الواقعي والشعري والفانتازي
يضيء ملف “الجديد” للقصة القصيرة في المغرب العربي على واقع التجربة السردية هناك، من خلال ست وعشرين قصة، تمثل تجارب أجيال مختلفة لكتاب وكاتبات من داخل هذا المشهد الذي تكاد معرفتنا به تنحصر في مجموعة محددة من الأسماء استطاعت أن تعبر بنتاجها إلى الضفة المشرقية من الثقافة العربية.
إن أول ما يستوقف القارئ في هذه القصص هو الاختلاف في طول وقصر هذه القصص، إضافة إلى الاختلاف في تقنيات السرد المستخدمة وعوالمه، لكن الجانب الأهم في هذا الاختلاف كان على صعيد موضوعات السرد وشواغله وفقا لجنس الكاتب/الكاتبة، أكان موضوع الحب والعلاقة مع الرجل، أو علاقة الأنثى بجسدها، هي الموضوعات المهيمنة على سرد المرأة القاصة، ولم تشذّ عن هذه الموضوعات سوى قصة واحدة لهيام الفرشيشي، تناولت فيها الكاتبة علاقات البربر التاريخية مع الاستعمار، مستخدمة فيها المشهدية السينمائية التي تتحرك فيها الكاميرا في الأمكنة المسكونة بأرواح الضحايا المعذبة. وعلى الرغم من هذا الانشغال بقضية وطنية عامة، إلا أن انشغال الكاتبة بالذات الأنثوية ومعاناتها في واقع اجتماعي يستبيح أنوثتها، ظل حاضرا أيضا في هذه القصة، من خلال الدور الذي يلعبه الشيخ في استغلال جسد الفتيات لإشباع شهواته المنفلتة من كل قيد.
ضمير السرد
هيمن السرد بضمير المتكلم المفرد على قصص الكاتبات باستثناء قصة واحدة لفدوى البشيري، ما جعل السرد القصصي يتكامل على المستوى الذاتي من حيث الموضوع وشخصية الراوي في القصة، إلى جانب ما يضفيه ذلك من حميمية على لغة السرد وهو يتجه من الراوية إلى المتلقي مباشرة. وعلى الخلاف من قصص الكاتبات جاء استخدام ضمير الغائب مهيمنا على السرد في أغلب قصص الكتاب، وهو ما يرتبط بحالة الاختلاف في موضوعات السرد وشواغله وشخصيات أبطاله.
ويأتي التوظيف المكثّف للغة الشعرية المتوترة على مستوى لغة السرد القصصي تاليا، لكن هذا الاستخدام المكثف لهذه اللغة المجازية المتوترة كان محاولة من كتاب هذه القصص للتعويض عن غياب تنامي حركة السرد وتطوره في أغلب هذه القصص، ما جعل القصة تدور في عالم من التداعيات والخواطر والمنولوج الذاتي لشخصيات أبطالها.
ويتبدّى الاختلاف بين قصص هذا الملف في العتبة السردية، حيث حافظت أغلب القصص فيها على العتبة المكانية أو الزمكانية أو وصف الشخصيات، في حين كانت القصص التي يقتحم السرد فيها حدث القصة محدودا. ويختلف المكان الذي تجري فيه أحداث القصة وتتحرك شخصياتها، إذ كان المكان الرعوي حاضرا في القصة الأولى في الملف لإبراهيم أبويه، وفي قصة عبدالرزاق بادي وقصة عبدالرزاق بوكبه، وقصة عيسى بن محمود، إضافة إلى دور المكان في تشكيل الهوية الاجتماعية لبطل القصة وعلاقة الغربة التي تنجم عن وجودها في عالم المدينة. ويلاحظ القارئ في هذه القصص أن هناك تطابقا بين المكان بفضائه الطبيعي المفتوح واللغة الشعرية، لا سيما في قصة إبراهيم أبويه التي كان السارد فيها هو بطل القصة.
تجارب ناضجة
تعد قصة أبويه التي توزّعت على ثلاث قصص حملت كل واحدة منها عنوانا خاصا من التجارب الناضجة في لغة السرد المكثفة والموحية، وتقنياتها وإن كانت موضوعاتها قد جاءت متأثرة بتجارب مشرقية معروفة، مثل قصة “الأسود” التي تتحوّل إلى حيوانات تأكل العشب، وقصة “الجسر” لمصطفى لغتيري، وقصة “الوقائع الغامضة لاختفاء المواطن أحمد بهجة”، لحسن باكور إضافة إلى قصة “الحذاء الأسود” لمبارك حسني.
وتكاد قصة الكاتب أبوبكر العيادي “شجرة الزقوم” تنفرد في موضوعها ولغتها عن قصص باقي الملف من حيث انشغالها بالواقع السياسي في تونس. تتميز بنية القصة بطابعها الرمزي وغرائبية عالمها التي تعكس غرائبية الواقع السياسي، حيث تعمل اللغة الشعرية على إكساب أحداث القصة بعدا دراميا دالا. وتتشارك مع قصة أبوبكر قصة أخرى لحميد ركاطة من حيث موضوعها الذي يحاول فيه الكاتب استعادة صورة الزعيم القارة في لا وعي بطل القصة، من خلال جملة من التداعيات يستحضرها مشهد تقبيل يد الزعيم.
ويمكن التوقف عند قصة فريدة العاطفي “لم أعد طفلة”. في هذه القصة تقارب الكاتبة موضوعا مسكوتا عنه بالنسبة إلى المرأة وعلاقتها بجسدها، في لحظة اكتمال علامات أنوثته، وما يولّده ذلك من رعب للفتاة، تعمل على الهروب منه من خلال إخفاء مظاهر أنوثته البارزة. كذلك هناك قصة عبدالهادي الفحيلي “مثل تفاحة مقضومة” استخدم فيها الكاتب تقنيات سردية مختلفة كالمنولوج والحلم في تجسيد حالة شعور البطل بالاستلاب والعطالة في واقع تنغلق فيه الواقع الاجتماعي على هزائمها ويأسها.
أسئلة السرد
إن التنوع في هذه التجارب سواء من حيث الأساليب أو القيمة السردية والجمالية يكشف عن التباين في الخبرة وحداثة التجربة، كما يدل على تنوع هذا المشهد واهتمامه بالقصة القصيرة، على الرغم من تقلص مساحة حضورها في الحياة الثقافية العربية. كذلك يمكن التوقف عند مغامرة السرد في بعض التجارب، ومحاولتها تجريب أشكال وأساليب مختلفة من السرد يمكنها أن تحقق أهداف السرد في تمثل واقع التجربة وقضاياها الوجودية والاجتماعية العامة أو الخاصة.
وبينما استطاعت أن تنهض بهذا الهدف بعض قصص الملف، فإن قصصا أخرى لم تنجح في هذه التجربة، ربما بسبب حداثة التجربة أو فتنة اللغة الشعرية أو الخضوع لهيمنة مثال محدد من تجارب السرد المعروفة. لقد شكلت قضايا الفقر والبطالة والصراع بين الريف والمدينة أهم موضوعات السرد في هذه القصص، ما جعل القصة الواقعية تميز أغلب هذه التجارب.
في هذه القصص كان الاهتمام بوصف المكان وشخصية أبطالها هو العلامة البارزة معززة في الغالب بشعرية اللغة وكثافتها الحسية. بالمقابل ثمة قصص أخرى استخدمت تقنيات وأساليب أخرى جمعت بين الفنتازيا والتغريب والرمز والحلم والمنولوج الداخلي والتقرير والغرائبية، كما في قصة “الوقائع الغامضة لاختفاء المواطن…” لحسن باكور، وقصة “مثل تفاحة مقضومة” لعبدالهادي الفحيلي، وقصة “ميت عائد من الحرب بسفرجلة” لسعيد منتسب، و”جناح لثغاء الأبجدية” لعبدالرزاق بوكبه، و”ريشة الغراب” لإسماعيل غزالي، دون أن نغفل الجانب الفني في هذه القصص وما نجم عنه من تباين في المستوى والقدرة على توظيف هذه اللغة والتقنيات في تشكيل العالم الجمالي للسرد القصصي.
إن هذا العدد الكبير من كتاب القصة يشي بأن القصة القصيرة ما زالت تشكل رهانا جماليا وسرديا مهما في المغرب العربي، وأن هذه التجربة كغيرها من تجارب القصة القصيرة العربية تنطوي على تباينات في القيمة وإن كان باديا على عدد منها تأثرها ببعض تجارب القصة الناجزة في المشرق العربي. كل هذا لا ينفي ما تحاول هذه التجارب أن تقوله أو تضيفه إلى المشهد القصصي العربي في وقت يتراجع الاهتمام الثقافي بها، الأمر الذي يدل على مثابرة القاص في المغرب العربي على إغناء تجربة القصة القصيرة عربيا، والحفاظ على قيمتها وحضورها في الفضاء الثقافي العربي، ودأب “الجديد” في الاحتفاء بالكتابة القصصية في العالم العربي.