النقد النسوي وفاعلية التجلية والتعرية
ونحن إذ نتحدث عن المرأة مؤطرة بالأنثى، ومؤنثة بجنسانية نقدية محددة، فإن ذلك مخصوص بالمرأة موضوعا مكتوبا، لكنه ليس مشروطا أن يكون فيه الكاتب امرأة حسب. بعبارة أوضح إذا كنّا نتحدث عن كاتب يمكن أن يكون رجلا أو امرأة، فإن المكتوب لا بد أن يكون امرأة تحديدا وتخصيصا كنص ذي شكل مؤنث ومضمون أنثوي.
أما إذا افترضنا أننا بصدد مكتوب نسوي وكاتب هو امرأة وليس رجلا، فإن ذلك نوع من جنسانية نقدية تستمد إطارها النظري من طروحات راديكالية نسوية أساسها النظر البيولوجي لا الثقافي، وهو ما يوسم بأنه نقد أنثوي أو أنوثي.
وهذا مما لا نوافقه رأيا، ولا نستسيغه طرحا لأنه ليس من شأننا ولا من ضمن اهتماماتنا التي وجهناها نحو نقد جنساني يقوم على رؤية ثقافية ذات إطار يتعاضد، ولا يتنافى مع التوجه النقدي الانفتاحي الذي ليس فيه إلا الحوار والتناظر والاعتراف والتقبل بلا حدود، ولا شروط أو قيود بغية عدم مصادرة الآخر/ الرجل الذي هو ليس ندّا ولا ضدا.
فليست النسوية، التي نتبنّاها ونحن مؤمنون بجدواها، تؤسلب الرجال بصفاتهم أو تحجمهم بأوصافهم كون الغاية التي نبغي تحقيقها هي وضع لبنة في صرح فلسفة نسوية عربية، وفي إطار من الانفتاح والتجلّي يهدف إلى كشف الملتبس والظفر بالمضمون.
ولعل هذه الفلسفة باتساعها وامتدادها واحتمالات صمودها أو استكانتها قد تبدو أشبه بميتا فلسفة، فليست الفحولة من السهولة التي تتمكن النسوية من غلبتها أو مصادرة منطقها في الاحتكار والقوة، كما أن الطروحات النسوية ذات المحتويات الفكرية الأنثوية لم تبلغ بعد تلك المرحلة التي تتجلّى فيها أبعاد أطرها ومديات غاياتها بوضوح كاف وبجلاء تام إلى الدرجة التي تجعل من الرجل والمرأة قطبين لمعادلة حياتية واحدة.
وليس في إثبات نقدية نسوية على المستويات الإبداعية عموما، والمستوى الأدبي تحديدا تنفيرا أو مغالبة تتقصد تمايزا نوعيا لكي تفرق، أو ثنائية فكرية تصادمية لكي تعزل، بل هي نقدية تتوحد وتتعاضد وتتكامل، والقصد هو إثبات تعادلية حياتية افترضتها منظورات الأبجدية الأولى للإنسانية وحتمية الوجود الكونية.
ونقديا، فإن المنظومة الثقافية الإبداعية العربية ما زالت متمسكة بنظرتها الفحولية ذات الاعتداد والجبروت، وهي ما فتئت تتحايل على مواكبة التطور العالمي فلسفيا ونقديا، لا سيما في ما يخص المرأة وخطابها الإبداعي المتوزع بين حقول الإبداع على اختلافها من شعر ورواية وقصة قصيرة ومسرحية، ومن دون أن تكون هذه الفحولية آبهة بحتمية إعادة الاعتبار للنسق النسوي، واقتراحه معبرا لكتابة نسائية باتجاه التدليل على وعي المرأة ووعي الآخر بها، وبما يلبي الاستجابة الحتمية باتجاه طرح أسئلة الوجود والكينونة.
وبإمكان المدارس النسوية الليبرالية منها والراديكالية والماركسية، وما بعد البنيوية، والنسوية السوداء، ونسوية العالم الثالث وغيرها أن تمدّ الناقد العربي المعاصر بوسائل أو آليات تساعده على تفحص مفاهيم النسوية، وتمكّنه من ثم إعادة توظيفها في تشخيص الأدب النسوي العربي وصولا إلى نظرية نسوية صالحة لأن تنمو في بيئة عربية، وتنتج من ثمّ طروحات نسوية تتماشى مع التجارب الأدبية العربية وتوجهاتها الكتابية.
ما تعيشه البشرية والعراق بالخصوص من إرهاب دموي أسود هو الواقع الفحولي بصورته اللامعقولة، وبإمكان كتابة النسائية أن تهشم هذا الواقع اللامعقول، وتحيله معقولا بأيدي نسوة يتكاتفن ليقلن كفى للفحولة التي ما أرتنا إلا الدماء والوحشية، وجعلت الحياة سوداوية، وقد آن الأوان لأن تستعيد البشرية بهاءها وجمالها، وتعود إلى أصولها يوم كانت المرأة هي الحاكمة، وهي الحكيمة التي تشارك الرجل، ولا تمتهنه
وعربيّا تعددت آراء الكتّاب أدباءً ونقادا إزاء الإبداع النسوي، وهي تحمل نظرا ازدواجيا، فهناك المؤيدون، وهناك المعارضون وبضمنهم الأديبات أيضا من اللائي اعتقدن أن من غير المنطقي تقسيم الإبداع إلى إبداع رجل وإبداع امرأة!
ومنهن التي ارتأت الاستعاضة عن أدب نسوي بأدب المرأة، واعتقد بعضهن الآخر أن مصطلح الأدب النسوي سينقضي بانقضاء العنف والتغييب لدور المرأة العربية في المجتمع والحياة السياسية، وانتهاء الظروف الاجتماعية التي تحيط بها، فضلا عن آراء أخرى لا مجال لذكرها. غير أن الذي يجمعها هو رابط واحد يتمثل في تناسي الحاجة الماسة إلى الدراسات الثقافية التي تسعى لإعطاء الأدب النسوي حضوره جنبا إلى جنب الأدب الذكوري.
ولا غرو أن القوانين الوضعية والدساتير الأممية في بلادنا العربية لم تضع المرأة في بالها إلا بالحدود التي استوجبتها اعتبارات مهمة وضرورية لتتعامل مع المرأة كخصوصية، لكن العمومي منها ظل مراعيا الرجل، ومن ثم عممها على المرأة، لا سيما في ما يتعلق بالعلاقات المجتمعية والحقوق والواجبات المهنية.
وإن من المفيد جدا القيام بتصحيح مسارات القوانين الحياتية التي تسير في ضوئها الحياة العربية لكي ترتقي سلالم التطور، وتواكب الإنسانية في سعيها للتقدم لعلها تغير رؤيتها الدوغمائية الراديكالية نحو المرأة.
وأهم الأولويات التي ينبغي أن تنتبه إليها قوانيننا الوضعية هي خصوصية المرأة طفلة ويافعة وشابة وناضجة وكهلة، لأن لكل مرحلة من هذه المراحل جملة معوقات وتحديات ينبغي للمجتمع أن يقرّ بجدوى التصدي لها، وتذليلها عبر سنِّ الدساتير المجتمعية والقانونية التي تحترم المرأة، وتهتم بها بمثل اهتمامها بالرجل.
ولا يغيب عنّا الدور الخطير الملقى على عاتق الكتابة النسوية، وكتابة النسوية معا في القرن الحادي والعشرين، حيث يسير العالم بتسارع مذهل، ولكنه متضاد أيضا، وهذا ما يجعل أمر التغيير والانقلاب مطواعا، وما على كتابات النسوية إلا أن يشدَّ بعضها عضد بعض، وأن يتكاتف أصحابها المؤمنون بها وصاحباتها المؤمنات بها في سبيل استعادة قيمتهن من جديد، وإلا فإن الرياح ستجري من دون أن تسير مراكبهن نحو الأمان، وقد تودي بهن نحو التكسر على جزيرة التهميش من جديد، مثلما فعلت مع أسلافهن على مرِّ العصور، فهل باستطاعة النساء لعب هذا الدور؟
أعتقد جازمة أن هذا سيظل مرهونا بالعزم والتصميم اللذين تتعاهد عليهما كتابات النسائية، وقدرتها على امتلاكهما بقوة الإرادة، والاستعداد لبذل التضحيات، مع عدم المهادنة في التنازل عن أي حق من الحقوق التي فرضها لها الوجود دينا ودنيا.
وللنساء العربيات في ذلك النصيب الأوفر والأعظم، فهن بعددهن وعدتهن وإمكانياتهن قادرات على التأثير، ومتمكّنات من حمل عبء كبير مما تقدم، ولا بد من أن يتآزرن في بلدانهن العربية موقفا واحدا، معليات أصواتهن، ومعلنات عن تطلعاتهن بلا وجل ولا كتمان، نافضات عنهن عهودا من التحجر والاحتجاب، رافعات عن أعينهن غشاوة الخوف وغمامة الوجل، منتقمات من حقب الظلم والفشل والقسوة واللامبالاة، عازمات بجدية لا متناهية على بلوغ ما يطمحن، مصممات على قهر الفحولة، لا بتحطيمها بل بجعلها مؤمنة بوجود نسائية لا بد أن تشاركها، وأن يكون لها حضورها في خارطة الحياة بكل صنوفها.
وإلى أن يأتي ذلك اليوم تظل الكتابة النسوية، ممثلة بالأدب النسوي وكتابة النسوية، مجسدة في النقد النسوي تحت طائلة الإشهارية الشعارية كمشروع لا غير، وكيافطة احتفائية لا إنجازية، وبرامجية مرجأة لا استثنائية، وكأحلام مؤجلة لا عاجلة، وبوادر طارئة لا أساسية.
وإذا ما كُتب لكل ما تقدّم أن يتحقق فإن السلام والخير سيعمّان الوجود، حيث لا احتراب استعماري ولا تصارع قوى ما بعد استعماري فيها أيضا.
ولن تغدو الحروب والنزاعات أمرا واقعا ومفروضا، بل ستضحى أمرا طارئا وقابلا للحل كأبسط ما يكون، كما لن تتكالب الدول على مصادرة بعضها بعضا ليكون الحلم المثالي قابلا للتحقق كاحتمال ليس مستحيلا بالمفهوم الأرسطي، فما بين الممكن المسموح سيحضر أيضا المتاح الكائن، وكذلك سيحضر المحال الذي يمكن أن يكون واقعا متحققا أيضا.
وما تعيشه البشرية والعراق بالخصوص من إرهاب دموي أسود هو الواقع الفحولي بصورته اللامعقولة، وبإمكان كتابة النسائية أن تهشم هذا الواقع اللامعقول، وتحيله معقولا بأيدي نسوة يتكاتفن ليقلن كفى للفحولة التي ما أرتنا إلا الدماء والوحشية، وجعلت الحياة سوداوية، وقد آن الأوان لأن تستعيد البشرية بهاءها وجمالها، وتعود إلى أصولها يوم كانت المرأة هي الحاكمة، وهي الحكيمة التي تشارك الرجل، ولا تمتهنه وتعاونه، ولا تصادره وتعتدّ به مثلما يعتدّ هو بها.
وبهذا تأتلق الحياة وتزهو، فيحلّ السلام محلّ الضغينة، وتسود المحبة وتغيب الكراهية، ويعلو صوت الحق وينخرس صوت الباطل، وتصحو الأحلام وتنام الفتن، ويشدو لحن الخلود بناي الوجود لتتطلع البشرية إلى المثال الذي به تتصالح ليسود الخير وحده.
ومن هنا، ما عاد أمام النسوية العربية إلا أن تفعل فعل الفحولة لتصنع لنفسها ذائقة مختلفة، وتؤسس لها معايير جديدة بشتى السبل الرسمية منها وغير الرسمية، وفي الوقت نفسه لا بد من إحياء التراث الأدبي النسوي العربي، وإعادة قراءته، والتركيز عليه، ونفض التهميش عنه، وبما يبدد خطر التبعية للهيمنة الذكورية.