انحطاط الوضع البشري: تريث قليلا أيها الفناء
في بغداد ينحدر الزمن إلى هاوية من لهب وثارات همجية، ينحطّ الوضع البشري إلى حضيضه في بحر من دماء وتعول الريح بصرخات الفناء وتجرفنا أوان الفجر والغسق نحو مصائرنا الجحيمية المحتومة، فقد كان مقدرا أن ننتهي هذا اليوم ضحايا عبوة ناسفة لمرتين: إحداهما في شارعنا قرب بيتي والثانية جوار المجلة.
نجونا من تبادل إطلاق نار كثيف قرب تمثال أبي جعفر المنصور الذي أطاح به المتشددون، اجتزنا أزقة موحلة ومنعطفات موبوءة بالإرهابيين وبقايا انفجارات وأشلاءٍ حتى بلغنا شارع الكندي في حي الحارثية ودخلنا زقاقا كنا نخاله آمنا فوجدناه موصدا، ثم سمعنا انفجارا زلزلنا وعرفنا أنه تم تفجير عبوة ناسفة كانت مزروعة على رصيف قرب مبنى المجلة. الموت يقترب خطوة أخيرة..
الساعة الواحدة
يصل إلى مقر مجلة هلا الثقافية ضيوف حفل الشاي أعضاء أسرتَيْ تحرير مجلتَيْ “جدل” و”مسارات” احتفاء بصدور العدد الأول من مجلة “جدل”، كتّاب وأكاديميون وشعراء وباحثون وروائيون، نناقش إمكانيات التعاون بين مجلاتنا لتخطي المصاعب الفنية والطباعية والمالية ومواجهة تدخلات الأحزاب الدينية المهيمنة على السلطة وتهديدات الميليشيات التي تلاحق حيواتنا وأحلامنا.
نهنئ رئيسيْ تحرير المجلتين المحتفى بهما بباقتي زهور، يناقش الحاضرون المعضلات التي تواجه عملنا في أوضاع خطيرة تتفجر كل لحظة بالمزيد من الأهوال والتهديدات التي تستهدف الحريات والثقافة والفكر المتنور والنساء بشكل خاص..
الساعة الثالثة
أنجز كتابة رؤية أولية لمشروع ندوة “الثقافات العراقية الخصائص والمشتركات” للجمعية العراقية لدعم الثقافة، تأسيسا لحوار مكاشفة بين ثقافات الأعراق والقوميات والأديان وتحديد العناصر المشتركة التي أسهمت في إغناء ثقافة العراق ونمائها وتنوعها وهي ما يسعى المتطرفون الآن لتحويلها إلى بؤر صراع متفجرة بين الطوائف والأعراق، ونقترح أسماء الباحثين والمفكرين والكتّاب من مختلف الأعراق والأديان والقوميات، يقر الأعضاء المشروع آملين الكشف عن تشابك أرواحنا وعاداتنا وتلاقح ثقافاتنا.
الساعة الخامسة
أعود إلى مقر المجلة في حي “الحارثية” عبر طرق خطرة بعد إغلاق طريق حي ”القادسية“ العام المحاذي للمنطقة الخضراء، لا وجود لخدمة الإنترنت في مبنى المجلة لانقطاع الكهرباء وعطل المولدة، وعليّ المغادرة مسرعة إلى البيت لإنجاز أعمال المجلة والطريق مشتعل بالمواجهات والعبوات الناسفة والقوات الأميركية ترابط على مفارق الطرق ومداخل الشوارع والسائق يناور بين الأزقة ليتخذ طريق “المطار الدولي”، وخلال ربع ساعة توقفنا الدوريات عشر مرات، يشتبهون بنا، ويدققون في وجوهنا ونبضنا وكلماتنا الراجفة، مداخل الأحياء مغلقة ولا بد من الدوران حول أطراف العامرية غربا عبر حي الجهاد لنصل إلى شارعنا الذي تقف على مدخله دبابتان أميركيتان، بالكاد أستطيع فتح باب البيت في العتمة والهلع.
الساعة السادسة
الليل يوغل في سواده، أشغل مولدة الكهرباء وأرى أغلفة رصاص وآثار أقدام على الممر بقايا مواجهات الظهيرة، أترنح فتميد بي الرجّة القاتلة ويصطدم جبيني بإطار الباب، أستلقي على الأريكة وأوصد وحشتي على دموعي.
من يستل العبرات من صوتي؟
من يضيء زاويتي في محاق الأمل وأنا أتشبث بالوطن وأقف وحيدة في عين الإعصار؟ من يمنحني وطنا لا يغصّ بالموتى والقتلة؟
متى يغادرنا الجنون لنغفو؟
متى يموت الموت لنحيا؟
متى تنخسف الظلمات لأفيق من ليل الخرافة وعصر السبي؟
سأدخل الليل الشقي بحروبه العمياء وأهيّئ وجبة النجاة التي أتناولها كل ليلة متبلةً بدموعي وزهور الخشخاش القرمزية التي أزرعها وأتعاطى رحيقها الأبيض المرّ منوما في ليالي أرَقي، أحتضن الأرغفة الباقية والقصص وتقويم الندم وأشلاء الكلمات وأتجاهل الموت فما عدت أرهبهُ لطول ما تآلفت مع الموتى في الطرقات وأمام نوافذي وفوق الجسور ورأيتهم يطفون في مياه دجلة كزهور حزينة تلتهمها أفاعي الماء والإنكار.
كنت امرأة تجازف كل برهة وتراوغ موتها، أتجول بين الوحوش البشرية التي ترفع سيوفها الصدئة، تحزّ بها رقاب الخارجين على الخرافة والذاهبين إلى سلطة العقل. ألوذ بالموسيقى فلا أسمع رصاصهم وصرخات الهلع ولا أكتفي بمغامرة العيش بين القاتل والقاتل إنما أضيء لحظتي بوعي ما يجري وما سيجيء، أقطف لحظات تأمل تنتشلني من رجفة الرعب وكوابيسي وأكشف صورة الوحش المتربص بنا، المتربص بي والمتشهي قطف رؤوسنا.
وحدي أطوي المسافة بين موتي الوشيك وموتي المؤجل بمحض مصادفة ويحرسني سر الموسيقى، تأتي الكلاب الضالة إلى حديقة بيتي بأشلاء الضحايا فأجد ذراع امرأة وكف طفل وأسمع استغاثات مروعة وأرى مصيرنا موكولا لقاتل وكلب وغراب.
لا شيء أشد توحشا من وحدة امرأة في بلاد القتل والسبي والمقابر، لا أرى في وحدتي أحدا غير صورتي تتكرر في المرايا، وغير ملامحي تتغضن وتذوي حين لا تؤكدها نظرة الآخر، ولا تنال من التأويلات والتساؤلات ما يخفف هلع القلب ويرجئ خطوة الموت، أولادي كلٌّ في بلد، وأنا أتشبث ببقائي في بغداد وامتزاج رمادي برمادها، أدير مجلة “هلا” الثقافية وأكتب فصولا من روايتي وأحلم بسلام ترتجيه أرواحنا كل غروب فتفجعنا سيول الدم لدى كل شروق وتروعنا صرخة والدة ملتاعة بولد مخطوف أو اغتصاب صبية يافعة.
في وحدتي أعيش بين الموت و”الأنا” المكابرة التي تمارس الإنكار وتدعي شجاعة لا يملكها سوى المنتحرين، فحين لا يعود أحدنا قادرا على رؤية وجه الآخر أو سماع نبرته أو تلمّس حنانه، عندئذ، ينكفئ كلُ واحد مناّ على وحوشه الشخصية تلتهمه ويلتهمها ويرسل أيّ آخر إلى الجحيم.
أغامر كمجنونة بالعيش وسط حدائق الموت المزدهرة بجثث مجهولة ورؤوس مقطوعة وصمت يمارسه جيلي من المثقفين والكتاب تقية أو خوفا وانسحابا، بينما تتصاعد نبرة التجهيل والتحريم وإهدار الدم، إنها لمجازفة عبثية أن أحيا وسط المجزرة وإنه الجنون ولا مفر، بيتي محاط بحشود المتطرفين وهجمات المتعصبين الساعين لفرض ثقافة واحدة على شعب متشابك الأعراق والثقافات، أسمع عويل الرجال الجارح في المساء حيث أقدم المتطرفون المتوحشون على قطع سيقان ثلاثة شبان لارتدائهم الشورتات بحكم عملهم مدربين في مسبح (الرشيد) في حيـّنا المشتعل، يطوقني نحيب البنات اللائي قتلت زميلاتهن في الحافلة الصغيرة وهن عائدات من عملهن في أحد البنوك مكشوفات الرؤوس بلا حجاب، أطلق الملثمون نيران رشاشاتهم عليهن ثم عمدوا إلى قطع رؤوس ثلاثة منهن ودحرجوها على رصيف شارع العامرية، يتضاعف رعبي وسط الصراع وتحاصرني خطى القتلة ليلا وتهديدات مجهولين تنذرني بقطع الرأس إن واصلت الخروج إلى عملي.
وكمثل كدحي اليومي في تيه الغربة، كنت أكدح في نهارات القتل من أجل رغيف خبز وبضعة لترات من نفط أو عشرة لترات من البنزين لتشغيل مولدة الكهرباء، ترافقني كل ليلة شخوص روايتي وتؤازرني بضعفها وبسالتها وأنا أنتظر الموت قتلا على الهوية وأتساءل: ترى على أيّ هوية سأُقتل؟
هل سأقتل لأنني امرأة؟ أو يهدر دمي لأنني كاتبة أو يقطع رأسي لأنني علمانية؟ أو ما لا أدريه من التصنيفات؟ على أيّ الهويات سأموت ميتتي المجانية؟
يحدث صدع في الزمن فتتفتح زهور الحديقة بشائر ربيع واعدٍ بالأمل، وتشكل مع الموسيقى خلفية الحياة الحلمية الداعمة لروحي المستوحدة فتدوزن الموسيقى والنباتات بقائي وسط متاهة الموت وأفكر: لو لم أكن كاتبة لكنت أصبحت عازفة كمان أرعى وجودي بأصواتٍ سماوية وأشتبك مع الكون والزمن لأغادر أرض الرعب إلى ترنيمات وأغنيات حب وأعزز إنسانيتي بحلمٍ ورؤيا.
محو الذاكرة
دمر الاحتلال والنهابون المبرمجون المكتبات والمتاحف وأحرقت الكتب والصحائف لمحو ذاكرة البلاد وجعلها صفحة بيضاء لإحلال ما يريدون في بياضها الأبله.. كل ما فعلوه كان حربا على الذاكرة الرافدينية، ذاكرة حضارات وتاريخ وجذور ممتدة إلى أزل الزمان..
كيف سأدون كوارثنا والطبيب البَطِر ينصحني: إن شئت النجاة من ترنحك وكوابيسك فعليك تعاطي أقراص المحو وأسأله: ماهي أقراص المحو؟
– عقارٌ يوقف نشاط الذاكرة ويشلّها، وأفزع من اقتراحهِ المروع: وماذا يتبقى من المرء حين يخون الذاكرة؟
يضحك الطبيب: يتبقى له النسيان فيحيا سعيدا كطفل يلعب ويأكل ولا يبالي بشيء.
لا يعرف الطبيب الطائش أن عار الحرب تسلل إلى خلايانا من الباب الخلفي للتاريخ وسمّم حياتنا عندما فتحه الطاغية ثم دخل منه رجل الدين والمرابون وباعة الأرواح في غفلة من وعينا، لا يعلم أننا لم نغتسل بعد من عار ذلك التاريخ وننتظر طوفانا عظيما ليطهر ترابنا وعروقنا وانفاسنا من بذور الخراب.
أيها الفناء تريث قليلا
هاجس المرء أن يحيا ويكون كما يتمنى، هاجسي أن أتمّ كتابي الأخير وحينها قد أستسلم للرحيل، تحاصرني وجوه الموت المموهة بأقنعة أليفة فأهمس: أيها الفناء تريث قليلا ودعني أدوّن ما لم أٌقـلْهُ بعد ففي الروح ألف صوت أخرسته التهديدات وفي القلب ألف سرٍ عن الآمال العظيمة والحب والخيبة والمخاوف التي لا تعرفها سوى حدوس النساء.
تنهمر عليّ مقاطع من قصيدة “سيأتيكم زمان ” لـ”ممدوح عدوان”:
“ها هو الموت يأتي، خطاهُ على الأرصفه،
وجهه سيفاجئ في العَطَفاتِ وقد يشرئبّ من الأرغفه،
ها هو الموت يأتي.. تنفسه عند بابي، وفوق وجوه النيامْ
ها هو الموتُ يأتي، انهضوا أيها الميتونْ جاء موتٌ جديدْ
نابع بين حبل الوريد وبين الجبينْ..”.
ينسل الموت أفعوانا ويلامس أرواحنا كحنان امرأة لعوب ويغازلنا كأنه الخلاص وأحيانا يكون هو الخلاص، سأخادعه وأمشي في الممرات ساعة وأكتب ساعة أخرى، أعلم أن كل خطوة نقوم بها هي كناية عن رحلة في الزمن، سأحطم ساعتي والمنبه كما فعلت بطلة قصتي” الساعات” في كتابي “إذا كنت تحب” لأطلق فوضى الزمان، سأدع العاصفة لتدوّم حولي وتوقظ الحمائم الغافية في شجر التين وأحرر النساء والرجال المأسورين في الكتب العتيقة والأساطير ليضج المكان بالآهات والقبلات والموسيقى، فلعل الموت يخطئ مواقيته وحياتنا.
الساعة الخامسة صباحا
أفيق على صحراء الدم، وأنا رهينة إصراري على البقاء في انتظار ميتة شنيعة كجميع الضحايا من الأقارب والمعارف، يلومني الأبناء في المكالمات المتواصلة ويحرضونني “أخرجي من بغداد وتعالي إلينا، علام بقاءك هاهنا ؟” وأجيبهم “دعوني أشهد على ما يجري وأدون شهادتي لزمن قادم”.
يضحكون من بلاهة إجابتي وينذرونني:
- بقاؤك بين الأحياء محض مصادفة، وقد يكون موتك خبرا صغيرا في نهاية موجز أخبار كأيّةِ ضحيةٍ لا يُعتـدُ بشهادتها، هذا إذا صادف وعلمَ أحد بموتك بعد أن تتحلل جثتك في عتمة البيت.
- لا عليكم ، هي حياتي وأنا من يحق لي التصرف بها.
أحتفي بالفجر رغم كل شيء وأفتح الأبواب المحصنة بمشبكات حديدية، ينعشني المشهد الصباحي وشذا العشب ونهوض الحياة ،أروي الزهور وأقطف الأقحوان الأصفر وزهور اللاتينيا وأغدق رذاذ الماء على أشجار النارنج وعريشة الياسمين في معاندة نزقة -وربما بالغة السذاجة والغباء- للإرهابيين والفناء.
ثمار النارنج المتساقطة كشموس صغيرة تدعوني لأهيئ عصيرا شهيا، ثمار ذهبية هي مصابيحنا العطِرة في حدائقنا البغدادية أطاحت بها عاصفة الليل على المرج ورسمت صورة بديعة لطبيعةٍ لا تخوننا ولا تأبه بالموت وتمنحنا عطاياها بلا منّة، أجمع الثمار وأغلفة الرصاص التي تناثرت على الممرات إثر قتال الليل ومن يدي تفوح رائحتان: نارنج الحياة ورصاص الموت.
الساعة الثامنة
يهاتف أحدنا الآخر لنهدئ مخاوفنا من احتمالات الخطف أو القتل، الساعة الثامنة صباحا موعد مكالمتي اليومية مع الصديقة الرسامة هناء مال الله، عقدنا اتفاقات على مواعيد لنتأكد من بقائنا أحياءً، امرأتان وحيدتان، هي في منطقة السيدية الساخنة جنوب بغداد وأنا في العامرية الملتهبة بعنفها وحرائقها وها هي هناء ترد وتبلغني “سأذهب إلى أكاديمية الفنون”، هذا اتفاق ثانٍ بيننا نبلغ عن تحركاتنا فقد نتعرض للخطف أو القتل على الطرقات، تقترح هناء أن نلتقي ظهرا لحضور معرض تشكيلي في غاليري “أثر”، أعتذر فلديّ ارتباطات عمل في المجلة..
أهتف لنفسي: ها قد كسبنا يوما جديدا لحياتنا.