المراهقة عتبة وعلامة في عالم الأدب
إلى أيّ حدّ عالجت الرواية العربيّة مرحلة المراهقة بما يعترك فيها من نقائض ومتغيّرات تنقل صاحبها من ضفّة إلى أخرى؟ كيف التقط الروائي العربي تلك الخيوط اللامرئية بين الطفولة والمراهقة؟ هل تمّ إيلاء الاهتمام المأمول لعوالم المراهقة في الأدب العربيّ أم أنّ هناك فجوات في هذا الميدان؟
هل يمكن توصيف استنكاف الروائي العربي عن التغلغل في عوالم المراهقين بنوع من التعالي على هذه الفئة العمرية التي تشكّل مستقبل المجتمع، أم أنّ ذلك نابع من رغبة في مقاربة عوالم أكثر رحابة واتّساعا، عوالم الناضجين والكبار؟ هل تكون الرواية أكثر نضجا حين تتحدّث عن قضايا كبيرة وشخصيّات ناضجة من أعمار مختلفة كبيرة؟ هل هناك رغبة عن اقتحام عالم المراهقين أم أنّ الأمر لا يصل إلى ما يمكن وصفه بالبعد أو الاستنكاف عن هذا العالم أو تجاهله؟
تبدو مرحلة المراهقة محمّلة بالتعقيدات بقدر ما توحي به من بساطة أحيانا، فالمراهق الخارج من قوقعة الطفولة يبحث عن اعتراف من قبل من هم أكبر منه سنّا، يشعر بأنّه جدير بالانتساب لمرحلة الشباب أو الرجولة، لكنّه يلقى صدّا غير مقصود، وما يمكن توصيفه من قبله بأنّه إنكار لحضوره، ما يبقيه في حيرة، ويشحن شخصيته بمزيد من القلق المتجدّد الذي يستقي ديمومته واستعاره من ممارسات المحيطين به وأفكارهم عنه.
هل المراهق طفل كبير أم هو شاب صغير؟ ألا يكون وهو في تلك المرحلة؛ التي توصف بالمحيّرة، أشبه ما يكون بمنتقل بقاربه من ضفّة الطفولة المتأخّرة إلى عتبة الفتوة والشباب؟ هل عليه أن يحرق المراحل في مسعاه للاندماج في صفوف من هم أكبر منه سنّا كي يتغلّب على مشاعر اغترابه وقلقه أم أنّ عليه التكيّف مع المنعطف الذي يمرّ به؟ هل يعي المراهق سطوة المتغيّرات التي تجتاح شخصيّته وجسده وفكره أم أنّه يقع في بحور التردّد والتخبّط والتشتّت ويفقد توازنه جرّاء مداهمة تلك المتغيّرات له؟
بعيدا عن التعريفات المدرسية التي تحاول تقييد المراهق وقولبته، فإنّ مرحلة المراهقة تنفتح على عوالم رحبة غاية في الشساعة والاتساع والعمق، وذلك عبر ذاك التداخل الطبيعي بين الطفولة والرجولة بالنسبة للفتى، وبين الطفولة والأنوثة بالنسبة للفتاة، بحيث أن كلا منهما يشعر بأنّه يقدم أوراق انتسابه واعتماده لشريحة طالما شعر بتفوّقها أو تقدّمها عليه، في حين يسكنه حنين لمرحلة يكون على أهبة توديعها والخروج من قيودها، وذلك مع ما يرافق التغيير من اختلافات ومفارقات وصدمات.
لا يخفى أنّ المراهق يعيش قلقا من ناحيتين، ينتابه شعور بالنبذ والتغريب ممّن هم أصغر منه وممّن هم أكبر، يكون حائرا في الانتماء، وباحثا عن صيغة ليبلور بها هويّته وشخصيّته، يمر بمرحلة اكتشاف للجسد، وتعرّف إلى خبايا عوالم الجنس الآخر، وقد يمرّ بمنعطفات خطيرة وينحو باتّجاهات متشدّدة، لأنّه يكون أرضا خصبة لامتصاص الأفكار وتقمّص الشخصيّات التي يعجب بها، أو يجد فيها أمانا آنيّا أو قدوة متوقّعة.
حضرت صور للمراهق في روايات لنجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، بالإضافة إلى روايات لروائيين عرب آخرين، وكانت تلك الصور بالعادة مدرجة ضمن سياقات التركيبة الاجتماعية التي يكون المراهق شخصا مهمّشا، أو غير مؤثّر كما يفترض فيها، وكان التركيز على عوالم محاذية ظلّت ميادين رئيسة للاشتغال، في حين بقي عالم المراهقة بمفارقاته الرهيبة محورا ثانويّا صغيرا مكمّلا لتلك العوالم.
لعلّ هذا الكلام يتّصف بشيء من التعميم، لكن إذا أخذنا أعمالا سيرية عربية، نجد أنّ الكاتب يكون أكثر تعبيرا عن ذاته في مرحلة المراهقة التي مرّ بها، والتي تركت آثارها العميقة على شخصيّته وفكره، ولا يتحرّج أدباء من التفصيل في سيرهم أثناء التحوّلات التي مرّوا بها، سواء بين الطفولة والمراهقة، أو بعد ذلك، يستعيدونها وهم واعون بما مرّوا به حينها، أي يمرّرون تجاربهم السابقة عبر فلتر النضج والوعي. يمكن التذكير هنا بـ»الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري، و»الجندب الحديدي»، و»هاته عاليا، هات النفير على آخره.. سيرة الصبا» للسوري سليم بركات.
وتبقى رواية «المراهق» لفيودور دوستويفسكي من أبرز الروايات التي تناولت هذه المرحلة الخطيرة من حياة الإنسان، وذلك من خلال تصوير التخبّطات التي تمرّ بها الشخصيّة والصراعات التي تعيشها في واقعها، ومحنتها في التأقلم مع أفكارها وأحلامها التي تتبدّى في تناقض مع الواقع الذي تعيشه، والذي يتسبّب لها في خيبات متتالية.
بطل الرواية؛ المراهق أركادي، يكون مسكونا بهواجس البحث عن الذات بغية تحقيقها، واستحقاق الجدارة والاعتراف في الواقع، يسعى إلى تغيير واقعه البائس وارتقاء السلّم الاجتماعي وتغيير بيئته، يفكّر بتغيير مصيره ويعيش تلك المفارقات التي تكاد تودي به في حربه المتجدّدة مع واقعه وكوابيسه وأحلامه معا.
يمضي حالما بالحب، بينما يحيا جانبا من كره الذات الذي يحجب عنه راهنه وغده أيضا، وتراه بينما يسعى إلى تعبيد طريقه إلى مستقبله يتخبّط في وحول الأوهام التي تعكّر عليه صفو أحلام يقظته، يتأرجح بين ما يبحث عنه من اعتراف وما يعيشه من اغتراب، يكون في متاهة من الحيرة تفضي به إلى فقدان التوازن وفقدان البوصلة في بحثه عن مساره الحياتي المأمول.
في الرواية الحديثة يمكن العثور على نموذج المراهق الذي يمرّ بكثير من التحوّلات الخطيرة في رواية «شارع اللصوص» للفرنسي ماتياس إينار الذي يصوّر شخصية بطله لخضر؛ المنحدر من بيئة فقيرة، يعيش مرارات النبذ في مجتمعه، يحارب في معركة حياته وحيدا في مواجهة الفجائع الكثيرة التي تتقاذفه في حله وترحاله، ويستعيد ما مرّ به من مآس في رحلته إلى عتبة الشباب.
لا يتعلّق الحديث عن عوالم المراهقين بما يمكن تسميته أو توصيفه بأدب الفتيان الذي يبدو غير مكرّس بعد في واقع الأدب العربي، ومع إمكانية العثور على بعض الأعمال الصادرة في السنوات القليلة الماضية، والتي حاولت التوجّه إلى هذه الشريحة الهامّة من المجتمع، إلّا أنّ المقاربات لا تزال قليلة بالمقارنة مع حجم هذه الشريحة في المجتمعات العربية.
لا يخفى أنّ الجوائز التي تمّ تخصيصها لأدب الفتيان شجّعت بعض الروائيين والروائيات على اقتحام غمار الكتابة للمراهقين وعنهم، إلّا أنّه لا يمكن اعتبار ما كتب حتّى الآن تيّارا أدبيا أو روائيا مكرّسا، بل يكون أقرب إلى محاولات البحث عن مفردات لتمهيد الطريق إلى هذا العالم الشاسع، المنفتح على أعماق غير محدودة.
كما لا يخفى أنّ وسائل التواصل الاجتماعي، والتطور الهائل الذي يشهده العالم في ظلّ الثورة التكنولوجيّة يفترضان تعاطيا مختلفا مع المراهق الذي يكون ابن عصره بكلّ متغيّراته المتسارعة، ولا شكّ أنّ هذه السرعة تلقي بظلالها على الأدب، وتفرض على الأدباء تحدّيات متجدّدة لإيجاد سبل لالتقاط ما يمكن من هذا العالم وتقديمه بحلل تجذب مَن يتوجّه إليهم، ولا تشعره باغترابه عنهم، أو بعده عن عالمهم.
مراهق اليوم مختلف عن مراهق الأمس، مداركه أكثر اتّساعا، معلوماته أكثر غزارة، مرونته أكبر وأيسر على التغيّر ومواكبة الجديد، مفرداته متجدّدة، ومعجمه مفتوح على التلقّف والتطويع، لذلك فمن الضرورة معايشة هذه المتغيّرات حين السعي لمقاربتها ومعالجتها من قبل الأدباء.
الأدب يتغذّى على التجريب والتجديد والتحدّي، ولن يعدم السبل لترويض عالم المراهقين واحتوائه في فضاءاته المفتوحة، لكنّ ذلك لن يكون من السهولة بمكان، وسيحتاج إلى دأب وإصرار ومثابرة وشغف لتحقيق الرسائل المنشودة في ردم الفجوات التي يخلّفها الزمن على الناس، أو حتّى في أعماق المرء نفسه.
جدير بالذكر أنّه في بعض الحالات تتبدّى اللغة مراوغة، إذ تجرّد بعض الكلمات من معانيها أو تقوم بتوظيفها لتؤدّي مدلولات مختلفة، من ذلك إطلاق صفة المراهقة على أساليب وسلوكيات يقوم بها بعض الأدباء الذين يفترض بهم النضج والمسؤوليّة، فيتمّ القول بأنّ هناك مراهقا في الأدب، أو يراهق في ممارساته وتصرّفاته، وذلك لتقزيمه ونسف أيّ نضج يمكن أن يكون متحلّيا به، والتشكيك في ما يقول ويفعل.