المرآة

الأحد 2021/08/01
لوحة: نهاد كولي

– يا رب، نجيني.. يا الله، احفظني.

صوت كالأنين، بل أشد وطئا يطرق أذني، يخلخل نومي، يجعلني أرى أطفالا عريا يحضنون بعضهم بعضا، وقد ارتجت أوصالهم، وتعرقت جلودهم، وانحصرت أبصارهم الدامعة المسودة في السماء. وأنا غير بعيد عنهم أرتجف وأبكي دون أن أعي سببا لهذا الحزن الذي يعصرني.

تدور الأرض حولي وتتوقف فجأة وقد ارتطمت بصدري قبضة لعينة.

أقفز مفزوعا في سريري، جسدي مبلل كلية، وكأن دلوا من العرق أهرق عليّ اللحظة.

الأنين الطفولي يتردد دائما على جذران حجرة نومي محدثا صريرا رهيبا، ينخزني بمخاطيفه الحديدية، فيقشعر منه كل كياني، وتنتصب شعيرات جلدي.

أنير الحجرة، أنظر إلى ساعة الحائط، إنها الثالثة صباحا بالتمام.. أتأكد من الوقت بساعة هاتفي المحمول فوق طاولة السرير.. الوقت سيان..

الأنين يزداد حدّة، أتفقد زوجتي، أراها كعادتها ملفوفة كالميت في غطائها الصيفي تغط في نومها العميق. أهم بإيقاظها لأسألها عن مصدر الصوت، غير أني أتراجع، أصغي السمع، الصوت يأتي من خارج الحجرة.

أحمل جسدي العاري المنهك بسرعة، وأخرج وقد تملكني الخوف على أولادي. أهرول في الرواق المظلم، نبضي يزداد، أفتح باب غرفتهم، أنير المصباح.. كل شيء على ما يرام. يا الله كم يستهويني النظر إليهم وهم نيام، كأني أمام ثلاثة من الملائكة المكرمين.

اتكأت على الباب وزفرت حامدا الله، غير أن الأنين الطفولي تردّد مرة أخرى. لكن هذه المرة أكثر رقة، كأنه صوت طفل كليم، لم يتجاوز الخامسة من العمر.

– اللعنة، من أين يأتي هذا الصوت؟

كرّرت المعوذتين وآية الكرسي بصوت خفيض وأنا أتفقد الحجرات الثلاث المتبقية الواحدة تلوى الأخرى دون أن أعثر على مصدر الأنين..

أعدت البحث مرة ثانية وقد بدأ نفسي ينعصر في صدري، وانتابتني كحة أوقفتني لثوان، اتجهت إلى المطبخ. فتحت دولاب السكاكين، وتسلحت بخنجر الجزارة.

 تقدمت نحو الحمام، المكان الوحيد الذي لم أدخله بعد، وكلما اقتربت زاد الصوت وضوحا وانحصارا وكأنه يدلني إليه.

توقفت عند الباب، أخذت نفسا عميقا، لملمت كل رباطة جأشي، وفتحت الباب بحذر شديد. اشعلت المصباح، نظرت في دورة المياه، ثم ولجت المرش لأصطدم بوجه ظهر بغتة أمامي، تراجعت إلى الوراء بسرعة مفزوعا، ولولا انغلاق الباب خلفي لوقعت من طولي.

أشهرت خنجري، وركزت كل انتباهي في الوجه أمامي. لم أصدق عيني أول الأمر..

يا لي المسخرة، إنه وجهي في المرآة. “تبا لك من جبان!”.. قلت معاتبا نفسي.

لملمت نفسي، وتقدمت مبتسما نحو المرآة.. إلا أن وجهي استحال في ثوان إلى وجهي يوم كنت في السابعة.. واستحال المرش إلى جدران حفرة الطبخ في دارنا القديمة. السواد والظلمة والحرارة المنبعثة من الجمر المنطفئ حديثا تحاصرني.

كل أطرافي ترتجف، أبعدت قدمي الحافية عن الجمر وأنا أحاول إخفاء نفسي بعيدا عن نور البدر المتسلل من فتحة الحفرة، وبصوت خافت كتيم سألت الله الحفظ.

جرسه الخشن كتكشيرة الذئاب يرعد الدار.

– أين هو ولد الحرام، أين يختبئ؟

– لا بد أنه في بيت الحمير.

– يا رب احفظني وأعط زوجة أبي حبة في اللسان.. قلت وأنا أسمع دقات نبضي تتسارع، محاولا في نفس الوقت لجم ارتعاش كل أوصالي..

لوحة: نهاد كولي
لوحة: نهاد كولي

 وضعت كفيّ على أذني حتى لا أسمعه وهو يقلب الأشياء بحثا عني.. عضضت لساني حتى لا يفضحني. نظرت إلى الجمرات تصفرّ وتحمرّ كلما مرت بها نسمة هواء. كانت تبدو لي كعيون ذئاب تتربص بي تحت الرماد، لتنقض عليّ حين تسنح لها الفرصة. فأغمضت جفنيّ، لأبعد الصورة المرعبة عني.

فكرت بتسليم نفسي، لكن مشهد حزام البردعة وهو يعلو وينهال على جسدي النحيف ناحتا أخاديد غائرة تتفجر دما وألما لا يطاق كبّلتني، وسمّرتني في مكاني.

أمي قبل أن يرفعها الله الى السماء، كانت تخبئني هنا، وتخرجني بعد أن يطلع الفجــــر ويبرد غضبه. لا أدري لمَ يكرهني إلى هذا الحد، كأني ربيبه أو يتيم أجبر على إعالته. أمي هي الأخرى لا تأمن غضبه، فكم من مرة أصبحت مدرجة بالكدمات.

أسررت لها وهي تحضنني في فراش موتها أني سأثأر لها، وأدفّعه ثمن ظلمه.. ثم بكيت بمرارة في حضنها البارد. بت فوق قبرها ليلة دفنها. لم ترعبني الكلاب النابحة ولا الذئاب المتربصة. كنت أقول ” لتأكلني الذئاب، وأرتاح “. لم يقلق لغيابي، ولم يبحث عنّي. عندما عدت فجرا إلى الدار لم أجده، علمت أنه بات خارجا كعادته مع الأرملة التي صارت اليوم زوجته، الكلبة. (القجحومة) الحولاء ابنة الحرام. لا أعلم ماذا كان يعجبه فيها، ربما مشيتها الراقصة الخليعة وعينها الزرقاء العمشاء.

– أنت هنا يا بن كلب، تعال هنا.

ومدّ يده الكبيرة السمراء الخشنة نحوي، وأنا أتكوم محاولا التملص بكل ما ملكت من خفة وحيلة من قبضته. و أصيح

– والله لن أعاودها يا أبي، لن أعاودها يا أبي.

انتحبت، استجديت رحمته، وما تبقى من غريزة الرّحم. غير أن رعبي وتوسلي زادا قلبه غلظة وغضبه شدة. الذئب يمدّ نحوي مخالبه، يزمجر، يعوي، وأنا أنتحب:

– إنه الحمار، الحمار هو من سقط.

وما إن أمسك بكتفي حتى سحبني بكل قوته ممرغا ظهري العاري في الجمر، وأنا أصيح بكل قواي وأستجدي عطف زوجته الواقفة غير بعيد، لعلّ قلبها يلين فتهرول لنجدتي.

نظرت إلى أبي مسترحما، فلم أر غير وحش ضار زاده نور البدر سوادا. نظرت إليـــــه وأنا ألعن الحمار الذي وقع فتسبب في كسر الجرة، وألعن أسنان أبي المسودة وهي تنغرز في كتفي فتنهش لحمه، وتفتح كل أبوابي ليتلبسني العذاب، حتى استحال أنيني صمتا، ونظري ظلمة.

الماء البارد يلطمني، يبلل رأسي، يعيدني إلى وعيي، إلى زوجتي وهي تمسكني من إبطي لتساعدني على الوقوف مرددة المعوذات. صوتها يصلني خافتا، ثقيلا، والغشاوة تحجب الرؤية عني.

رويدا، رويدا، يتفتح بصري، لأجدني أقف عند ركن المرش بجانب الباب، وزوجتي تحاول إخراجي من حالة اللاوعي، وأطفالي حولي يحدقون فيّ، وقد ترقرق الدمع في عيونهم وارتعشت قسماتهم واصفرت.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.