المهجرية الجديدة

تساؤلات المصطلح والدلالة
الخميس 2020/10/01
لوحة فؤاد حمدي

يحمل التساؤل عن المهجر والمهجرية الجديدة في طياته كثيراً من الإجابات في العادة. فكل تساؤل عن المهجرية يعيد التراتب الجيلي لأدباء المهجر في تدفقهم المتتابع عبر السنوات. وهو ما يشكّل أبرز ملامح  الظاهرة المهجرية العربية في مجال الأدب.

لا بد أولاً من تقليب وجوه المصطلح الممكنة: فالمهجر اختيار تقدم به المهاجرون من الجيل الأول أنفسهم، وإن كانت ثمة ضغوط اقتصادية وأمنية تحكمت في اختيارهم. وقد أتاحت الظروف التي أحاطت بهم في المهجر أن يلتمّوا في تجمعات تعكس التشارك الأسلوبي والموضوعي. وهو ما نراه في كثير من كتاباتهم. وقد ظلت لهم صلات بأوطانهم، وعاد بعضهم إليها بشكل نهائي. وكان اندماجهم الثقافي في مجتمعاتهم الجديدة ضعيفاً باستثناءات قليلة. كما يمثل الحنين للأوطان ثيمة أخرى لها مكانة موضوعية في أدبهم، كونه شعرياً في المقام الأول، ويتسع بطبيعته لمثل تلك المواجد والأشواق.

وقد ترك المهجر لمسة تجديدية تبينت في كتاباتهم، ووصل أثرها إلى المشرق. ومثال ذلك كتاب ميخائيل نعيمة “الغربال” الذي تحمس له العقاد في فترة مشاركته في تصدر جماعة “الديوان”، والهجوم الحاد على تقليدية شوقي ومدرسته. وكذلك ما تركه نظام القصيدة المهجرية من أثر في ظهور ما عرف بالشعر الحر في الكتابة الأربعينية العراقية ثم العربية.

ويبدو أن  مصطلح “المهجر” ومفهومه أقل إيلاماً في تصوير الحالة من مصطلح “المنفى” الذي تلاه. وهو إجباري يجد المرء نفسه مرغماً على اتخاذه مقراً، وقد تداوله أدباء شردتهم السياسة في أوطانهم. ولعل عبدالوهاب البياتي هو من أشاع هذا المصطلح بديوانه المبكر “أشعار في المنفى” عام  1957 لأنه كتبه في أمكنة كانت منافيَ بالنسبة إليه.

وتشتد الدلالات السياسية التي يحملها المصطلح بارتفاع وتيرة الأحداث المدوية التي أرغمت الكثير من الكتاب والفنانين على الهروب من أوطانهم. وتظل لمصطلح “المنفى” في التلقي معاني الكفاح والبطولة بجانب المأساة التي يصورها المنفيون بفقدهم أمكنتهم في أوطانهم وابتعادهم القسري عنها. وقد اختفى من لائحة اهتمام شعراء المنافي العرب ما كان يشغل المهجريين من هجاء الأمكنة الجديدة وتصوير قسوتها. وهو ما تجلى خاصة في كتابات أمين الريحاني وقصائده..

ويظل الشعر هو الوعاء المناسب لرصد حالة المنفى والمنفيين. وقد امتد لأجيال لاحقة، فيكتب محمود درويش قصيدته المبكرة الشهيرة “رسالة من المنفى” التي واصل فيها أدبيات المنفيين المتداولة؛ كالتساؤل عن قيمة الإنسان بلا وطن.. وعيشه غريباً أو مهاجراً، جامعاً بذلك ثلاث حالات ممكنة هي المنفى والمهجر والمغترَب، لعدم تدقيقه في المصطلح، أو لأنه لا يعنيه في برنامج نصه، وما كان يعبر عنه ظرفياً من عناء فقدان الفلسطيني وطنه، وتشرده في الأماكن المتباعدة.

ويظل المنفيّ كالمهاجر يفصل بين إقامته الجسدية والإقامة الروحية أو الـ”هنا” والـ”هناك”. يقول سركون بولص مبيناً ما يفاجئ المغترب “إذا بنا هنا نعيش، لكننا نحيا هناك” راصدا الهوة بين فِعلي العيش والحياة، كجبران الباحث رمزياً عن “نايه” في “نأيه” عن الغاب وضجيج عالمه الجديد، وأمين الريحاني الذي يصوغ الثنائية بالقول “في لبنان روحي، وفي نيويورك بدني”.

ومصطلح “المغترَب” تداوله الكتّاب تعبيراً عن إقامتهم بعيداً عن أوطانهم دون تحميل المصطلح أيّ حمولة أو دلالة سياسية، حتى في حالة الذين اضطرتهم إلى التغرّب الأنظمةُ المتعسفةُ في أوطانهم، والدكتاتوريات العسكرية وحروبها المجانية المجنونة.

ولهذا المصطلح جذور في التراث العربي، كحديث التوحيدي عن الغربة الغريبة التي تحصل في الوطن قرينة الفقر. ونصيحة أبي تمام “فاغتربْ تتجدد” وحديث المتنبي عن نفسه: تغرّبَ لا مستعظماً غير نفسه… وقبلهم نداء امرئ القيس الملخَّص بأن “كل غريب للغريب نسيبُ”. لكن الفلسفة تضيف للمصطلح تصريفاً آخر هو الاغتراب الذي يلازم الفرد لحالة نفسية وجودية تحصل من المفارقة الحاصلة بين المكان وبينه، وربما هي ذات مرجعية ثقافية تنخلق بالتأمل العميق في إشارات المكان وانعكاساتها على السلوك والتفكير.

يرى تودوروف في كتابه “نحن والآخرون” أن المنفي ذو شخصية تشبه المهاجر من حيث إقامته في بلد ليس بلده. لكنه كالمغترب يتجنب التمثل، وخلافاً للمغترب لا يبحث المنفي عن تجديد تجربته وزيادة حدّة الغربة، ولا يهتم خصوصاً بالشعب الذي يعيش بين أفراده، بل يهتم بحياته الخاصة وبشعبه. إنه غريب نهائي لا مؤقت.

ذلك التحديد النظري يفيد في حالة مقايسة الشخصيات العربية الثلاث أيضاً: المهاجر والمنفي والغريب. ويلزم أن نقترح دراسة نصية لتفوهات كل من هؤلاء الثلاثة لقياس مدى صدقية التشخيص الذي جاء به تودوروف من دراسة تاريخ الفكر الفرنسي، ومن تجربته كمهاجر ومغترب، ومنفي أيضاً بحكم هروبه إلى فرنسا من بلد خاضع للسلطة الستالينية كما يقول.

وحريّ بنا أن نضيف مصطلحاً آخر استجد بعد تفاقم الهجرة الجماعية الواسعة في العقود الأخيرة، وبفعل الحروب المتتالية في المنطقة العربية وهو مصطلح “الملجأ” الذي يستخدم للدلالة على مكان  الشخص غالباً، وهو اللاجئ الذي جاءت به أقدار وطنه هرباً من الموت في التجنيد الإجباري أو العوز والضيق، ليسكن بمساعدة إنسانية ستترك أثرها فيه. وهو كالمنفي لا يقاوم مهجره، ولا يهجوه، أو يتوقع عودته لوطنه؛ لأنه كما يعبّر بعض اللاجئين قد أحرق سفن عودته وارتضى هذه الإقامة.

ههه

وتحت هذا المصطلح وما توسع عنه من مفهوم ينضوي جيل من الكتاب والشعراء والفنانين الذين استقدمتهم برامج التوطين واللجوء الإنسانية، ورمت بهم في محيط ثقافي ومجتمعي جديد، سوف تتباين صلاتهم به، لكنهم يجتمعون في مسألة اعتباره موطناً جديداً يمنحهم الأمن والسلام المفتقدَيْن في بلدانهم. ولكنه يحمل كالمهجر والمنفى سمة الصعوبة في الاندماج به. وتبدو المسألة الثقافية وجانبها اللغوي من أكثر معضلات الاندماج الثقافي المطلوب، والتفاعل بالإفادة من الثقافة الأخرى التي اتصل بها بعض اللاجئين بالقراءة قبل وصولهم إلى منابعها. لكنهم لم يتمكنوا في الأعم من احتواء اللسان الجديد والكلام الأدبي والفني بواسطته. في حالات نادرة يقوم بعض هؤلاء بالبروز والتفوق، ولكن ليس لدرجة خلق مثال من المهجر الأول كجبران ونعيمة ولا الثاني كإدوارد سعيد. إنهم منبتّون عن الثقافة الأولى لكنهم متمسكون بصفة اللاجئ، وملتمّون حول بعضهم كجاليات سيعضد عزلتها التكتل الذي هو مظهر للعزلة، حتى في الأنشطة الثقافية والفنية، فضلاً عن تواصل التجربة بالنسبة إلى من جاء منهم بتجربته الأدبية أو الفنية قبل اللجوء.

وكالغريب يلاحظ اللاجئ المفارقة اللسانية والاجتماعية. لكن وسائط الاتصال الحديثة ستموضعه خارج محيطه الثاني الذي سيكون وطنه البديل، ولكن بالتمسك بالوطن الأول.

هنا نجد -في الشعر خاصة- تشبثاً يماثل الطبيعة التي تُمسك كائناتها بتربتها ومقاومتها للنقل أو الغرس في تربة جديدة. ستقوم الصحافة الأدبية المتخصصة ومنصات التواصل الاجتماعي ودور النشر بإعادته إلى نسغ شجرته القديمة. وهنا سيبحث في تراث وطنه مادام حاضره لا يسعفه للتشبث. سنقر في أدبيات اللجوء عودةً لأبطال أو رموز تراثية يراها الشاعر مثلاً في ماضي وطنه وحضاراته الكبرى.

في قصائد ديوانه “مرتقى الأنفاس” يؤكد أمجد ناصر شعرياً ما قاله عن غرناطة نثريا، ولكن بشطحات الصورة الشعرية وفضاء المخيلة حين يقول:

“غرناطة العربية: خفقة الروح، أغنية الزوال الخالدة، رمانة الحلم التي انخرطت حباتها المكتنزة من الحب والسماحة حبةً حبة”.

 وقد توفر الشاعر على مواد ومفردات تسمح له بملامسة الموضوع ذاتياً، فجعله موضوعه “هو”، فكانت الأندلس “أندلسه”، وزفرات الأندلسيين الأخيرة بعد ضياعها زفراته هو أيضاً.

  ويكتب الشاعر العراقي المغترب عدنان محسن من باريس التي أقام فيها مائة وعشرين رسالة شعرية لجدّه غوديا حاكم لكش السومرية في ديوانه “رسائل إلى غوديا”، ويخاطبه بكونه العراقي المتأمل ما بين يديه المضمومتين حول جسده جالساً في تمثاله في أرض بعيدة غريبة في متحف باريسي، يعاني كالشاعر في المكان ذاته مجلوبا من زمنه السحيق ومكانه الأبعد. ويريه مفارقات عصره بسخرية ويشكو له ما يعانيه.

ويذهب صلاح فائق في قصيدته “كلكامش يتطلع إلى شعبه في التلفزيون” إلى استحضار كلكامش بقناع فني محكم؛ لنرى من خلاله شعبه “مبعثراً، قتيلاً، جريحاً في أروقةِ مستشفيات، وعلى جسور” وقد نسي ماضيه، وهرب نهراه. ومن جيل ثالث من اللاجئين المغتربين نعثر على نص طويل لصلاح حسن “الخروج من أور” يسرد فيه الدمار القديم في أرض سومر، وما جرى  لشعبها من شتات، وتضغط عليه هذه الواقعة التاريخية فيخرج على زمنية نصه، ولا يلتزم بتسلسله الخطّي، وينتقل إلى سرد ما جرى لبغداد زمن الدكتاتورية في الماضي القريب، فصارت أرضها في خراب الحرب أرضاً محترقة “لشعب يتلاشى” وصارت بيوتها “قبوراً تمشي” و”شعب أور يتلاشى في المنافي” التي لا تقدم حلاًّ لأنها ليست الجنة المتخيلة.

وهذا ما يُسقِطه الشعراء خاصة على مكانهم الجديد من خسائر ماضيهم ومراراته.. كما جعلوه “مكاناً” اضطرارياً يبعدهم عن المكان الأول الذي ظل له حضوره في وعيهم. وقد شاعت لدى الجيل الوسيط من المهاجرين بدوافع شتى هجاء المكان الجديد، فيكتمل رفضهم للمكان القديم برفضهم للمكان الجديد. ويذكّرون عبر هذه الثيمة بأسلافهم المهجريين الأوائل. فمن “على جسر بروكلين” اكتشف الريحاني رغم انبهاره بالعالم الجديد أن نيويورك مدينة قاسية، رغم جمالها، لا تحفل بأحلام شعرائها، واكتشف خلف غطاء الحرية، ما أسماه “العبودية الجديدة”، معيداً ما قاله ويتمان في مقاربته الثانية للمدينة حين أعلن خيبة أمله في كتابه “آفاق ديمقراطية” عام 1871، فلم تعد نيويورك هي كما في مرحلة “أوراق العشب”، “أعظم قصيدة.. وأن عبقريتها في أناسها العاديين، وأنها خلاصة البشرية” فهو يصفها بأنها “أرض زائفة.. أدبها يمثل روح العجرفة والازدراء…. وتفوح منها رائحة اللؤم واللصوصية… وهي جسد عظيم ولكن بروح هزيلة أو بدون روح..”.

أما أدونيس فكان  يعيد لاحقاً ببلاغته ولغته المميزة هجاء ويتمان ولوركا وأمين الريحاني لنيويورك حين يكتب قصيدته “قبر من أجل نيويورك” ويصف المدينة بأنها “امرأة من القش، والسرير يتأرجح بين الفراغ والفراغ”، ويخاطبها بالقول “ثلجك يحمل الليل، ليلك يحمل الناس كالخفافيش الميتة. كل جدار فيك مقبرة، كل نهارٍ حفّار أسود، يحمل رغيفاً أسود صحناً أسود، ويخطط بها تاريخ البيت الأبيض”، مذكّراً بقول أمين الريحاني مخاطباً المدينة “نهر من الكهرباء، على ضفتيه جبال من الرخام، وغابات من الحديد. هذا جمالك”.

ومن جيل لاحق نقرأ لشاعر مهاجر هو نوري الجراح قوله عن الجمال الذي يجسده رمز الجوكندا أنه ليس إلا وليد “عرق الأكتاف المتزاحمة، من زبد القطيع المائج في الأنفاق”، ويرى في مكانه على الجزيرة -المقصود قبرص حيث أقام لفترة- “عصافير في ثنايا القرميد أشبه ما تكون بالفئران..”.

وعند ذلك لا بد من النكوص والعودة إلى المكان المهجور..

فكما

للنوافذ المحطمة ذكرياتها عن العاصفة:

سوف نتذكر

الخفقات التي سقطت من قلوبنا

ونحن نحلم بالأجنحة.

ويمكن مقارنة ذلك بوصف الريحاني لأشجار كاليفورنيا بأنها “جماد هائل لا سرّ فيه ولا معنى. هي عظيمة قديمة ولكنها ملساء بكماء عقيمة لا قصة لها ولا تاريخ. لم يعثر في ظلها نبي ولا تغزل بها شاعر.. أما شجر الأرز.. ففيه غير الظاهر من الضخامة والعظمة، فيه غير المادة…”، فقد هجا أشجار المهجر واستعاد جمال أرز لبنان، كما فعل الجراح حين تذكر خفقات قلبه وهي تسقط في حلم قديم بالأجنحة للتحليق بعيداً.

وفي قصيدة سركون بولص “حانة الكلب في شارع الملوك” يتحدث عن حانة في  شارع يرمز إلى الطريق التي سلكها كهنة المكسيك إلى أديرتهم المقدسة، فيشعر كما يقول في تقديم قصيدته  “إنه وجد سر أميركا أخيراً. حانة الكلب عل طريق الملوك! والملوك هنا يُقصد بهم ملوك الروح..، ذلك المعنى الجديد المتأرجح بين الكلبية والقداسة، بين حضارتين متضاربتين، عالمين بينهما فروقات شنيعة كلك التي بين أميركا الشمالية والجنوبية، أو بين الغرب والشرق”.

لقد كتب سركون بولص هذه القصيدة  بعد حوالي ست سنوات من إقامته في أميركا، وبالقدر الذي كان يلتقط فيه الجزئيات اليومية للمكان الأميركي، كان يوغل في روح المكان ليقرأ تعارضاته.. بين الملوكية والكلبية أي القداسة والضّعة، وحيث تجد الروح مبرراً لتوقها وأشواقها وحنينها.

وكخلاصة نقول لقد تعددت مَهاجر اليوم قارّياً، ولم يعد بالإمكان الحديث عن مناخ جنوبي وآخر شمالي، فالمهاجرون الجدد وصلوا إلى دول آسيوية قصيّة وأخرى أفريقية.. ولكن الجديد في الحالة المعاصرة هو التواصل الشديد الذي منحته وسائط الاتصال بالأوطان وثقافاتها. وأعني بذلك حضور المهاجرين أنشطة بلدانهم وجوارها، ومساهمتهم عبر الصحافة العربية ودور النشر في الخارج. وقد كان لذلك انعكاسان رئيسان في كتابة الخارج، فقد خفَّ عامل الحنين العاطفي السطحي المبالغ فيه من جهة، وعاد المهاجرون إلى مواقعهم في ثقافة بلدانهم. واضمحلَّت والحال هذه اشتراطات الاندماج الثقافي، وظل قليلاً عدد المثقفين المنخرطين في الخارج لغوياً وثقافيا. ولم يكتب كثير من الجيل المهاجر بعد الحروب العربية الأخيرة بلغات بلدان الهجرة؛ لأنهم لم يجدوا لذلك حاجة كبيرة. واكتفى بعضهم بترجمة أعماله لتلك اللغات. ولكن لم يظهر كما هو معروف مثقف كإدوارد سعيد مؤثر نظرياً وعملياً في ثقافة بلدان الهجرة  وسياقاتها الفكرية.

وانعدم لذلك عنصر هجاء المكان الجديد لأنه غير حاضر في برنامج المهاجر كمكان أصيل وبديل إلا جسدياً. فيما اقتربت كتابات المهاجرين من هموم مواطنيهم في الداخل، وشاركوا كتاب الداخل وفنانيه اهتماماتهم وأساليبهم.

لقد عانت الثقافة العراقية على سبيل المثال بعد حرب الخليج الأولى وما قبلها من انشطار الظاهرة الثقافية إلى داخل وخارج، وكانا يتبادلان الاتهام الشائع. الداخل متهم بالخضوع لخطاب الدكتاتورية وثقافتها والخارج متهم بالتخلي عن الوطن وثقافته. ولكن سقوط النظام السابق فتح الحدود بين الداخل والخارج. وصار للثقافة موضع واحد رغم ما استجد من ظروف فرضها الاحتلال واختلال الإدارات السياسية التي توالت على السلطة.

لا أستطيع اعتبار المهجرية الأولى مرجعاً أكيداً  للمقايسة والمقارنة واستجلاء العلاقة بين ماضي الظاهرة الجديدة وحاضرها، فأنا أعد المهجرية والمهجر والهجرة والمُهاجر ظاهرة واحدة سواء أحدثت في  الثلث الأول من القرن العشرين أو في الربع الأخير من القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. أما  التبدلات في “شكل” الصلة بمكان المهجر وروحه وضرائبه وامتيازاته، وتمثُلِها عميقا ثم التعبير عنها، فما هي إلا تجسيدات وتحققات لجدل التقليد والتجديد الذي شهده الشعر العربي كله منذ النهضة أو بدايات العصر العربي الحديث.

كما تجب الإشارة إلى أن السرد -وإن تأخر في تمثل الظاهرة المهجرية وتمثيلها بسبب طبيعة السرد المتأنية والبعيدة عن الانفعال الفوري بالحدث- فهو يقدم نماذج تصلح لاستنتاج ما يثار حول الظاهرة المهجرية من حيث موضوعاته وأساليبه وشخصياته وأحداثه ووقائعه. فقد عاد السرديون المهاجرون بأشكال الهجرة واللجوء والاغتراب إلى ماضي أوطانهم أو ربطوا بينها وبين حاضرهم، وتأملوا وقائع بلدانهم رغم طمأنينتهم الاجتماعية، ولم يقطعوا صلتهم باشتراطات السرد العربي وأحياناً تراثه القديم والأعمال الخالدة فيه؛ مثل ألف ليلة وليلة وحكايات الشطار أو الرحالة والمتصوفة وسواهم..

 ويمكن أن تشمل دراسة لاحقة نماذج كثيرة لتمثل المهجر السردي للمكان الجديد وهموم الإنسان داخله..

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.