المعرفي لا الأيديولوجي
في الساعة الخامسة والعشرين من تاريخنا السوري مازلت أردد بشهيقي وزفيري اليومي أن ثنائية المواجهة بين الأيديولوجي والمعرفي مازالت تطوّح بنا عائمين ببلبال الأمر الواقع. هذا البلبال يجتاحني كلما فكرت في صديقي خيري الذهبي (1946 – 2022) الذي أسهمتُ في فوزه بجائزة ابن بطوطة عن كتابه “من دمشق إلى حيفا: 300 يوم في إسرائيل” الذي سجل فيه وقائع وقوعه في الأسر الإسرائيلي عندما كان عضواً في الوفد السوري للرقابة على الهدنة في مرتفعات الجولان.
لماذا أتوقف عند هذا الكتاب؟ ليس لأنه آخر ما أنجزه الفقيد فقط، وإنما لأنه يذكرني بأني كنت قبله بشهور عضواً في الوفد الانتحاري نفسه المؤلف من 12 عضواً، وإنني كلفت آنذاك بالتحقق من أن الإسرائيليين بعد حرب 1973 لم يتقدموا في جبل الشيخ أكثر مما فعلوه عند إعلان حافظ الأسد سقوط الجولان قبل أن تسقط! آنذاك أرغمني ضابط كندي برتبة نقيب يمثل الأمم المتحدة على وضع خوذة معدنية زرقاء عليها شارة الأمم المتحدة مكتفيا بوضع سدارة قطنية تحمل العلامات نفسها، لأنه حسب قوله “لا أريد أن أحمل جثتك إلى القبر”.
لدى لقائنا في الدار البيضاء، بعد عقود على آخر لقاء لنا في دمشق قبل مغادرتي في مطلع الثمانينات إلى لندن في مناسبة تسليم خيري الذهبي جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات، دار حوار بين منفيّين من الجنة السورية. لم أكن للأسف الشديد قد أتيحت لي قراءة روايات خيري، بل اطلعت على بعض دراساته وكتاباته غير الروائية، لأتوقف عند بحثه عن روائي سوري مغمور اسمه فارس زرزور. كان الأخير مؤسساً للرواية السورية شديد الفقر حد الإملاق. ولكن خيري، الذي سجل وقائع هذا الفقر غير المبرر، أثار في نفسي حوار طرفي الثنائية آنفة الذكر، ثنائية مجابهة مفترضة بين الأيديولوجيا والمعرفة.
خياري وخيار الذهبي انتصر للمعرفة على حساب الأيديولوجيا. لم نكن أيديولوجيين بل معرفيين. الأيديولوجيا كانت تعني لكل منا الاطمئنان للاستبداد، والمعرفة خوف ينتمي إلى ساحة الشعور باقتراب خطر، أو ألم محتمل.
في شهيق وزفير كل منا يتحول الخوف إلى خَواف (فوبيا). الفوبيا في جوهرها خوف غير عقلاني، شعور ملح ومستمر بخوف مقيم. الخوف حالة وجودية مسيطرة يتجاوز فيها المرء حد الألم إلى مجابهة الشرّ، مجابهة الإعصار، أو العاصفة في عينها، شاء الشهيق أم لم يشأ الزفير. ليس الخوف هنا بالنسبة إلى كلينا عصاباً أو حالة فردية أو مفردة شأن الفرد في ليبرالية بلد مفتوح على العالم، بل وضع محاصر، غَلْقَةٌ محكمة الإغلاق.
كان خيري الذهبي، منجز ما ينوف على عشرين كتاباً، والذي التحق بنا نحن المنفيين مع قيام الثورة السورية ليودع الحياة في باريس، يؤثر خوف الفوبيا على اطمئنان الأيديولوجيا. وكان كل منا عائما بلا أجنحة في ليل نسيان منفي طويل، الأول في دمشق المحتلة والثاني في لندن البعيدة.