النهضة المهدورة
مثّل إخفاق المشروع النهضوي العربي شاغلًا لدى المُفكرين العرب منذ عقود وحتى اللحظة الراهنة، بل ربما صار الأمر أكثر إلحاحًا في الوقت الراهن لاسيما مع وجود الإشكاليات ذاتها، وإخفاق الأيديولوجيات والتطلعات العربيّة ممثلة في ثوراتها في التقدُم باتجاه النهوض أو تحقيق آمالها في واقع لا يرزح تحت وطأة فِكر العصور الوسطى.
يحاول الباحث الأردني زهير توفيق في كتابه “النهضة المهدورة.. مراجعات نقدية في المشروع النهضوي العربي وبناه المعرفية”، الصادر حديثًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، أن يتناول بالشرح والتحليل أسباب إخفاق مشروع النهضة العربية وما ترتب عليه من إخفاق أحلام التحرر والتقدم، مُرجعًا ذلك إلى طبيعة الخطاب النهضوي ذاته الذي يرى أنه كان فاشلًا ومتناقضًا في ذاته وفي تعامله ورؤيته للواقع الموضوعي، وهذا التناقض هو الذي وفّر البيئة الخصبة للتدخل الخارجي والظروف العامة التي يلقي عليها الكثيرون المسؤولية كاملة.
يُحلل زهير توفيق سقطات وانحرافات الخطابات المُقدّمة من قبل النهضويين العرب لاستنطاق الغامض والموارب منها ودفعه إلى الاعتراف بتناقضه. ويرى أنه في مرحلة لاحقة شكّلت العوامل الداخلية مع الخارجية عاملاً واحدًا تمظهر بالتأخر التاريخي الشامل والتخلف، مُتعرضًا بالشرح والتحليل لعدد من التجارب النهضوية العربية لإثبات فرضيته القائمة على مسؤولية ضعف الخطاب النهضوي العربي الكاملة عن إخفاقه في تحقيق آماله.
البنية التكوينية
يرى الباحث أن المشروع النهضوي العربي أخفق منذ بداياته المبكّرة بشقيه الإسلامي والليبرالي؛ فجاء تخلف مشروع الإصلاح الإسلامي وانكساره الذي قاده الإمام محمد عبده بسبب مقاومة أقرانه له والوقوف ضد مشروعاته في الإصلاح ومنهم تلميذه محمد رشيد رضا الذي ارتد لمواقع سلفية، فضلًا عن أن الفكر انفصل عن الممارسة فلم تجد أفكار الإمام بيئة تنمو فيها لغياب الحامل الموضوعي لأفكاره مُمثّلا بالسلطة والسياسة، ومن ثم جاءت مبادرة التلميذ الداعي للردّ على تحديات التجديد والعلمنة والحداثة إلى اعتبار كل جهود الإصلاح مجرد مؤامرة صليبية لإبعاد الناس عن الإسلام. أما فيما يتعلق بالتيار الليبرالي فقد فشل في تحقيق التحديث أو اللبرلة، بعد ما حوّل الأمر إلى تغريب وتبعية نتيجة فشله في التوفيق بين التراث والمعاصرة؛ هذا الفشل الذي استغله العسكر الذين أجهزوا على التجربة وطووا صفحة المشروع النهضوي.
ويلفت الباحث إلى أن التناقض وعدم التكامل في مرجعيات البنية التكوينية للخطاب النهضوي سببٌ رئيسي في فشله إذ أنتجت الحداثة الأوروبية مشاريع متعددة ومتناقضة، وعلى الصعيد السلفي تمت استعادة الماضي بتفكيك كليته وانتقاء ما يناسب الحاضر بتناقضاته؛ فتناقض التراث مع ذاته، واندثرت بعض المشاريع الغربية منذ بداية الحداثة الفكرية ولكن بعضها تابع مسيرته المعرفية، وظلت النهضة محكومة بتناقضات الواقع الذي انبثقت عنه ومثّلت تلك التناقضات صراعًا ضد ذاتها من جهة وضد نقيضها من جهة أخرى.
يتحدث الكاتب عن تناقضات وثغرات كلٍّ من المشروع السلفي والليبرالي والسجالات الدائرة بينهما؛ فالأول مشروع تاريخي فقد تاريخيته بعد تحققه في الماضي البعيد، والثاني مشروع مستقبلي يفتقر للتاريخية فهو غير قادر على أن يجد ذاته إلا كامتداد لتاريخ الآخر، فالمشروعان متصارعان بين ذاكرة كونيّة متحققة في الماضي فقدت صيرورتها وذاكرة ذاتية لمشروع مُتخيل في المستقبل.
تحديّات راهنة
تسبّبت استعارة مفهوم النهضة ودلالته من التراث الفكري الأوروبي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ممثلّا في تلك الحقبة التي انتقلت فيها أوروبا من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة إلى اضطراب دلالة المفهوم في الإطار العربي وعدم وضوحه؛ إذ بات الاعتماد على نموذج غربي مفارق للذات والواقع وعُزل الرصيد المعرفي المتعلق بالواقع المباشر فدلّ في سياقات تاريخية معينة على إحياء التراث والماضوية بالإلحاح على معيارية التراث، وفي سياقات أخرى ما هى البعض بين الحداثة والتغريب الكامل، ولجأ آخرون إلى التوفيق كخيار أو ضرورة.
يلفت الباحث إلى أنّ المرحلة التاريخية الراهنة ألقت على كاهل المفكر النهضوي مهامًا وتحديات ترتبط بقضايا التصنيف والتقسيم المرحلي وأهمها: كيفية تسويغ عودة الفكر العربي المعاصر إلى موضوع النهضة العربية الذي طرح نفسه في أواخر القرن التاسع عشر، وكيفية تسويغ استعادة زمنها التاريخي الذي أنتج مقولاتها الكبرى بعد ولوج القرن الحادي والعشرين، فضلًا عن كيفية تسويغ استعارة العقلانية والحرية والتنوير من الغرب في ظلّ مرحلة تاريخية دخل فيها الفكر الغربي مرحلة ما بعد الحداثة وانبرى المفكّرون العرب في نقد الحداثة العربية الغائبة التي لم تتحقّق.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن المفكر النهضوي في الوقت الراهن بات مطَالبًا بالانفتاح على الفكر الغربي الحديث والمعاصر في تاريخيته وتحديد طبيعته ومستواه لصياغة نموذج إرشادي جديد يبحث في أعماق البنى المُحرّكة للمجتمع العربي، وتحديد علل التقدم والتأخر فيه، مع ضرورة طرح البدائل لتجاوز الأزمة المجتمعية الراهنة وإزاحة المرجعيات المعرفية والسياسية المسؤولة عن التأخر والتعامل مع النهضة كمشروع إرادي شامل يتعلق بإعادة بناء الدولة العربية ومجتمعها الحديث.
يستنتج توفيق أن القوى والبنى المسؤولة عن التأخر غير مستعدة إلى الآن لمغادرة المشهد العام والاعتراف بالأمر الواقع، وهو ما يدل عليه استمرار نهج الفوضى المعرفية والتفكك المنهجي وتناقض الأنساق المجتمعية وصراع الحرية والاستبداد، وهو ما يؤكد على ضرورة إيلاء العوامل الذاتية النصيب الأوفر من النقد والتحليل مع الأخذ في الاعتبار العوامل الخارجية التي استمدت فاعليتها من ضعف السلطة وفقدان النسق السياسي القدرة على فرض سيادته.
مادة التغيير
يرى الكاتب أنّ من أبرز مشاكل الخطابات النهضوية العربية تحكُّم الأيديولوجيا بالمشروع والخطاب الذي ما زال قائمًا بمعزل عن أهم عاملين مؤثّرين في تحقيق النهضة وهما مادة التغيير؛ الشعب وطبيعة النسق السياسي وما ينطوي عليه من إرادة مؤثرة في طبيعته واتجاهاته، والذي يملك القدرة على إحباط أيّ تغيير أو السير به إلى نهاياته المنطقية حال توافقه مع قيم هذا النسق السياسي.
ويشير إلى وجود اتجاه عام لدى الأيديولوجيين العرب في الفكر المعاصر يتمثل في العودة لإنشاء مشاريع تركيبية كبرى بدلًا من استئناف المراجعة النقدية للمشاريع النهضوية السابقة وهذا ما تفعله تيارات العقلانية النقدية وما بعد الحداثة التي لجأت لتفكيك الخطاب للإطاحة بمشروعية وجوده بدلًا من تطويره وتثويره، ومن ثم لم يعد في جعبة الفكر العربي ما يتجاوز واقعه التاريخي وظلّ منشغلًا بالإشكاليات ذاتها كالثنائية الضدية: التراث والحداثة التي ما تزال عصيّة على الحل.
رصيد سلبي
انطلاقًا من اعتبار مشروع الوالي محمد علي في بناء الدولة المصرية الحديثة أول مشروع حضاري عربي في العصر الحديث فقد تعرّض الباحث إلى العوائق الإبستمولوجية والتناقضات الفكرية في هذا المشروع والتي كان لها دور في تفريغه من مثاليته والكشف عن رصيده السلبي. فينطلق الباحث من فرضية فشل مشروع محمد علي النهضوي عن طريق تفكيك التجربة والنظر إلى عوامل الضعف فيها والمسكوت عنه.
ويرى توفيق أن المشروع التحديثي لمحمد علي قد تصدّع بتناقضاته الداخلية التي كشفتها المواجهة مع الغرب والتي اضطرّ على إثرها للتنازل عن كل مطالبه السياسية، ومن ثم تحوّل النظام إلى سلطة أبوية في دولة تابعة تبعية مطلقة للغرب، وكانت التناقضات الذاتية لهذا المشروع سببًا رئيسيًا في إخفاقه فعمل على التحديث بلا حداثة وأقام سلطة بلا دولة، ودولة سلطوية بلا قاعدة مجتمعية.
عمد الباحث إلى اختيار عدد من النماذج النهضوية الممثلة لخطاب النهضة، فاختار من الاتجاه السلفي جمال الدين الأفغاني، ومن الاتجاه القومي اليساري عمر فاخوري، ومن الاتجاه القومي اليميني نجيب عازوري، ومن الاتجاه الوسطي العروبي عبدالرحمن الكواكبي، عامدًا إلى رصد التناقضات في خطابهم والبحث عن ثغراته.
يرى الكاتب أنّ من أبرز مشاكل الخطابات النهضوية العربية تحكُّم الأيديولوجيا بالمشروع والخطاب الذي ما زال قائمًا بمعزل عن أهم عاملين مؤثّرين في تحقيق النهضة وهما مادة التغيير؛ الشعب وطبيعة النسق السياسي وما ينطوي عليه من إرادة مؤثرة في طبيعته واتجاهاته، والذي يملك القدرة على إحباط أيّ تغيير أو السير به إلى نهاياته المنطقية حال توافقه مع قيم هذا النسق السياسي
ويرى أن مشاريع المثقف النهضوي وتشخيصه لمشكلة التقدم والتأخر لم تكن واعدة بالنسبة إلى هدفه وزمنه التاريخي، فبقيت مقولاته مفارقة للواقع بعيدة عن الكليّة ومن ثم كان عاجزًا عن تحديد طبيعة الإشكالية أو تقدير الحلّ الملائم لها، فيما طرح مثقفون آخرون حلولاً لإشكالية تجاوزها الزمن، ومن ثم لم يعد التغريب مثلًا حلاّ مناسبًا للتأخر الذي تحوّل إلى تخلف.
اكتظت الاستراتيجيات الخطابية للمفكر النهضوي بالمشكلات؛ فإن كان هدفها الإقناع فإن المفكر النهضوي اعتمد الحجج الخطابية والمشهورة وحوّل الجهل بالآخر إلى فضيلة والتصق بالسلطة السياسية المحلية والمستعمرة التي تمنحه المكانة والأهمية، ومارس المثقف النهضوي تعاليًا على الجماهير انطلاقًا من شعوره بالتفوق عليهم، ما أنتج خطابات غارقة في التلفيق والمثالية.
يشدد الباحث في نهاية الكتاب على حاجة الخطاب النهضوي في القرن الحادي والعشرين إلى إصلاح جذري يتجاوز الخطاب السابق الذي استنفد طاقته على الاستمرار، وهذا مشروط كما يرى باعتماد نموذج إرشادي جديد يتجاوز الخطاب والأدلجة ويقطع مع الماضوية كمرجعية وهدف، وأن يكون أكثر برجماتية في القضايا الإجرائية وأقلّ تشددًا في الخيارات المبدئية.