امرأة بنصف وجه
الكولونيل خمسينيّ خالطت خيوط الشّيب الفضيّة شعره الجعد فأكسبته مظهرا مهيبا.
يضع الكولونيل نظّارتين مذهّبتين داكنتي اللّون تخفيان عينيه الغائرتين وتستقرّان على أنفه المفلطح. شفتاه الغليظتان منطبقتان في قسوة يعلوهما شارب خفيف مهذّب.
في هذا اليوم الشّتوي البارد كان يمشي بخطى ثابتة… يجلد الأرض فيُسمع لتشظّي الأوراق اليابسة تحت حذائه صوت مؤذ، يسير وقد اختبأ وجهه خلف ياقة معطفه المرفوعة ويده الخشنة تمسك بجريدة” لابريس” ومجلّة وتشدّهما إلى صدره.
الكولونيل تعوّد على عبور شارع محمّد مرتين في اليوم، مرّة في الصّباح ليقصد مقهى خان الخليل حيث يتناول قهوته ويطالع الجريدة، ومرّة في المساء ليقوم برياضة المشي.
في كلّ مرّة يقف أمام البناية القائمة على ناصية الشّارع ويرقب من طرف خفيّ شبّاك الشقّة الواقعة في الطابق الثّاني، ذات النّافذة النّصف مغلقة دائما، لكنّه يعرف أنّ داخل الغرفة تقيم شابة في عمر الورد، وهو يعرف أنّها تملك ثلاثة قمصان نوم.. الأول فستقيّ اللّون بأكمام طويلة مزخرفة بدانتيل رقيق، والثّاني خزاميّ اللّون بأكمام قصيرة وكثيرا ما يكشف عن كتفها اليسرى وجزءٍ من عنقها وهو أحبّ القمصان إليه، والثّالث ورديّ… لقد حفظ ملامح نصف الوجه الذي كان يراه في اللّيالي المقمرة ونصف الأنف الدّقيق والعين الكستنائية اللّون وأهدابها المخمليّة، ونصف الشفتين المكتنزتين اللتين تطلّ من خلفهما أسنان جميلة يشعّ من بينها ناب ذهبيّ.
يبلغ الكولونيل قمّة الجنون عندما يرى شعر الشابة المنفوش وقت نهوضها من النّوم وعينيها المنتفختين، ويتمنّى لو ينال قبلة صباحية ما بين النّوم واليقظة. هذه الأمنية تجعله يطبق أسنانه على بعضها بعضا بقسوة ويلعق شفتيه ككلب “دوبرمان” شره.
ليلة 2 فيفري 1984 داهمت شرطة مقاومة الشّغب العمارة، وأرغم الموظّفات العازبات المقيمات بها على المغادرة، فخرجن عاريات حافيات وصوت البوليس يلاحقهنّ “يا قـ … يا كـ… يا… يا… تحبّي تغيري النّظام…”
خرجن كالحمائم الفزعة لا يدرين إلى أيّ وجهة يتّجهن. شعرت منال بن يوسف وهي تركض محملقة في الفراغ بيد ثقيلة مقطوعة الإبهام تسحبها من معصمها، ومعطف ثقيل يلفّ جسدها شبه العاري ويخفي صرختها المدويّة. شعرت بالرّعب والأمان معا.
لم تقاوم بل انطاعت وهي ترتعش كأرنب فزع وتهتزّ كفريسة وقعت بين أنياب وحش.
هذا الرّجل الغريب الذي أمامها لا تعرفه، لكنّها اطمأنّت إليه لأنّه ذكّرها “بجان فلجان” فابتسمت.
ودخلت إلى الغرفة التي دلّها عليها ومسحتها بنظرة فاحصة. جدران الغرفة مطليّة بلون وردي فاتح. ستار حريريّ أبيض مخرّم بزخارف ورديّة يغطّي النّافذة. سرير من الطّراز العتيق رسمت عليه صورة تنين ينفث نارا يحتلّ صدر الغرفة… وزرابيّ قيروانية فاخرة تحيط به، إزار ورديّ مطرّز “غرزة نابل” بلون أبيض سكّري فرد عليه. وعلى يمين السّرير صوان عليه علب صغيرة ملوّنة من طراز قديم، همست لنفسها:
– يبدو أنّ من كان يشغل هذه الغرفة فتاة وقد غادرت منذ عهد طويل. لكن كلّ ما فيه مرتّب بعناية ونظيف.
سمعت طرقا خفيفا على الباب ودخلت الغرفة سيّدة عرفت من هيئتها أنّها خادمة. اقتربت منها وهمست لها:
– سيدتي، غرفة الاستحمام جاهزة وفي الخزانة تجدين ثيابا تناسبك، يمكنك استعمالها.
بُهتت. لم تفهم شيئا، لكنّها فعلا تحتاج إلى دش ينعشها وينسيها ما مرّ بها من أحداث مفزعة.
السّاعة تقارب العاشرة. طُرق الباب ثمّ فُتح، فشاهدت الكولونيل وهو يرتدي منامة وروبا من الصوف، وقد ارتسمت ابتسامة على شفتيه القاسيتين. قال بصوت هادئ:
– هيّا، لنتناول طعام العشاء، ثمّ سأعرّفك على البيت!
شعرت بالدّفء يتسرّب إلى جسدها وهي تجلس أمام مضيّفها تتناول حساء ساخنا وسمكا مشويّا وبعض السّلطة، وقد لفّت كتفيها بشال صوفيّ أحمر وجدته على حافة السّرير.
بعد تناول الطّعام وشرب الشّاي، مدّ يده ليحتوي يدها التي بدت صغيرة وباردة حدّ التجمّد، ثمّ لم تلبث أن استكانت داخل الكفّ الخشن. سحبها وراءه فتبعته دون أن تتكلّم، فاقتادها إلى مرسمه وهو يمسك بمعصمها بأنامل مرتعشة. عندما تخطّت العتبة سمعت صوت مقطوعة موسيقية هادئة لـ”شوبان”، وشاهدت لوحات معلّقة بعناية على الجدران، وعلب ألوان زيتيّة ومائيّة موضوعة بنظام على طاولة تحتلّ وسط المكان، وأمام الطّاولة لوحة مغطاة بقماشة بيضاء.
أغمض الرّجل عينيه وجاء صوته ضعيفا كأنّه قادم من مكان ناء سحيق:
– طوال عمري ارتبط عندي كلّ شيء باللّون وبالموسيقى… ذلك السّحر الذي قاوم كلّ الأساطير وبقي على قيد الحياة.. الفنّ كما قال بابلو بيكاسو يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية.
قال هذا الكلام ثمّ فتح جفنيه ومدّ يده وبخفّة أزاح الغطاء.
المفاجأة ألجمت فمها وجعلت عينيها تتّسعان أكثر. أذهلتها صورة نصف وجهها المطلّ من وراء باب النّافذة النّصف المفتوح، فهمست لنفسها:
– هذا العسكريّ العجوز الخشن، الذي تكتسي ملامحه قسوة الصّخر يرسمني بكلّ هذه الرقّة وهذا الجمال!
لم يعلّق، بل تنقّل بها من لوحة إلى أخرى. بعد ذلك تركها ترحل إلى غرفتها وجالس جنونه وهو ينفث دخان غليونه الأنيق.
وقفت خلف النّافذة ترمق الشّارع الذي بدا خاليًا، وسمعت أصواتا آتية من بعيد تردّد شعارات حفظتها عن ظهر قلب “تونس.. تونس.. حرّة.. حرّة.. والخونة برّة.. برّة..”، شعرت كأنّ قوّة مغناطيسيّة قاهرة تسحبها إلى الخارج. روحها التي تتوق إلى الحريّة لا يمكن أن ترضخ للحبس..
صبيحة اليوم الموالي شهدت الكولونيل غارقا في معطفه الخشن وحزنه، يتبع جنازة تسير ببطء وفي خشوع تتوجه نحو مقبرة “تكرونة” محفوفة برجال الأمن وشرطة مقاومة الشّغب…
عاد إلى مرسمه وهو يشعر بأنّه خسر أناه، تمتم “قلبي المشظى أنت جمّعت قطعة.. قطعة.. قطعة، ونفضت عنه الغبار وأعدت خلقه، ثمّ نسفتِه”.
مسك فرشاته، وبهدوء رسم على جبهة نصفِ الوجهِ ثقبا صغيرا أحدثته رصاصة طائشة ففار منه الدّم وكسى نصف الوجه المشرق، ثمّ قلّب مسدسه ولفه بعناية ووضعه في صندوق معدنيّ.. وحفظه في الخزنة.