المستقطبون ألوان
السياسيون مفضوحون. يقولون شيئا، فيطاردهم المجتمع الذي يمثّلونه أو يقودونه، ويحاسبهم على ما يقولون. هذه ظاهرة صحية بالطبع، لأن السياسيين يتحملون المسؤولية وعليهم أن يكونوا محاسبين، سواء سياسيا أو أخلاقيا. السياسيون يصعدون ويسقطون من ألسنتهم مثلما يحققون مجدهم أو يتعرضون لنكبات بحكم أفعالهم.
المثقفون أكثر حصانة. يستطيعون أن يقولوا أشياء ضمن أطر فكرية معينة ليست بالضرورة ملزمة لأحد. المثقف يدلي بدلوه في الشأن العام، ويترك الآخرين يقررون أن يقتدوا بأفكاره أم لا. لكن التأثير المعنوي للمثقفين كبير ومحسوس. لا يستطيع أحد إنكار وجودهم، حتى وإن أنكر عليهم أفكارهم.
لكن في أي إطار فكري يتحرك المثقف؟ هل هو مبتدع للأفكار أم مفسر للظواهر ضمن سياقات فكرية محددة سلفا. المفكر اليساري مثلا، لا يستطيع أن يشذ عن إيمانه اليساري. ينظر لحال المجتمعات فيقترح ويكتب ضمن التفسير اليساري للأشياء. المفكر الديني يرى الدنيا بمقاييسه ولا يخرج عن التفسير الديني لظواهر دنيوية. يتمترس بالنص حماية للأفكار التي يقدمها. المفكر اليميني يقدم تفسيرات في جوانب منها ترد على منطق اليسار وفي جوانب أخرى صياغة يمينية لحركة المجتمعات. في كثير من الأحيان يقف المفكر الليبرالي بدوره حائرا أمام تقديم أفكار منفتحة لمجتمع منغلق على توجهاته من يسار ودين ويمين.
هذا يجعل الاستقطاب في التوجه والتفسير فرضية مسبقة. المثقفون لا يحاسبون مثل السياسيين، لكنهم لا يقلون خطرا عندما يتعلق الأمر بصياغة توجهات المجتمعات. ما يحققه السياسي بكلامه وفعله، قد يستطيع المثقف تحقيقه بما يكتبه ليوجه المجتمع. وفي مناخ الاستقطاب السائد حاليا، نجد أن المثقفين ليسوا بالنقاء الفكري الذي نفترضه فيهم، وهم أسوة بالسياسيين، يحملون توجهاتهم المصلحية والتي تعكس ما يريدون تحقيقه لذواتهم أو لبيئتهم التي يتحركون فيها ومن خلالها.
على قمة جبل الحصانات يتربع الصحفيون. لا هم مساءلون سياسيا، ولا هم محاسبون فكريا. يستطيع الصحفي أن يخوض في أي موضوع من دون أن يخشى المتابعة والتأنيب. ربما يبالغ البعض منهم فيذهب إلى المحاكم، أو السجن. لكن بالمقارنة مع ما يثيرونه من قضايا وما ينسبونه من أقوال أو ما يرددونه من آراء، يبدو الصحفيون في منعة مبالغ فيها وبقدرة هائلة على التقلب في المواقف من دون روادع مهنية أو أخلاقية.
خذ مثلا كتّاب أعمدة الرأي. يستطيع هؤلاء كتابة الشيء ونقيضه خلال سنة من الزمان. يؤيدون طرفا على حساب طرف آخر، ثم ينقلبون. لا أحد يحاسبهم، لأن هذا من حقهم. هم مفسرون لما يقوله الآخرون في المجتمع والسياسة والفكر. وتبعا للمرحلة، ترى كتاب أعمدة الرأي يتمايلون بين توجه وآخر.
كتّاب التحقيقات الصحفية أخطر. أمامهم المجتمع بكل تلويناته. وتبعا لاختياراتهم، يستطيعون توجيه المعلومة نحو هدفهم الخاص، الذي لا يمثل بالضرورة الحقيقة. يستطيع كاتب التحقيق الصحفي أن ينتقي المتحدثين الذي يدعمون وجهة نظره وينقل عنهم ثم يصوغ النص بدفع موجّه نحو الفكرة للوصول إلى استنتاجات قد تشكّل فكر القارئ وتوجّهاته من دون أن يحسّ. القارئ يفترض الموضوعية في الصحفي، والموضوعية ليست صفة مصاحبة للكثير من كتاب التحقيقات الصحفية. هذه الحقيقة يعرفها من يعمل بصنعة الصحافة ويعرف كيف يوجهها لصالحه.
درجة الخطورة في التوجيه تزداد مع وصول الموضوعات الصحفية إلى يد المحرر. المحرر هو مفصل أساس في عملية التوجيه والاستقطاب. يستطيع، من دون محاسبة تقريبا، وفي أغلب الأحيان من دون أن يعرف القارئ من يدير الصفحات، أن يوجه الأمور لتكون متناسبة مع ما يريد. المحرر هو صفحته في العموم، حتى مع وجود الخط التحريري لصحيفة.
في المفصل الأخير في الحصانة من المحاسبة تجلس إدارة التحرير: مدير التحرير أولا ورئيس التحرير، كبيرهم الذي علّمهم السحر. من الصعب وصف قدرات إدارة التحرير على توجيه الأمور من خلف الستار. لكنها قائدة الأوركسترا التي تستطيع أن تحول الخط التحريري للصحيفة إلى منبر سياسي أو فكري أو مؤسسة تشكيل للرأي العام. يدرك السياسيون أن الصحف هي أخطر ما يمكن أن يواجهوه من تحديات. كل كلمة محسوبة على السياسي. أيّ كلمة لا تحسب على الصحيفة، لأنها مفوّهة تنطق بحال المجتمع مهما كان ضعف مصداقية ما تقوله. كثيرون يعتبرون أن نشر أيّ خبر في صحيفة هو الحقيقة المطلقة التي لا تكذب. أغبى قرار يتخذه سياسي هو أن يدخل في مواجهة مع مؤسسة إعلامية. يستطيع أن يسبّها في يوم وهي تشنّع عليه كل يوم.
طيف المسؤولية هذا يشكل الرأي العام ويصوغه، من السياسي مرورا بالمثقف، وصولا إلى الصحفي. طيف لا ينجو من الاستقطاب. طيف ملوّن.