني “خبز وحشيش وقمر” باعتبارها تمثل شعرية الكشف ذات المنزع الحداثي الشامل نظرا للموقف الذي يمثله على مستوى نقض فكرة التشبث الرعوي والشعبوي مقابل المديني الصاعد والمتغير. كما يتناول موضوع الأجناس الأدبية من منظور مختلف يشير إلى الاضطراب الذي ما زال يحيط بمسألة تطور نظرية الأجناس الأدبية المعاصرة، ينتقل بعدها إلى دراسة تقنية القناع في الشعر العربي المعاصر.
ويكشف الناقد منذ البداية عن الاستخدام المبكر لهذه التقنية عند عمر أبوريشة، لكنها لم تتحول إلى ظاهرة فنية يمكن استجلاء مظاهرها ودلالاتها واستكناه دواخلها إلا مع حركة الشعر العربي المعاصر. وفي هذا السياق يحاول الإجابة عن عدد من التساؤلات التي طرحتها هذه الظاهرة على مستوى امتدادها الحضاري وآليات المثاقفة والتناص التي اقترنت بها. ويعتبر الشمعة أن الحركة التموزية هي التي أرست البداية في محاولة لاكتشاف الذات من خلال البحث عن مصادر حضارية بديلة تركّزت في تراث الهلال الخصيب وبلاد الرافدين.
كما يشير إلى أهمية استخدام هذه التقنية شعريا من خلال إلقائها أضواء جديدة على التكوين النفسي والأسطوري للذات الشعرية ومخزونها الرمزي، في الوقت الذي يتحدث فيه عن استفادة الشعراء العرب من فكرة إليوت الخاصة بالمعادل الموضوعي، ولذلك يرى أنها كانت حصيلة لعلاقتي مثاقفة وتناص مع المصادر الأنجلوسكسونية، وقد ارتبطت بفكرة القناع التراجيدي لأنها تنطوي على وعي مأساوي بالذات، لكنّها اتّسمت بالتنويع حتى جاءت ثمانينات القرن الماضي لتشكل نهاية الاستخدام لتقنية القناع في الشعرية العربية.
ويعود الناقد في أجزاء الكتاب الأخيرة إلى تناول موضوع المثاقفة وفلسفة التفكيك ورهاب المغايرة والولع بالاختلاف وخطاب شيطنة الآخر وكان يمكن أن تندرج في موضوعات الجزء الأول من الكتاب نظرا لعلاقة التداخل بين قضاياها. ففي موضوع الثقافة كوعي بالحداثة يعود إلى أطروحات إدوارد سعيد حول ثنائية الأنا والآخر كاشفا عن تأثره بفلسفة فوكو وحديثه عن نفي براءة المعرفة باعتبارها وثيقة الصلة بمفهوم السلطة.
كما يظهر أهمية كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد من خلال ما تميز به من نقد تعددي يمتح من معين أنظمة معرفية تجهد في سبر المركزية الأوروبية ودورها في صناعة الآخر. ويركز في دراسته لفلسفة التفكيك عند جاك دريدا على إظهار الدور الذي قامت به الفلسفة على مستوى الكشف عن التناقضات في الفكر الغربي بدءا من ديكارت وانتهاء بوقتنا الراهن. ويكشف الشمعة عن التأثير الكبير والواسع الذي مارسته هذه الفلسفة على الفكرين الأدبي والفلسفي الحديث، وما تولد عنها من مواقف معارضة وأخرى مؤيدة داخل الثقافة الغربية.