الورقة

في حركة استكشافيّة للعالم ولقانون الجاذبيّة، رفعت الطفلة يدها الصغيرة إلى أعلى رأسها، ورمت على أرضيّة الشرفة ورقةً كانت قد كوّرتها، بعد أن رسمت فوقها خطوطا ودوائر مختلفة على شكل صورة مصغّرة لأفراد عائلتها ولقرص شمسيّ يسهر عليهم. ثمّ وقفت على عتبة الباب الزجاجي الذي يفضي إلى الشرفة، تتأمّل نتيجة أوّل اختباراتها لقوانين هذا العالم. بقيت الورقة تتدحرج إلى الأمام وإلى الخلف دونما كللٍ، تحت تأثير أولى هبّات الريح الشماليّة القادمة إلى العاصمة التونسيّة. واشتدّت الريح فحملت معها الورقة إلى وسط الشرفة أمام باب زجاجي ثان، ثمّ إلى طرفها الآخر أمام باب زجاجيّ ثالث. خطت الطفلة خطوة إلى الأمام كي تواصل مراقبة مصير ورقتها. لكنّ خطوات الأمّ كانت أسرع منها. جذبتها من يدها وجرّتها إلى الوراء وهي توبّخها، ثمّ أغلقت الباب الزجاجي بإحكام وانبرت تلوم الأب إذ لم يضع بعد حاجزا بلوريا أو بلاستيكيّا وراء قضبان الدرابزين المتوازية كما طلبت منه ذلك مرارا.

 تدحرجت الورقة فوق شرفة الطابق الأوّل أمام الأبواب الزجاجيّة الثلاثة. واشتدّت الريح، فأخذت تدور حول نفسها، ثمّ ارتفعت في الهواء متجاوزة الدرابزين، وبدأت تبتعد عن الواجهة البيضاء للبناية. لكن الرّياح انقطعت فجأة، فهوت الورقة المكوّرة أمام الباب البلوري للعمارة رقم 34 من نهج ابن خلدون وسط العاصمة، وبقيت مرميّة هناك على الأرض أمام سلّم المبنى وبلاط ردهته الشطرنجي. كانت الأرضيّة الخشنة تخدش رطوبة أسطرها، وكلّ ما حولها غريب ومختلف عمّا كان يحيط بها بين طيّات الكراس قبل خروجها إلى العالم… لكن، لماذا خرجت؟ وإلى أين؟

هبّت ريح قويّة من جديد، فرفعتها فوق تلك التساؤلات، وحلّقت بها حذو العلامة الزرقاء التي كُتب عليها اسم نهج ابن خلدون بحروف بيضاء. ثمّ دفعتها بقوّة إعصاريّة حذو السنابل المنحوتة على شرفة الطابق الأخير من عمارة موشكة على الانهيار، كان الفرنسيون قد بنوها على طراز “آرت نوفو” في نقطة التقاطع بين نهج ابن خلدون ونهج مختار التليلي. وازدادت الرّياح الغاضبة ولولة، فرمت بها فوق سطح قصر البلديّة المقابل.

تدحرجت الورقة فوقه حتّى وصلت إلى حافته المقوّسة والمشرفة على شارع قرطاج، حيث عُلِّق العلم الأحمر والأبيض. هناك، بدا المارة نملا ضجوجا متسرّعا، والسيارات صناديق صغيرة متحرّكة. كانت الورقة المكوّرة تعتلي، من موقعها، المدخل الرئيسيّ لقصر البلديّة وبابيه الجانبيّين الحديديّن. وفوق المدخل، كان يظهر طرف شرفة الطابق الأوّل حيث يخرج رئيس البلديّة أحيانا ليروّح عن نفسه من ملل الملفّات وطلبات المُسْتَجدين. وأمام الباب الكبير، كانت تمتدّ حديقة مسيّجة، يشقّها ممرّ قرمزيّ في آخره أصصُ زهورٍ تحوّلت بمرور الوقت إلى أوعية تتزاحم فيها الأعشاب الطفيلية وأعقاب السجائر والفضلات البلاستيكية. كانت هي الورقة المكوّرة والمنتزعة من كرّاس قديم والساقطة من الطابق الأوّل لعمارة متآكلة في وسط العاصمة، فوق كلّ ذلك.

بعيدا في الأفق، لاحت أمامها أشجار باسقة توحي بمساحات كبيرة وعالم واعد. إنّها ساحة برشلونة! لقد بات الهدف واضحا: يجب أن تصل إليها! سوف تتشبّث بالرياح القادمة كي تلحق بالضفّة المقابلة وتبلغ الساحة… لكن، فجأة، توقّف الحلم الأوروبي عندما بان المترو الخفيف لمدينة تونس. كان أخضرَ، متهاديًا كثعبان وهو يشقّ طريقه نحو السّاحة الإيبيريّة. لا! لن تكتفي بالوصول إلى ساحة برشلونة، بل ستصعد في المترو وتعبر المدينة مختالة كما يختال هو فوق سكّته الحديديّة. هذا هدف أكبر! هذا هدف جدير بالتحقيق! سوف تتعلّق بالرياح القادمة أيّما تعلّق، وإن حالفها الحظّ فستكون رياحا إعصاريّة تُعجِّل بحملها إليه!

لكن عندما هبّت الريح من جديد، دفعت الورقة بعنف وألقت بها عنوة على الأرض، فبقيت وسط الممرّ القرمزيّ الممتدّ أمام قصر البلديّة. ظلّت هناك يوما كاملا، ترميها أحيانا إلى الأمام قدم طفل عائد من الدرس بنشوة ومرح، ويعيدها إلى الخلف حذاء عامل أهانه مديره فتشفّى في الورقة المكوّرة التي قطعت عليه طريقه وركلها بنعله ليحيّدها عنه، ثمّ تمرّ بين عجلات عربةِ تسوّقٍ تجرجرها عجوز بدينة في عسر، قبل أن تقذفها قدمُ خمسينيّ جفّ جسده من أثر الشمس والشاي والسجائر وهو خارج من البلديّة خاوي الوفاض، يدقّ الأرض دقّا بحذائه المهترئ.

عندما حلّ الليل، هدأ الممرّ الصغير، وبرزت النجوم في القبّة السوداء، وبقيت الورقة تتدحرج على إثر هبّات الرياح الخفيفة. طال الليل ولم تجد فيه أيّ دليل على الطريق الذي ستتبعه نحو الهدف، أو أيّ مُعينٍ على بقيّة الرحلة، فتواترت التساؤلات: هل الركوب في المترو الخفيف هدف جدير بالتحقيق؟ هل ستصل إليه قبل أن تصير غبارا؟ ربّما اقتُلِعت من الكرّاس كي تعرف نهايتها تحت الأقدام في هذا الممرّ!

لمّا تمطّطت أخيرا فحمةُ الليل تاركة مكانها لبداية السحر، رجعت الخطوات رويدا رويدا ترمي بها في جميع الاتجاهات. ومع تقدّم الساعة، وجدت الورقة نفسها تتقدّم ببطء نحو شارع قرطاج الذي بدأ يمتلئ بالسيارات. غير أن الوضع انقلب رأسا على عقب في ثوان قليلة. فلقد وجدت نفسها مدفوعة بنعال متهافتة متسابقة ومختلفة، بين حذاء رياضيّ، وحذاء ذي كعب عال، وحذاء صغير أزرق وآخر أبيض. أقدام متسارعة دفعتها جميعها إلى الرصيف المقابل… حيث كوكب الشرق.

وصلت الورقة إلى نهج أمّ كلثوم وقد تفتّتت حوافّها من كثرة الدهس وعفا عليها الزمن. تهادت لبعض الوقت تحت نسيم الصباح في حلّتها الجديدة، مستعيدة تجاربها العديدة. كانت بجانبها قراطيس صغيرة ومناديل ورقيّة وأوراق لتغليف الشوكولاتة وغيرها من المأكولات المصنّعة. أوراق مختلفة لم تكن تعرف “الآرت نوفو”، ولم تعتلِ يوما قصر بلديّة، ولم تسقط من أعلاه وحيدة في ممرّ مقفر، على عكسها هي، الورقة المكوّرة التي أضحت تتقن فنّ التدحرج.

بقيت متربّصة بأقلّ هبّة من هبّات الريح. حَسْبُها نفخة صغيرة كي تتقدّم إلى حيث تريد. لن تحيد عن الهدف، المترو الخفيف. كان يعبر نهج فرحات حشاد متّجها نحو ساحة برشلونة، يتزحلق على سكّته الحديدية، مبعدا بجرسه كلّ من يعترض سبيله. ذلك ما تريد. هناك ستصل وذاك الذي ستركب.

وكـأنّما استجابت الطبيعة إليها بأكثر ممّا أرادت، إذ هبّت ريح قويّة، فارتفعت الورقة في الهواء واستدارت عدّة مرّات حول نفسها. لم يبق سوى القليل كي تصل إلى محطّة المترو. ليست بحاجة إلّا لدفعٍ صغير يمكّنها من النزول تحت المرآب الأخضر السقف الذي يحتمي به المسافرون. وأسعفتها الطبيعة ثانية، فقد هبّت تلك النفحة التي كانت تنقصها، وحلّت الورقة المكوّرة تحت المرآب الأخضر. لكنّها ما إن لامست أرضيّته حتى هجم عليها فوج مغادر لعربة المترو من النعال الكبيرة والصغيرة والمرتّقة والجديدة والسوداء والملوّنة. كانت جميعها مسرعة متلهّفة، يقفز بعضها من درج سلّم المترو فيصيب الورقة وكأنّه قد استهدفها، ويبعدها البعض عن السلّم، بينما يُدنيها البعض الآخر منه. ثمّ جاء دور النعال الصاعدة. هي أيضا، بعثرتها وضربتها جانبا. رجّتها وهزّتها فلم تتمكّن من الالتصاق بإحداها لتركب العربة.

ثمّ أطلق المترو صفيره، وأُغلِقت أبوابه بحدّة، وانطلق متهاديا، تاركا وراءه الورقة التي غدت مسطّحة، في طرف ساحة برشلونة. ابتعد بنفس السرعة التي وصل بها، ولم تتمكّن من اللحاق بالرّكب. تبدّد الحلم. انتهى. انتهى كلّ شيء الآن. وماذا بقي؟ لم يبق سوى أن تنتظر ريحا قويّة جديدة تحملها إلى حيث يجب أن تذهب، أو كهلا غاضبا من يومه في المكتب ومن حياته الرتيبة مشمئزّا من عالمه ومن السنوات التي أمضاها وهو يصارعه، ليدعسها بحنق ويرديها فتاتا. لكنّ مثل هذا الشخص أبى أن يمرّ في ذلك الصباح، وأبت مثل تلك الريح أن تهبّ.

بقيت الورقة هناك تتلاطم بين أحذية مارّة الساعة العاشرة صباحا وهم يتمشّون في رزانة وتؤدة، حتّى وصلت إلى الطرف المقابل، في نهج هولاندا. لم تستبشر بمواصلة الفسحة الأوروبيّة نظرا إلى ما آلت إليه تجربتها الإيبيريّة، ولكنّها في الحقيقة، لم تكن لتستبشر بأيّ وجهة أخرى. استسلمت للأقدار وتركت الرياح تُولّيها أينما تشتهي. ولمّا وصلت إلى رقم 10 مكرّر من نهج هولاندا، أمام واجهة زرقاء كزرقة السماء، حيث كانت أخواتها مطويّات بعناية في الكتب، معروضات في واجهة المحلّ في ترف، كانت الورقة قد تحرّرت من كلّ هدف وتخلّت عن كلّ رغبة ولم تكن قادرة حتّى على حسد مثيلاتها المطمئنّات. في حياة قادمة ربّما، بعد إعادة تدويرها، ستتصدّر هي أيضا واجهة مكتبة، وتنعم بأيدٍ محبّةٍ تضعها في النافذة، وأياد أخرى تلاطفها بينما تُقرأُ سطورها.

في تلك اللحظة، هوت عليها مكنسة بالية ورُفِعت في مجرفة إلى عربة خشبيّة مع أوراق أخرى وصناديق كرتونية وقشور برتقال وطماطم معفّنة وبقايا سندويتش. هنالك استكانت الورقة واستسلمت في انتظار مآلها الأخير. غير أن ريحا قويّة رفعتها عاليا للحظة قصيرة، فبان لها تمثال ابن خلدون وهو يحمل بين يديه كتابه المعدنيّ الذي لا تتناثر أوراقه أبدا. قد يكون من الأفضل أن تعود كورقة من أوراق هذا الكتاب. قبضت عليها في الهواء يدٌ مهزولة وأرجعتها إلى حيث كانت، ثمّ دفعت اليدُ العربة بتأنٍّ نحو الوجهة الأخيرة المعلومة.