الموت في تلك الأرض
شعر بأن صدره لم يعد يتسع للزمن المرتخي والمتمدد فوقه، توجه نحو الجندي الواقف ليستفسر عن موعد الوصول، قبل أن يصل صوّب الجندي بندقيته نحوه، فتراجع الى الوراء، فتش عن حجر ليجلس حتى يرتاح من الوقوف، فقد تعب وشعر أن قدميه أصيبتا بالوهن والضعف، عدا عن اليباس الذي بدأ يدب في شرايينه، لم يجد، لمح حجراً بعيداً مدهوناً باللون الأسود، قد يكون استعمل سابقاً كحد أو كعلامة للجيش.
حمل الحجر المرمي بين الأشواك، وضعه على الأرض وزفر بألم.. ناوله الشاب الواقف إلى جانبه سيجارة، وضعها بين شفتيه، لم يشعلها، ترك لعابه يمرغ أطرافها، أحس أنها ابتلت وأصبحت تنزف بقايا دخان مطحون، بصقها، تعمد أن تكون بصقته بصوت عال، ممزوجة بغضب يعصر وجعاً في أعماقه، إنه ضعيف، لا يستطيع أن يعمل أي شيء سوى الانتظار.
نظر حوله، هل يعتذر! إنّ اعتذاره لن يكون سوى ثرثرة لملء الصمت الذي تبرز منه همهمات، وسرقة نظرات إلى الساعات التي تنبه أنها تسير وليست متوقفة.
العيون تتجه نحو جهة الشمال، من هذه الجهة ستأتي السيارة، هكذا قالوا له، نظر حوله، راقب الوجوه، وجوه متعبة، تقاسيمها تدل على سأم الانتظار، لقد جاءت بمهمة وها هي المهمة تحشر داخل الزمن الذي لا يعرف كم سيطول؟
لم يعرف صاحب الصوت، لكن قال له “أخوك وقع في جورة غميقة وأخذوه للمستشفى، احنا ما بنعرف كيف حالتو، أجا الاسعاف أخذوه، لما أخذوه كان فاقد الوعي، الله يشفيه”، وأغلق الخط.
صاحب الصوت لم يترك له المجال للسؤال، كأنه كان يحمل عبئاً على ظهره، حاول إعادة الاتصال على الرقم الذي ظهر على شاشة هاتفه النقال، وجد أن المتصل قد تعمد إخفاء رقمه، اتصل بشقيقه، هاتفه النقال يرن، لا أحد يرد! اتصل بصديق له يعمل شقيقه معه، لا أحد يرد، إنه لا يعرف أحداً، عدا هذا الصديق، شقيقه عامل باليوميه، دون عنوان ثابت، أيّ عمل يعمل، لا تستعصي عليه أيّ شغله، كان الخوف دايماً من الجيش والسجن لأنه معوش تصريح لدخول إسرائيل، لكن هذا الصوت اللي سمعوا أسا دب الخوف بقلبو.
وين بدو يروح يسأل؟ معوش تصريح يفوت إسرائيل! لم يخبر والدته، لكن والدته بإحساس الأمومة شعرت أن هناك شيئاً مزعجاً فأخذت تسأله:
– “مالك زي الحية المقطوعة رأسها.. رايح جاي.. رايح جاي..؟”.
لم يخبرها، خرج من البيت، أخذ يعدّد أسماء بعض أبناء قريته الذين يعملون في إسرائيل، أكثرهم يعملون في مناطق بعيدة عن عمل أخيه، لكن سيجرّب.
وقف أمام أحد البيوت، أطلت صاحبة البيت، سألها عن رقم هاتف زوجها لأنه يريد أن يسأله عن أخيه، نظرت إليه بتمعن وقالت: إنت أخوك اللي وقع في الجورة، هز برأسه، رددت أمامه رقم هاتف زوجها، اتصل به… رد..
أنا عرفات أخو محمود… صمت الآخر ذلك الصمت المحزم بشريط من الدموع المكبوتة.. ثم انفجر بقوة زلزال يدمر كل شيء الله يرحموا.. ويخلي أولادو…
انعقد لسانه، جف حلقه، نبت شوك مدبب في صرخته التي عجزت عن الانطلاق فحفرت في داخله متاهة لزجة تنزلق عليها آهات خافتة.
دار حول نفسه، ألقى بجسده على الأرض، وانطلقت صرخة مدوية، عالية “يا خيا” وين رحت وتركتني.
تجمع سكان الحارة، جاءت إحدى النساء بإبريق ماء وطلبت من أحد الرجال أن يسقيه، رفض أن يشرب، استند على كتف أحدهم، قام، تصاعدت الهمهمة – الواحد بروح يشتغل وروحوا على كفو – قالها أحدهم لكي يخفف من الموقف الحزين.. حاول البعض عناقه، لم يشعر بمشاعر الراحة، لأن العناق كان كجزء من مسرحية تمثل بصورة دائمة، وتذكر مشاعره حين كان يسمع عن استشهاد بعض الشباب، يغضب ويركض لحمل النعش أثناء الجنازة، كان خلال حمل الجثمان أحياناً يفكر بعمله ويقوم بعمليات حسابية كم أخذ وكم تبقى له عند المقاول! حتى أنه في إحدى الجنازات تذكر زوجته وهي بملابس النوم، لكن سرعان ما خجل وغرق في الاحمرار خوفاً من اكتشاف تفكيره الجنسي فقام وصرخ بصوت عال – يا شهيد ارتاح ارتاح احنا بنكمل كفاح -.
مشى ومشى وراءه بعض الرجال والصبية، عشرات النساء مررن من جانبه، خطوات النساء أسرع من خطوات الرجال، كان دائماً يتشاءم من رؤية مجموعة من النساء مهرولات بصمت وخطوات متعثرة لاهثة، فقد كان يدرك أن وراء هذه الهرولة هناك وفاة.
ماذا سيقول لزوجة أخيه؟ ماذا سيقول لأمه؟؟ لم يتوقع يوماً أن يقف هذا الموقف! يعرف أمه جيداً.. عندما سترى هؤلاء الناس ستعرف أن أحد أولادها قد مات. ارتاح لهذا التخيل، لا تهمه زوجة أخيه، ستلطم وتمزق ثيابها وتصرخ ثم.. لا يعرف؟ المصيبة الآن كيف سيأتون بأخيه من إسرائيل..!
ما إن وصل إلى البيت حتى وجد أهالي الحارة والحارة المجاورة في بيتهم، صرخت أمه بأعلى صوتها – عرفات وين أخوك محمود؟- اقشعر بدنه، أيقن أن أخاه مات، صوت أمه أكد أن شقيقه خلاص..! حقيقة لطمت وجهه، كأنه أفاق من غيبوبة عدم التصديق فبكى بصوت مجروح يسيل من أطرافه وجع الفراق.
في خيمة العزاء تركوه لأحزانه ودموعه التي تتسلل خفية، الشباب يقومون بالواجب، هكذا قالوا له، لكن بعد مرور عدة ساعات جاء من يقول له إن الشرطة الإسرائيلية أخذت جثة أخيه للتشريح في – أبوكبير – وبكرا يوم السبت لا يفتح أبوكبير، إن شاء الله تكون الجنازة يوم الأحد.
لم يعرف النوم وأيضاً أفراد عائلته، أمه لخصت نار الانتظار بأنها تشوي أعماقها، أمسكت بيده وطلبت منه أن يضعها على بطنها عند رحمها، قالت له:
– هون النار، من هناك طالعة ياما بدي أشوف أخوك بلكي بطفي النار…
يوم الأحد صباحاً، أبلغوه أن الجثمان سيصل الساعة العاشرة، وها هي الساعة تصل إلى الواحدة والجثمان لم يصل بعد، الجندية الواقفة أمام بوابة الحاجز تطل من بين القضبان، تضحك مع جندي يحاول مغازلتها ويمسك خصلة من شعرها، يشدها فتتأوه وتقع بين أحضانه، تقوم من بين أحضانه عندما تقف سيارة أمام الحاجز، تدلي رأسها داخل نافذة السيارة، تنظر داخلها بعيون يقظة، تطلب بطاقات الهوية، عندما تعرف أنهم يهود من المستوطنات تبتسم، تعتذر بسرعة، تفتح لهم الحاجز للانطلاق.
حاول التقدم لسؤال الجندي، أمسك الجندي بندقيته وصوبها نحوه، سأله من بعيد عن موعد وصول الجثمان، لم يرد عليه، أدار ظهره ومضى تجاه الجندية.
بعض الذين كانوا معه طلبوا أن يرجعوا للبلدة لأن عليهم كثير من الأشغال والأعمال وسيعودون عندما يصل الجثمان إلى الحاجز، فالهواتف والسيارات موجودة، دقائق وسيكونون هنا.
الذين ينتظرون معه الآن يعدون على أصابع اليد الواحدة.. لا يهم المهم أن يحضر الجثمان ويتخلص من مصيبة الانتظار.
الساعة الخامسة… قالت لهم الجندية بصوت خافت الجثمان بالطريق! شعر بفرح يتسلل إلى قلبه المشحون بالهم والحزن، رغم أن الموقف يتطلب الأسى والحيرة في كيفية مواجهة موت الأخ بعيداً عن بيته وأسرته.
أخذ يعد مربعات بوابة الحاجز الحديدية، كلما عدّها أخطأ في العد لا يعرف هل عدد المربعات خمسون أم ستون؟ اف.. لقد زهق وتعب من الانتظار القاسي.
وصل الجثمان، سيارة الإسعاف وقفت أمام الحاجز، هرع إلى السيارة مع الذين ينتظرون معه، منعهم السائق من التقدم، ترجل من السيارة وأقفلها، دخل إلى مكتب صغير، بعد لحظات خرج جندي آخر لم يره طوال الوقت وكان ممسكاً بورقة.
سأل بلغة عربية مكسرة عن أحد أقارب الميت تقدموا جميعهم قال:
– أنا بدي واخد.
تقدم شقيقه وهو يرتجف.
اليوم الجثمان راح يظل هون ممنوع يطلع من المكتب، تعالوا بكره، صرخ وحاول الاحتجاج لكن الجندي أسكته بنظراته.. تعال بكره بدنا نفتش الجثة كمان مرة!
يا خواجا واحد ميت وكان بالمشرحة شو راح تلاقوا معاه، واحد محشور بكيس بلاستيك أسود شو راح تلاقوا معاه يا عالم..
لم يهتم الجندي لاحتجاجه، أدار ظهره للصراخ المغموس بالبكاء.
في اليوم التالي ذهب لوحده، لأن جميع الأقارب والأصدقاء ذهبوا لأعمالهم.
لم ير ذلك الجندي من قبل، تقدم منه سأله عن الجثة وهل انتهوا من تفتيشها، وابتسم ابتسامة ساخرة: إن شاء الله ما وجدتوا قنابل وأحزمة ناسفة!
فأجابه الجندي باستغراب، أي جثة؟
البارحة اجت سيارة الإسعاف وفيها جثة اخوي.
لم يفهم الجندي سؤاله زم شفتيه باستخفاف وأدار ظهره.
قرر أن يذهب إلى المكتب لعل هناك من يجيب على تساؤلاته، اقترب.. قرع الباب.. لا أحد يجيب.. فتحه.. صدمته الرفوف المعلقة، ذهول ورعب وجنون يمر عبر جدران مثقلة بالجثث، رفوف عليها جثث، أخذ يصرخ أخوي.. أخوي.. جميع الجثث تشبه بعضها البعض ذات الملامح وتقاسيم الوجوه، إنه لا يستطيع معرفة ملامح شقيقه، وبينما هو يبحث بين الجثث المتشابهة الموضوعة على الرفوف، دخل عليه الجندي المناوب وأخذ يصرخ عليه بأعلى صوته:
– أخوك مش عنا.. وبعدين مين اخوك؟
– أخوي اللي مات في إسرائيل.. ومبارح أنا كنت هون وجابوا الجثة وقالولي تعال بكره حتى استلمها.
– أنا ما بعرف… انتظر بره…. وأغلق باب المكتب.
وقف لوحده، لا أحد معه، بوابة حديدية نصفها مغلق ونصفها مفتوح وسيارات تقف وتفتش ثم تدخل وسيارات تفتش ثم تخرج.
جلس على الحجر وأخذ يعد مربعات البوابة.