الوصايا العشر للمثقف العربي
عودة للمثقف اليومي العربي. هو في وضع لا يحسد عليه. لم يقدّم مشروعا فكريا خاصا. المشروع الفكري – الثقافي الغربي المسقط عربيا تحرك بعيدا عن الأساسيات وصار مشاريع فكرية مفصلة على مجتمعات تزداد تعقيدا. ما عاد بوسعنا الاستعارة. المشروع الفكري الغربي صار نقيضا لواقعنا العربي. ضع صراع الأيديولوجيات جانبا لأن أيّ توافق بين الليبرالية الغربية والانغلاق الإسلاموي في منطقتنا مستحيل. السياسيون الغربيون منافقون أو متأقلمون. يقبلون الإسلاموية على علاّتها لأسباب أمنية وسياسية. المثقف الغربي ليس بصدد قبول مثل هذه المساومات.
المثقف اليومي العربي اليوم مجموعة تناقضات في شخصية واحدة. تستطيع أن تجد مثقفين عربا تنقلوا من اليسار إلى القومية إلى الإسلاموية وصولا إلى الشعبوية. هؤلاء كانوا نسخا قديمة من التأثر بالتيارات الجارية في حينها. المثقف الحالي يجمع من هذه الأفكار سوية وأكثر من هذا. يتغير اتجاه الريح، ولكنه لا يغير اتجاهه، بل يزيد على تناقضاته اتجاهات جديدة. يرى المجتمعات تعيد تشكيل نفسها، فيقوم بتقديم التناقضات سوية في إطار يعتبره فكريا.
الميديا الحديثة تساعده على هذا. مفكرنا يبرز إعلاميا حتى قبل أن يبرز فكريا. مثقفنا سلعة يومية تتداولها الفضائيات، بعض الأحيان أكثر من فضائية في اليوم الواحد. من لديه هواية اللعب بريموت كونترول التلفزيون يعرف هذا. نفس الوجه الفكري يتنقل، ويعيد تشكيل أفكاره ومفرداته بحسب طبيعة القناة الفضائية. اللغو كثير وسيضيع ما يقوله. لا يوجد مشروع فكري أو ثقافي له مدوّن في كتاب أو مكتوب في موقع ليحاسب عليه أو أن تطاله أقلام النقاد. المفكر أو المثقف أصبح مشهدا تلفزيونيا.
الإعلام مفيد للشهرة. ولكنه في النهاية مشروع فضيحة فكرية للسذج من مدّعي المعرفة والثقافة والفهم والفكر. الشبكات الاجتماعية مليئة بالمشاهد من برامج يقول فيها مفكرنا الشيء وضده خلال أيام أو أشهر، وإذا كان محظوظا خلال سنوات. من حق المرء أن يغير أفكاره. لا يوجد ما يجبر المثقف على الالتزام بفكرة معينة طوال عمره. ولكن من حق الناس على المثقف أو المفكر أن يثبت على رأيه في ذلك اليوم أو الأسبوع أو المرحلة. هو ليس حلوى بنكهات وألوان مختلفة.
الانفتاح الفكري ليس تقلبا. هذا ما نحن بحاجة إليه. أن نستطيع أن نفهم التغيرات العميقة التي تجتاح العالم، وتجتاح عالمنا العربي تحديدا، كي نستطيع أن نسهم فيها فكريا وثقافيا. من دون هذا الانفتاح سيكون من الصعب النهوض بمشروع فكري أو ثقافي عربي. والانفتاح هنا بالتأكيد ليس على الطريقة القديمة من الإسقاطات الفكرية والثقافية العربية من/عن النتاج الفكري الغربي. لا نريد أن نقول السرقات الفكرية فهي أيضا كثيرة.
مشكلة هذا التحدي عويصة. إذا استثنينا المثقف أو المفكر اليومي المتنقل بين الفضائيات فهو لا يصلح لهذه المهمة، فأن قولبة الفكر في إطار ثابت مهمة صعبة. وكي نتأقلم مع التغيرات فأن الانفتاح يخرجنا من مناطق الراحة التقليدية. يريد البعض أن يضع المفكر ضمن قالب وصايا عشر تحسم كل شيء. علينا أن نتخيل كيف أن المشروع الفكري – لو حدث – سيولد خديجا ويبقى خديجا. الوصايا تضع سقفا لما يمكن أن نصل إليه حتى من قبل أن نبدأ. لكن العقلية السائدة، سواء الفكرية أو الاجتماعية، تريد هذه القولبة وهذه الأسقف.
مثل هذه التقييدات الساذجة هي ما يؤدي إلى التراجع الفكري وخسران الأرضية لصالح التيارات الفكرية الدينية أو المتعصبة. وصايا عشر قومية ووصايا عشر يسارية ووصايا عشر شعبوية ووصايا عشر قومية – يسارية ووصايا عشر قومية – يسارية – شعبوية – دينية، والحبل على الجرار. صحيح أن المفردات المستخدمة على لسان المفكرين والمثقفين كثيرة ومتعددة، لكنها لا تخفي الطابع النمطي والتزمت لما يصفونه بالفكر. وما يزيد حزن المتابعين والمتأملين خيرا في ثورة فكرية أو ثقافية قادمة، أن التزمت صار وصفة، حتى في حال وصايا التناقضات. يأتيك من ينظر بيسار ديني شعبوي. بماذا تردّ عليه؟ تسكت وتمضي.
المثقف والمفكر لا يتطوران لأسباب “تسويقية” بل يجب أن تكون هذه الأسباب حقيقية. هناك الكثير من الأدوات المعرفية المتاحة مما تؤهل لقيام ثورة فكرية وثقافية في مجتمعاتنا تبني على الأسباب الحقيقية. لا أدري لماذا نعجز مرات ومرات عن التقاطها. ربما لم يحن الوقت بعد.