المرأة والجانب الآخر للحكاية
يكثُر القول، بين الحين والآخر، إن النساء في دفاعهنّ عن قضاياهن يتمركزن بشكلٍ متطرّف حول أنفسهن، وإنهنّ ظهرن فجأة من عالم لا يمتُّ بصلة لكل ما عرفناه، وإنهن يرِدن قلب الطاولة في الوقت الذي يسير فيه العالم كما في السابق في جريانه الطبيعي. لنتوقف هنيهة على بعض المقولات المعزِّزة لتمركز الرجل حول نفسه على مدى تاريخٍ طويل قبل الخوض في الذات المعيارية والطبيعة ورؤية العالم.
“هناك مبدأ جيد خلق النظام، والنور، والرجل، ومبدأ سيئ خلق الفوضى، والظلمات، والمرأة” (فيثاغورث).
“المرأة كائن طويل الشعر قصيرة التفكير” (جان جاك روسو).
“لم تبلغ المرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة، فما هي إلا هرة، وقد تكون عصفوراً، وإذا ارتقت أصبحت بقرة” (نيتشه).
“المرأة إنسان ناقص التكوين، وكائن عرضي” (توما الإكويني).
“إن طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى، هي أن الذكر متفوق والمرأة متدنية، ما يجعل من الذكر قائداً، فيما تكون الأنثى تابعة” (أرسطو).
“المرأة كالإعلان يحقق غايته بالتكرار” (دورانت).
“المرأة كتاب مفكك الأوراق، غلافه خيرٌ منه، فلا عجب إذا فضّل الرجل قراءته ليلاً” (ألفرد ماريشال).
“إن فضل المرأة على الرجل في الطهي والتطريز، وبكاء الموتى فقط” (العقاد).
“المرأة فخ نصبته الطبيعة” (نيتشه).
“البنت تجيب العار والمعيار والعدو لباب الدار” (مثل شعبي).
“من يبحث عن امرأة طيبة وذكية وجميلة يبحث عن ثلاث نساء” (أوسكار وايلد).
“النساء يملكن حدسا رائعا، يستطعن اكتشاف كل شيء عدا ما هو بديهي” (أوسكار وايلد).
“بما يختص بطبيعة الفرد، فإن المرأة مخلوق مُعيب وجدير بالازدراء” (توما الإكويني).
يقول اليهود في صلاتهم الصباحية “الحمد للرب إلهنا وإله كل العوالم لأنه لم يخلقني امرأة”.
وعن قدرة النساء على استبدال أسمائهن بمجرد زواجهن يقول أوتو فايننجر “المرأة هي في الجوهر من دون اسم، وذلك لأنه ينقصها – بالطبيعة – الشخصية.”
“يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب” (حديث صحيح/مسلم).
“لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة” (حديث صحيح/البخاري).
إن هذا النوع من الأحكام والآراء نصادفه إلى اليوم بكثرة في العالم المكتوب والشفاهي، في كتب التاريخ والدين والفلسفة والفكر والأدب والموروث الشعبي. نصادفه في النقاشات الجيدة والرديئة، في المواجهة وفي السلام، في التفكّه وفي العداء. نسمعه بجرعاتٍ مختلفة ومتفاوتة لدرجة أن الكثيرين لا يلتفتون إلى كَمّ التطرف والتحيّز فيه. وبما أن هذه الأحكام تتكرر بشكل شبه يومي، حتى على سبيل المزاح، فقد تم تطبيعها لدرجة أن أيّ اعتراض على “طبيعيتها” المزعومة يبدو تطرفاً.
في خصوص كل ما ورد من أحكام سلبية تجاه المرأة عبر التاريخ يجب القول أولاً إن مقارنة أفكارٍ قد تبدو بديهية في عصرنا بأفكار من عصور ماضية واتخاذ موقف العداء من الأخيرة هو موقف ساذج أولاً، وغير مثمر ثانياً.
ثانياً يجب القول إن كلّ الفلسفات والأفكار والأحكام هي وليدة أزمانها وهي لا تتعدّى، مهما حاولت، أن تكون متجاوزة للعقل والأحكام الجمعية للمجتمعات التي نبتت فيها. لكن رغم ذلك فإن التحيز الجندري ضد المرأة ليس وليد جهلٍ أو قلة إدراك على الدوام بل وليد المنظومة الأبوية التي يتوجّب من خلال قراءة الماضي كشفها والاستدلال عليها. إن مناقشة هذا الميراث المتحيّز ضد المرأة والعودة إليه والبحث في أسسه وتفكيكه يُعدّ من الأمور الملحّة لفهم وضعية المرأة اليوم والتغلب على الصيغ المتطرّفة والمتحيّزة التي ما زالت تُستخدم ضدها.
نتوقف عند مقولة أوتو فايننجر التي تشرح تلك الحركة المعقدة والبسيطة لإلصاق فروضات واقع المرأة بطبيعتها. إن المرأة عاشت طويلاً حياة أقل انفتاحاً وتوازناً وحرية بكثير من الرجل، ولأنها كانت حرّة أقل، امتلكت سلطة ومقدرة أقل على فرض وجهة نظرها وتفضيلاتها، بل على العكس تبنّت وجهة نظر الرجل عنها كونها لم تشكّل بنفسها رؤية ذاتية لها ولا عبّرت عنها. وبالتالي لم تتمكّن من تجاوز المعيار الذي وضعه الرجل ﻟ”لإنسان الحق” حسب منظوره في ظل النظام الأبوي. إذا اعتبر الذكر نفسه المعيار، يمكنه ببساطة أن يقرر أنه الكامل وأنه هو الإنسان، أما الانثى فيمكن دراستها وتصنيفها بالمقارنة مع الذكر دون الالتفات لأيّ خصوصية لها لا تحتمل حتى تلك المقارنة.
حللت سيمون دو بوفوار هذه المسألة من خلال ديالكتيك “العبد والسيد” للفيلسوف هيغل. فالسيد يرى كل شيء من وجهة نظره الخاصة ويعتبرها وحدها التي تمثل “الطبيعي”. وبحسب موقعه، ينتهي الأمر بالعبد إلى اعتبار وجهة نظر السيد هي الطبيعية والحقيقية، فيتحول العبد إلى “موضوع” حتى بالنسبة إلى ذاته. وعلى نفس المنوال، بالنسبة إلى المرأة، يصبح الرجل هو المعيار وتتكيف لتنظر لنفسها، لا كما هي كـ”ذات”، بل كما ينظر الرجل لها. تُسبّب هذه الرؤية اللاذاتية للذات أساساً لاغتراب المرأة عن نفسها، فتنسى تباعاً أنها “ذات” وأن اختلافها لا يُفسّر لا كدونية ولا كتابعة، بل كاختلاف ببساطة.
من الواضح في قضية استبدال المرأة لاسمها حسب أوتو فايننجر، أن ثمة واقعا مفروضا ينقل المرأة من حال إلى حال بمجرد تغيير حالتها الاجتماعية (وهي قوانين اجتماعية فرضتها سلطة الرجل)، وتغيير الاسم هو حلقة من سلسلة طويلة أساسها اعتبار المرأة مُلكيّة وتغيير وضعيتها يتم وفقاً للمالك. وهذه الخطوة هي حلقة من سلسلة طويلة تمتد في عمق الماضي الاستعبادي للمرأة. كحلقة من سلسلة المُلكية نتذكر قضية الاغتصاب. يشير يوفال هراري صاحب كتاب “العاقل” إلى أن الاغتصاب يقع في العديد من النظم القانونية تحت بند الاعتداء على الممتلكات الشخصية وإن حصل، فإن التعويض يُقدّم في هذه الحالة للمالك وبالتالي فإن ظاهرة تزويج البنت من مغتصبها هي نوع من تعويض الضرر المُلحق بصاحب الملكية. يقول يوفال في حالات الاغتصاب قديماً “فكان يُطلب من المغتصب دفع ثمن العروس لأب المرأة أو أخيها، وحينها تصبح من ممتلكات المغتصب”.
لست أنوي هنا الخوض في حلقات السلسلة الطويلة لاستعباد المرأة ولكن طرح رؤية كيفية تحوّل الآراء حول المرأة إلى “طبائع” مزعومة لها. إذ ليست المقتضيات الاجتماعية والسياسية المتغيّرة في المجتمعات البشرية هي وحدها التي أعطت للمرأة السمات التي تُنسب إليها، بل قَلبُ وإحالة ما هو ناتج عن الواقع الاجتماعي لها أو ناتج عن الرؤية الذاتية “للسيد” لها إلى حقائق شارحة لـ”طبيعتها”.
فكل ما ورد من الآراء السابقة لم يُنظر لها كآراء شخصية أو فروضات واقعية أو محطات تاريخية أو قوانين سلطوية أو أهواء أو تجارب حياتية شخصية للرجل، بل رُبطت مباشرة بطبيعة المرأة، بجوهرها الأنثوي ذاته. إن دراسة حياة بعض المفكرين النفسية وعلاقاتهم مع النساء تفسّر ببساطة سبب تحمّلهم عليهن. وهكذا فآراء الفيلسوف شوبنهاور الذي يرى المرأة منبعاً للشرور ومثالاً للخيانة والشهوة لا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى طبيعة المرأة، بل تدلّ على تجربته الحياتية الواعية وغير الواعية، أي أن آراءه هي مرآة لحياته الشخصية المضطربة: انتحار والده وهو يافع، علاقته السيئة مع أمه، كرهه الشخصي للنساء وعلاقته المحدودة جداً بهن.
وفي كل مجال من مجالات مناقشة وضع أو حال المرأة تجد أن كل ما يخصها يُحال بتلقائية إلى طبيعتها لا إلى بنائها الثقافي وموضعها في التشكيل الهرمي للمجتمع أو لنظرة الرجل الذاتية لها. فمثلاً في الفرويدية هناك أولية الفالوس في نظرية الليبيدو، عقدة أو حسد القضيب. اعتقد فرويد أن الفتاة تنشأ وهي تحمل عقدة نقص تجاه الذكر لأنها عندما تكتشف في طفولتها المبكرة أنها لا تملك أعضاء تناسلية كالتي للصبي، تعتقد أنها مخصية، فتشعر بالغيرة منه وتتحول غيرتها هذه إلى نقص يوصم حياتها إلى أن تحاول تعويض ذلك النقص بالزواج حصراً وإنجاب الأطفال الذكور. فرويد أيضاً الذي كان ابن زمانه أكمل سلسلة طويلة من إخضاع النساء عبر وصمهن بالضعف وانعدام الثقة والهشاشة ومع أن الكثير من أطروحاته مفنّدة في الوقت المعاصر إلا أن تلك الحلقة المتحيزة ضد المرأة في علم النفس تعمل أثرها إلى اليوم.
إن الضعف والهشاشة وقلة الثقة بالنفس والرغبة بالزواج يمكن تفسيرها ببساطة شديدة من وجهة نظر الواقع الاجتماعي المفروض على المرأة. فمن وجهة نظر اجتماعية وثقافية يكون تعطيل المرأة لقرون عن ممارسة حياة حرة سوية هو ما أورث فيها تلك الهشاشة وليس مُتخيل الأعضاء التناسلية. إن الفتاة الصغيرة قد تغار من الصبي ببساطة لأنه يحصل منذ طفولته على ما لا يحق لها! لأنها قد تُمنع من اللعب مع الصبيان في الخارج، أو تضطر لارتداء فساتين تمنعها من أخذ حريتها في اللعب والركض، أو أنها ترى والدها القوي ذا عالم غني ومتعال بالنسبة إلى عالم البيت الممل والمسموم الذي تمثله الأم. وبالمختصر إن بناءها الثقافي وتربيتها المختلفة تماماً عن تربية الذكر هما اللذان يجعلانها الكائن الهش الذي هي عليه. لا يمكننا محاكمة فرويد بالتأكيد مستفيدين من التطوّرات الحديثة لكل ميادين المعرفة. لكن يمكننا أن نرى أن الموقف الأساسي من الأنثى كان واحداً، وهو معيار دونيتها مقارنة بالرجل.
وإن اعتقدنا بحق بمبدأ “الطبيعة” في تشكيلنا، مَن ذا الذي يقرر “الطبيعي” من “غير الطبيعي”؟ إنه صاحب السلطة بالتأكيد. فكما أنه يقرر ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي بالنسبة إلى العالم الذي يمتلكه، يشير بيار بورديو في كتابه “الهيمنة الذكورية” إلى أن المهيمن يمتلك “السلطة في فرض رؤيته الخاصة به عن نفسه، على أنها موضوعية وجماعية”، “ويقيّم نفسه بذلك في ذات مطلقة، لا خارج لها”. إن اعتبار الرجل نفسه “ذاتاً” يضع المرأة في صفة “الموضوع”، وكونها موضوعاً فهي لا تؤسس حتى لرؤيتها للعالم، بل تستظل بالرؤية الذكورية للرجل الذي يصنّفها كما يشاء. وفي حدود ارتباط السلطة بالرجل يبقى هذا التصنيف سارياً. فعلى سبيل المثال رأى أرسطو أن “الذكري” هو الأصل، أما “الأنثوي” فهو تشوّه وتحريفٌ له. فالأساس عند أرسطو أن يولد الطفل ذكراً، لكن إذا حصل انحراف يتشوه الجنين ويصبح أنثى (وعلى عكس اعتقاد أرسطو يثبت العلم الحديث أن كل جنين يكون أنثى في الأسابيع الأولى من الحمل، ثم يتحول إلى ذكر أو يبقى أنثى). إن آلية تشكل ذات الرجل كمعيار تعتمد على سلطته وحدها، ففي عالم اليونان القديم حيث كانت الحياة العامة حقا للرجل وحده، أصبحت السلطة أداةً لتقييم كيفي للمرأة كنقص متأصل. يقول بولان دولابار “هؤلاء الذين وضعوا القوانين ولفّقوها أعطوا جنسهم امتيازاتٍ باعتبارهم رجالاً، ثم حوّل المشرّعون هذه القوانين إلى مبادئ”.
حقيقة إن كلمات “الطبيعة” أو “الطبيعي” يُفترض أنها تحيل لثوابت موجودة فينا وفي العالم، تحيل لصفات أو مقوّمات أو إمكانيات فرضتها البيولوجيا علينا. لكن الطبيعة ليست محددة ومسوّرة بهذا الشكل، إن معظم ما يحال للطبيعة هو في مصدره ثقافيٌ أكثر من كونه بيولوجيا أو طبيعيا. إن كلمات من مثل “الطبيعة”، “الفطرة”، تقوم في معظمها على قاعدة حرمان شيء أو أشياء على كائنٍ ما، بحجة أن هذا يناقض طبيعته، أو فرض رؤية خارجية عليه بحجة أن هذه هي طبيعته. وسواءٌ هنا إن كان الحرمان ناتجا عن وعي أم عن ضرورة تاريخية واجتماعية لأن نقطة بداية التسلط الغائبة في الماضي لا يتم تناولها كل مرة بل يتم البناء عليها. والحال أن كلمتا “الطبيعي” و”اللاطبيعي” لا تقرّران أيّ شيء، والذي يقرر في كل ذلك هو الثقافة، أو كما يقول يوفال هراري “البيولوجيا تُمكّن، والثقافة تُحرّم”.
يمكننا إذاً الحديث عن “تطبيع” أو “طَبعنة” في خصوص ما يُنسب عادةً للمرأة، لا عن “طبيعة”. إنه هذا التطبيع ذاته الذي جعل الكثيرين ينحون إلى رؤية دفاع المرأة عن ذاتها كتطرف بينما كان التطرف ضدها ممارساً على الدوام جهاراً نهاراً.
إن إحالة أيّ مقولة لقائلها، لا لطبيعة الشيء موضع الفحص بالضرورة ستثمر عن هدم كامل لكل البنى الهشة عن عالمنا، ومنها رؤية العالم للنساء ورؤيتهن أنفسهن لأنفسهن. يقول بولان دولابار “يجب التشكيك بكل ما كتبه الرجال حول النساء، لأنهم خصمٌ وحَكمٌ في الوقت نفسه”.
إن تاريخ المرأة يبدأ من “الذات”، “ذاتها” كـ”معيار” لها. إنّ تعبير المرأة الحر والذاتي عن نفسها كفيلٌ بقلب الكثير من الموازين وطرح رؤية مختلفة ومتوازنة للعالم والإنسان.
تقول أريكا يونغ “قبل أن تبدأ النساء بتأليف الكتب لم يكن هناك إلا جانب واحد للقصة”. ليس على النساء إذاً سوى كتابة الجانب الآخر من القصة لتصبح مُقنعة وعادلة وجميلة وقابلة للتصديق.