النظري والتطبيقي في البحث النسوي المنهجي
تتجلى أهمية هذا الكتاب في أكثر من مستوى كما توضح المترجمة هالة ذلك في مقدمتها، فهو من جهة حديث الصدور عن أهم دور النشر الأكاديمية والمتخصصة دار نشر سيج الأميركية 2007، ومن جهة أخرى يمثّل ثمرة جهود مجموعة من الباحثات والمساهمات، اللواتي تنطوي تجاربهن الشخصية على خبرات ميدانية، ما يجعل عدد المشاركين في تأليف هذا الكتاب حوالي عشرين باحثا وباحثة، لكن الجانب الآخر الهام في هذا الكتاب أنه يجمع بين النظرية والتطبيق من أجل التعرّف إلى مختلف مجالات البحث النسوي وممارساته، لكي توفر للباحثة والباحث معرفة نظرية وافية بمناهج البحث النسوي، من خلال التناول المفصل لكيفية دمج المنظور النسوي في مناهج البحث الأخرى وصولا لخلق ممارسات جديدة في مجال البحث النسوي.
ومن أجل دقة الترجمة وتقديم المعنى الوافي للأفكار توضح المترجمة الشروط التي التزمت بها انطلاقا من تخصصها في مجال هذه الدراسات، مستعينة بقاموس النظرية النسوية والمصادر النسوية الأخرى.
فلسفة الكتاب
تؤكد الباحثتان في تقديمهما للكتاب على أنه ليس من السهل تعلّم البحث النسوي من خلال الشرح المكتوب وقراءة المناهج، لأنه عملية معقّدة يتداخل فيها المعرفي بالنظري والمنهج بصورة وثيقة، وهو ما أدركتاه عندما وجدتا أن النسوية ليست كيانا واحدا، وهي متعددة الأصوات، ما استدعى تكليف بعض النسويات بكتابة بعض نصوص هذا الكتاب حول القضايا الإبستمولوجية والمنهجية وحكايات العمل الميداني، إضافة إلى تحقيق التفاعل بين مكوّنات البحث المختلفة ومحاولة فتح نافذة يطلّ منها القارئ على منظور الباحثة النسوية.
يتوزع الكتاب على ثلاثة أبواب وأحد عشر فصلا تتناول فيها الباحثات النسويات مسألة التحيّز الجنسي وبناء المعرفة النسوية، من خلال التعرّف على أوضاع حياة النساء، وعلى ما بعد البنيوية النسوية. وتحظى منهجيات البحث النسوي حيّزا مهما وكبيرا إلى جانب تطبيقات هذا البحث، لا سيما البحث الاستطلاعي النسوي. ومنذ البداية نلاحظ الفهم الواسع لمسألة النسويات انطلاقا من وعي أوسع لمفهوم النسويات، التي تشمل طبقات وأعراق وثقافات مختلفة، وتجارب متعددة.
هنا تطرح الباحثة أبيجيل بروكس وشارلين هيسي بايبر سؤالهما الهامّ ما البحث النسوي؟ لتجيبا بأنه دراسة البنى الفكرية والاجتماعية والأيديولوجيات القائمة على قهر النساء. وإدراكا من الباحثتين لتعدد التجارب والثقافات التي تنتمي إليها النساء، فهما تطالبان باستخدام مناهج متعدّدة في البحث النسوي.
امتياز النساء المعرفي
يركز البحث في مقاربته لتجارب النساء على أن هذه التجارب مع القهر تشكّل منظورا قويّا لتقييم المجتمع ووضع الحلول المطلوبة لتغييره. فالمرأة في هذه المجتمعات تعمل على تنمية وعي مزدوج لضمان البقاء وحماية نفسها، فهي إلى جانب معرفتها بأدوارها الاجتماعية المفروضة عليها تسعى إلى معرفة منظور الرجل وتوجهاته ودوافعه. وتخلص النسويات المعنيات بدراسة موقع المرأة في المجتمع إلى أن امتلاك المرأة لهذا النوع من الوعي يجعل من الممكن توليد معرفة عن العالم، ما يمنح النساء امتيازا معرفيّا.
وينتقل مصطلح ما بعد الحداثة الذي يعني عند الدارسات في هذا الكتاب موقفا معرفيّا إبستمولوجيّا من مجاله العام إلى المجال الخاص بالنسوية، كما يظهر ذلك في دراسات باحثات ما بعد الحداثة النسويات، اللواتي يؤكدن أن ما قدمته نسويات الحداثة قد فشل في الكشف عن تعقيدات علاقات القوى التي تحملها مفاهيم الجندر والهوية والجندر. لكن النقد الكبير الذي وُجّه لنسويات ما بعد الحداثة والانقسامات التي حصلت في صفوفهن لم يمنع الحديث عن تطور الفكر ما بعد الحداثي للنسوية وخلفياته.
لقد اعتمدت النسويات ما بعد الحداثيات لا سيما الفرنسيات منهن في بناء المعرفة على فكرة موت الإنسان، لأن الحداثة التي اعتمدت على تصنيفات ثنائية العقل مقابل الجسد والمرأة مقابل الرجل كشفت عن منظور للذات ساهم في تشكيل النساء باعتبارهن أدنى من الرجل. لذلك يعدّ تغيير المرأة لمفهومها عن الذات مدخلا لتحقيق أهداف النسوية، وقد ساهمت المشاركات النسويات في هذ المجال في إغناء الأدبيات النسوية بدءا من مفهوم النوع الذي قدمنه وصولا إلى النقد ما بعد الحداثي لمفهوم الذات.
التاريخ الشفاهي النسوي
يعتمد مفهوم التاريخ الشفوي على تراث طويل من الانتقال الشفاهي للمعرفة، وأداته هي التواصل والحكي، لكن روايات التاريخ الشفوي تختلف عن المقابلات الشخصية لأنها أطول وتتعمق كثيرا في الحوار الذي قد يستمر شهورا أو سنين. وتشير الباحثات الشفويات إلى كثرة استخدام هذه الوسيلة نظرا إلى أنها توفر كمية كبيرة من الناس وتشكّل وسيلة لمعرفة المسكوت عنه في حياة النساء. إن الارتباط العضوي بين التاريخ الشفوي والفكر النسوي يتجاوز معرفة النساء وحالات القهر التي يعشنها إلى طريقة تصوّر الفكر النسوي لهذه التجربة أي بين الفرد والمجتمع.
ويظهر دور الباحث أو الباحثة أثناء مقابلة التأريخ الشفوي من خلال الإنصات الفاعل الذي يستدعيه المنهج البحثي والتخلّي عن الرغبة في السيطرة على مسار الحوار، إضافة إلى الانتباه لكل ما يحيط بالحديث، ثم يكون على الباحث/ الباحثة العمل على الربط بين سيرة حياة الفرد والسياقات الثقافية والمؤسسية الأشمل بوصفها تمثل خلفية لهذه التجارب الفردية. وتنوه الدارسات أيضا إلى ضرورة انتباه الباحث/ الباحثة إلى الشكل الذي يتم به سرد المضمون، لأن الناس يتحدثون بطرق مختلفة.
مقاربات نسوية
من المناهج الأخرى التي تستخدم في البحث النسوي هناك المناهج المتداخلة التي تستخدم في دراسة واحدة، وهنا يلاحظ تفاوت أوقات جمع المادة البحثية واستخدام الإبداع والابتكار في هذا البحث. وفي هذا السياق تقدم الباحثتان ديبورا تولمان ولورا شالاكا مثالا مبتكرا لهذا النوع من البحث من خلال منظور نسوي، حاولتا فيه تقديم صورة لجنسانية الفتاة المراهقة مع الاستعانة بالعلوم الاجتماعية والتركيز على علم النفس.
وتتحدث الباحثتان عن البحث الاستطلاعي وطريقة تطبيقه عند استكشاف القضايا النسوية لكنهما قبل كل شيء تقدمان عرضا تاريخيا لهذا النوع من البحث، كما تتحدثان عن الاختلافات الموجودة بين المناهج الكيفية والكمية ومزايا كل منهما، لكن الأهم هو شرح البداية التي يجب أن يكون عليها البحث الاستطلاعي بدءا من وضع أسئلة البحث وفرضياته وحتى اختيار أساليب معينة في هذا البحث بسبب وجود أنواع مختلفة من الاستطلاعات. وفي ختام الكتاب توضح الباحثتان أن الهدف من هذا الكتاب تقديم تجربة عملية مباشرة من منظور نسوي، إضافة إلى ما يجب التفكير فيه عند اكتمال البحث.