المذنّب‭ ‬فوكوياما‬‬ يظهر‭ ‬من‭ ‬جديد‬‬‬‬

الأحد 2015/03/01

بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين بزغ في سماء الفكر الرأسمالي المنتصر نجم اسمه فوكوياما معلنا نهاية التاريخ من خلال انتصار النظام الرأسمالي حيث الديمقراطية الليبرالية بمبادئها المستندة على نظام المنافسة والملكية الخاصة وعدم تدخل الدولة ستكون النموذج الوحيد لتطور المجتمعات‭.‬‬‬

جاءت تلك النبوءة على شكل كتاب صدر في العام 1992 وهو العام الذي ظهر فيه كتابه الموسوم “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” الذي تضمن تلك المبادئ‭.‬ ثم في عام 2011 صدر الجزء الأول من دراسته الضخمة “مصادر النظام السياسي” (الذي يبدأ منذ مرحلة الشمبانزي وحتى الثورة الفرنسية ويبلغ عدد صفحات هذا الجزء 600 صفحة) وها هو الجزء الثاني من الكتاب الذي صدر عام 2014 تحت عنوان “النظام السياسي والانحطاط السياسي منذ زمن الثورة الفرنسية حتى زمن العولمة” ( دار نشر بروفايل 658 صفحة)‭.‬ هذا العمل الذي وصفه الناشر بأنه “العمل الأكثر أهمية في الفكر السياسي في الزمن الحالي”‭.‬ إنه عمل فكري يحمل شبها بالكتاب الشهير “موجز تاريخ الزمن” لهوبكنز‭.‬ فهو يضع الدروس الأساسية التي حكمت نشوء المجتمعات وتطورها منذ بداية تأسيسها حتى الزمن الحاضر انتهاء بالوصول إلى الدانمارك كناية عن الفردوس الموعود -كما سنرى-‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

يبين هذا السِّفْر الضخم مدى عمق أفكار المؤلف ويكشف عن قدراته التحليلية الهائلة التي تذكّرنا بكتاب صموئيل هنتغتون الموسوم بـ”النظام السياسي في مجتمعات متغيرة” الصادر عام 1968، ولكنه يفوقه في ربط أفكار معقّدة تمهيدا للوصول إلى نتائج باهرة‭.‬‬‬

في هذا السفر الضخم وتلك اللهجة الاحتفالية يظهر فوكوياما مكامن الخلل والانحدار في النظام الليبرالي‭.‬ فهو يدرس التطور السياسي في الغرب منذ الثورة الفرنسية حتى الزمن الحاضر محاولا اكتشاف نشوء المنظومة السياسية الحالية وتطورها‭.‬ تغيب في هذين الجزءين تلك اللهجة الاحتفالية المنتصرة في كتاب نهاية التاريخ لتحل محلها نبرة تعوزها التأكيدات السابقة عن الكفاءة المطلقة للنموذج الليبرالي، حيث ترد عبارات تشير إلى مستقبل غائم للنظام الرأسمالي المنتصر‭.‬ فهو يطرح شكوكا حول تلك التأكيدات على إمكانية الوصول إلى “الدانمارك” التي تعدّ المعادل الرمزي لجمهورية أفلاطون الفاضلة، حيث الدانمارك أقل الأنظمة الرأسمالية فسادا وأكثرها كفاءة‭.‬ أي كيف يمكن الوصول إلى نظام مزدهر و عادل ويحكم بفعالية‭.‬ فأيّ منظومة سياسية- كما يؤكد فوكوياما- تعتمد على مؤسسات تقف على ثلاث قوائم: الكفاءة الاقتصادية، قوة القانون والمساءلة السياسية‭.‬ الدولة الديمقراطية القوية في الغرب تعتمد على هذه الركائز، وليس كالصين الدولة القوية التي تشكلت فيها الدولة قبل أوروبا‭.‬ إنها قوية اقتصاديا لكن دون قوانين ومساءلة مؤسساتية‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

إدخال أنظمة في نموذج مغاير للنموذج الليبرالي الغربي يجعل الصورة التي رسمها فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ” تشوبها لطخات بسبب أن المبادئ الثلاثة في الدول الدمقراطية لا تعمل بتناسق وحتى بتضارب‭.‬ فأميركا المشغولة إلى حد الهوس بالمساءلة أنشأت منظومة معقدة أثّرت سلبا على عمل النظام، أي أن ركيزة المساءلة حينما نشأت بيروقراطية مترهلة أطلق عليها فوكوياما في الجزء الثاني المهم مصطلح “ريتروكراسي” الذي يعني أن هناك مجموعات صغيرة ولوبيات متعددة تمارس تأثيرا لا يتوافق مع حجمها وسمحت لفساد سياسي لا يؤدي إلا إلى غياب المساءلة، فالعنصر الأهم في النظام الديمقراطي الليبرالي هو إدخال خلل كبير على اقتصاديات الحجم التي تميز تفوق اقتصادات على اقتصادات أخرى، أي أن مصدر قوة أميركا بات نقطة ضعفها‭.‬ يقول البروفيسور جيرار دي غروت في تعليقه على النتائج التي توصل إليها فوكوياما إن من يذهب إلى مدينة نابولي في إيطاليا سيحذره مالك البيت من شرب الماء فيه لتعرضه للتلوث لأن المافيا قامت بدفن النفايات قرب منابع المياه، كما أنه يذكر إخفاق بلدان مهمة في إدارة الاقتصاد بكفاءة كأسبانيا واليونان التي لم تكن مؤسساتها المهمة قادرة على ممارسة إدارة كفؤة للاقتصاد ومنع التهرب الضريبي مما أوقعها في أزمة ديون‭.‬‬‬‬‬‬‬

أما في فرنسا فإن حال مترو الأنفاق الذي يعاني من الإهمال يدل على تردي خدمات الدولة‭.‬ يحدث كل ذلك على خلفية تنامي قوة اليمين‭.‬ وهذه الحقائق تجعل فوكوياما يعترف أن النظام الديمقراطي يفتقد لمنظومة كفؤة سبق له أن عدّها شرطا رئيسيا للانتصار الأبدي للنظام الرأسمالي‭.‬ “نحن نعرف شروط عمل المنظومة الفعالة و الكفؤة ولكننا نفتقدها” كما يقول فوكوياما نفسه‭.‬ وهو الحافز الذي دفع المؤلف لكتابة هذا السِّفْر أي فشل ما توقعه في كتابه السابق حين تنبأ بأن السوق والديمقراطية سيجلبان الرخاء الذي سيشكل الانتصار الأخير للبشرية، والذي سينهي مسيرة التاريخ‭.‬ لكن أحداث العقدين الأخيرين أنتجا حقائق لم تطابق توقعاته‭.‬ ففي الصين نشأ نظام سلطوي جاء بازدهار اقتصادي غير مسبوق ولكن دون نموذج ليبرالي غربي، وفشلت الديمقراطية في روسيا، وفي العراق حيث جلبت الديمقراطية نظاما هو الأكثر فسادا في العالم‭.‬ ويخلص فوكوياما إلى نتيجة واحدة مفادها أن سبب الفشل يعود إلى المؤسسات‭.‬ فالديمقراطية والسوق محكوم عليهما بالفشل إن وجدت مؤسسات فاشلة‭.‬ هكذا يخلص المؤلف إلى هذه النتيجة رغم أن الرأسمالية هي النموذج الوحيد للتطور- كما سبق له القول- فالقول إن النجاح فيه ضمان مؤكد كلام ليس فيه أيّ موثوقية ما دام ذلك رهن بتطور مؤسساته‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

يبين المؤلف في الجزء الأول أن الصراع العسكري بين الدول الأوروبية فرض تحديث المؤسسات وبالتالي تحديث النظام السياسي متمثلا في المؤسسات السياسية لمجابهة قوة الدول الأخرى‭.‬ وهو صراع توّج بمعاهدة وستفاليا‭.‬ أما بالنسبة إلى أميركا فإن الهجرات المتدفقة والمساحة الواسعة فرضتا ضرورة إقامة نظام ديمقراطي ومؤسسات كفؤة لإدارة الاقتصاد وتحديثه‭.‬ فقوة الدولة جاءت من تمازج هذين العاملين إضافة إلى عنصر المساءلة‭.‬ لكنهما قد يتحولان كما يؤكد فوكوياما إلى عامل ينخر المنظومة بدلا من أن يحقق لها القوة المستدامة‭.‬ ذلك بالظبط ما يتوقعه فوكوياما في هذا العمل، أن المنظومة التي جاءت بالرخاء قد تتحول إلى مصدر ضعف، من خلال فساد النظام الذي جلب الرخاء، أي في ظلّ غياب المساواة في توزيع الدخول وتكديس الثروة الذي يدفع بالأغنياء لاستغلال مرافق الدولة التي لم تعد تمثل مصالح الجمهور، مما يعني أن الدولة يصيبها التقصير في التعامل بكفاءة مع تحديات صعبة، مما يزيد من فقدان الثقة بمؤسساتها داخليا وخارجيا، وهي أولى بوادر الانحطاط كما يؤكد فوكوياما‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وكما كانت أميركا ملهمة لبلدان أوروبا فإن ما تعاني منه من علل سينعكس بفعل التشابك الاقتصادي على أوروبا نفسها التي بدأ نظامها المقود من بروكسل يشبه النظام الفيدرالي الأميركي‭.‬ فماذا يعني ذلك؟ يعني أن نهاية التاريخ ستحل لأن النظام المنتصر الوحيد وهو النظام الديمقراطي الغربي بات يعاني من مشاكل داخلية، وكي يتعافى منها عليه أن يبحث عن علاج غير متوفر في مصدر خارجي بل من داخله‭.‬ هكذا فإن التاريخ سينتهي ليس بصرخة منتصر بل بأنين مريض مهزوز القوى‭.‬‬‬‬‬‬‬

يجعل فوكوياما من الدانمارك معيارا لنجاح المؤسسات في الدولة‭.‬ في حين الفشل لديه نوعان: الأول دولة ذات مؤسسات لا تستجيب للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية مثال ذلك بلدان أميركا اللاتينية، كما تمثل ثورات الربيع العربي والدول الناشئة عنها النوع الثاني من الفشل‭.‬ فمصر التي هي مثال لأسوأ أنواع الفشل، فقد توهم الإخوان المسلمون أن الفوز في الانتخابات يعني الفوز بالسلطة والقوة مما أدى إلى عودة الحكم السلطوي‭.‬‬‬‬‬‬‬

يختتم المؤلف الجزء الثاني من عمله بالفصل المعنون “الانحطاط السياسي” بتحليل وكشف مصادر النخر التي تصيب المؤسسات السياسية‭.‬ فالمؤسسات التي وفرت الرخاء للمجتمع هي التي ستسبب انحطاطه إن لم تقد من قبل إدارة عادلة‭.‬ ويذكُّر فوكوياما بقول أرسطو “هدف السياسي ليس جعل الجميع يعيشون سوية، بل يعيشون سوية ولكن جيدا”‭.‬ مما يعني أن الديمقراطية هي الرخاء، لكن أحدهما لا يلزم وجود الآخر بشكل ميكانيكي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.