الموتى لا يملّون الانتظار
لا أدري من أين أبدأ يا سارة!.. فأنا ميّت منذ عشر سنين. هل أخبرتكِ عندما كنتِ صغيرة بأنَّني لم أقتنع بنمط الحياة الغربية؟ هل حدّثتك عن ذلك الشيء المبهم الذي أفزع روحي وأجفلها حالما وطئت قدماي هذه البلاد الباردة، التي لا تكفّ الريح فيها عن العواء ولا المطر عن الانهمار.. لولا وجودكِ يا سارة لما بقيت فيها لحظة واحدة، بعد أن ملأتِ حياتي البائسة بأطيافكِ الملوّنة وجمالكِ وموهبتكِ في الابتسام والمرح. هل تذكرين يا سارة عندما تستيقظين صباحًا وتطلبين منّي أن أعدّ لكِ البيض بالطريقة التي تحبينها، مقليًا على الوجهين، وقدح الحليب نصف الدسم المُحلى بعسل الأكاسيا؟.. منذ وفاة أمّك لحظة ولادتكِ وأنتِ محور عالمي كلّه.. حتى صرتُ أسير فوبيا فقدانكِ المحتمل. لم أخبركِ من قبل بأنَّني راجعت طبيبًا نفسيًا فنصحني بالتعرف إلى امرأة جديدة، علّها تعيد مسار حياتي إلى صوابه، لكنّني كنت معطبًا تمامًا ولم تكن لديّ القدرة على تخيّل وجود امرأة أخرى في حياتي قد تشاطركِ حبّي وتقضي على ذكرى أمّكِ، وعندما بدأتِ تنضجين وجسدكِ يستدير وأصبحت تعانين من تلك التغيّرات البيولوجية الغريبة بالنسبة إلى فتاة في مثل سنّكِ، لم تكن لديّ الدراية عن كيفية التصرف أو النصح في مثل تلك الأمور، فلجأت لجارتنا مونيك التي صارت تتحدّث معكِ وتشرح لكِ معنى التغيّر الذي تمرين به وتشتري لكِ اللوازم الصحية الخاصّة، لكنّني لم أستطع التخلص من خوفي عليكِ وتتبعي السرّي لتحركك من دون أن تعلمين.
كنت أشعر بحرجكِ من تصرفاتي الحمقاء تلك وانزعاجكِ، وربما إحساسك بالخزي من منظري بلحيتي الشيباء ونظري الكليل وظهري المقوّس، وما زلت أتخيَّل صاحباتك حين يسألن “هل هو جدكِ أم أبوكِ؟”.
الذنب ليس ذنبي يا سارة، فطالما حلمت أمكِ بأن تنجب طفلًا لتتباهى أمام صديقاتها بأنّها امرأة كاملة، حتى عندما نصحها الأطباء بعدم الإقدام على مثل تلك المغامرة وهي على أعتاب الخمسين من العمر، قالت في سرّها، أن أكون امرأة حقيقية وأنجب، ولو مرّة واحدة، لهو أمر يستحق الموت دونه.. وهذا ما حصل، فقد رحلت من دون أن تتكحل عيناها برؤيتك، هل تدركين يا سارة كم هي ثمينة حياتكِ يا عزيزتي؟.. أنت تعيشين مرتين، مرة لكِ ومرة لها، فما زلت أراها في عينيكِ، نحولها وبياض بشرتها وأنفها الدقيق وتلك النظرة العميقة في العينين السوداوين، حتّى تلك الشامة فوق شفتكِ العليا. كل ما أرجوه يا سارة أن تعذري لهفتي عليك، فأنا موجود حولك دائمًا، أترقب خروجكِ من المدرسة حين تركبين درّاجتكِ أو تثرثرين مع أصدقائكِ، هل تذكرين حين قطع عليكِ الطريق ذلك الفتى اللاتيني بدراجته وضايقكِ حتّى كدتِ تسقطين؟ هل تذكرين كيف سقط مغميًا عليه عندما أصيب بحجر وواصلت طريقكِ بسلام؟ أنا الذي رمى ذلك الحجر يا عزيزتي، فقد كنت متداريًا في الحرش القريب لأراقبكِ. المرة الوحيدة التي أشعر فيها بالخزي يا سارة هي تلك التي وقفت فيها تحت المطر على مدى أربع ساعات أنتظر خروجكِ من المعهد لألمحكِ ولو من بعيد، عندما خارت قواي وسقطت مغميًا عليّ، فتجمع حولي الطلبة والطالبات واتّصلوا بسيارة الإسعاف التي نقلتني إلى المستشفى، عندها عذرت إنكاركِ لي عندما سألك زملاؤك “هل تعرفين ذلك العجوز الذي سقط في الوحل مغميًا عليه بسبب الإعياء”.
مرّ الآن أكثر من ثمانية عشر عامًا على رحيل والدتك، وما زالت لم تكحَّل عينيها برؤيتك يا عزيزتي، كنتِ تخافين زيارة المقابر وأنتِ صغيرة، وطالما اكتفيتُ بوضع الزهور وحيدًا على قبرها، حينها كانت تقول لي بلهفة «صفها لي يا فؤاد.. هل هي تشبهني حقًّا كما تقول؟» فأصفكِ لها. آه لو تعلمين!.. كنت أشعر بعظامها تأتلق في القبر وروحها تخفق من حولي. يا إلهي يا سارة!!.. كم تحبكِ!
«لماذا لم تزرني كل هذه المدة؟» كان لسان حالها يسأل، لكنّها سرعان ما تتحسر وتقول «دعها تتمتع بشبابها يا فؤاد.. ما لفتاة صغيرة مثلها والمقابر يا عزيزي.. لِمَ تريد أن تخمش روح البُنيَّة.. دعها تعيش حياتها بالطول والعرض.. دعها تتمتع بشبابها، فقد خذلتها حين أطلقتها إلى الدنيا وتركتها وحيدة ورحلت»، كم هو موجع كلام أمكِ يا سارة!، كلما أحاول تغيير الموضوع تعيدني إلى النقطة الأولى، لقد حاولت أن أحدّثها عن رؤيتي لكِ أمس عندما كنت تمشين مسرعة مع إحدى صديقاتكِ عبر فسحة الحديقة العامّة ولم تنتبها للرجل العجوز الذي كان يرتدي قبّعة ويفرد جريدة أمام وجهه وهو يجلس على المسطبة القريبة، لقد سمعتكِ تتحدثين مع صديقتك بالهولندية عن شاب لاتيني أخطل يتودد لك، لكن الشيء الذي لن أنساه هو كركرتكِ حين ضحكتِ، لقد أخبرتُ أمكِ بأنَّها تشبه كركرتها حين كنت أداعبها في المطبخ، النبرة نفسها وتكّسر تلك الأجراس الزجاجية الصغيرة نفسه يا عزيزتي، هل تذكرين آخر مرّة أحضرتكِ إليها؟.. كنتِ في الخامسة أو السادسة على ما أظن، حين رأيت بعض الصلبان التي تعتلي بعض القبور ورحت ترددين «Jesus» بعد أن علّموك في الحضانة شيئًا عن الصليب على ما يبدو. ماذا أفعل يا سارة؟ فحين ماتت أمكِ لم يكن لديّ المال اللازم لدفنها بطريقة لائقة، الدفن بطريقة لائقة مكلف جدًّا هنا يا عزيزتي، فلجأت إلى أصدقائها في الكنيسة القديمة ورتبوا قدّاسًا متواضعًا لسلام روحها، قبل أن يواروا جسدها الناحل القبر الصغير المنزوي قرب سياج المقبرة، حتى هي ما كانت لترغب بأن تُدفن في مقابر المسلمين يا عزيزتي، كنت أعرف رغبتها جيدًا.
مرّ الآن عشر سنين على موتي يا سارة، وما زلت أحدّث أمكِ عن جمالكِ، ونتخيَّل معًا سعادتكِ مع ميغيل، أو ميغو كما تسميه، ذلك الشاب اللاتيني الذي تزوجته ورزقت منه بابنة تشبهكِ، وما تزال أمكِ لم تفقد الأمل بزيارتكِ ذات يوم، لكن لا يهم يا عزيزتي، فنحن نعرف مشاغل الحياة، وتربية طفلتك الصغيرة وأنت وحدك في هذا العالم الموحش، بعد أن خذلناك وتركناكِ وحيدة فيه، عزاؤنا الوحيد هو أن ميغيل شاب طيّب ويحبكِ جدًّا، ربّما سيسألكِ ذات يوم عن أمكِ وأبيكِ، ربما ستحدثينه عن ذلك العجوز الذي شج رأسه بحجر، حين حاول مضايقتك وأنت تضحكين من أعماق قلبكِ على تلك الحادثة، ربّما سيدفعك الفضول ذات يوم وتسألين في الكنيسة شبه المهجورة الآن عن مكان قبرينا يا عزيزتي لتحضري طفلتك ومغيل وتضعوا باقة من الزهور، فقد جفّت وتحللت آخر باقة وضعها فاعل خير منذ أكثر من عشر سنين على قبري حين دُفنت، لكن لا يهم.. خذي وقتكِ يا عزيزتي، فنحن نحبكِ كثيرًا، كما أن الموتى لا يملّون الانتظار.