تاريخ جديد.. ماذا لو رفض الذكاء الصناعي مقالي
مع التحديثات المتوالية التي تأتيك على شكل إشعارات على هاتفك الذكي، تتسلل بخفة برمجيات تغير علاقتك مع الكثير من جوانب الحياة. فالهاتف، من خلال كاميرته ذات النوعية العالية، صار مخزنا للصور. أنت تلتقط الصور وبإكثار ومن دون تردد. التردد كان يرتبط بمحدودية عدد الصور في كل فيلم تركبه في الكاميرا. في اللاوعي، كنت تتريث في أخذ الصور لكي يكون عدد الصور النهائي هو 32 صورة هي المتاحة على الفيلم. الآن يمكن أن تلتقط المئات من الصور، وقد لا تتذكر أنك التقطتها بالأصل بعد بضعة أيام. هناك سيل هائل من الصور في ذاكرة الهاتف كنت تسترجعه إلى وقت قريب بالتصفح الذي يعتمد على الزمن. هذه المجموعة كانت شهر كذا وتلك في سنة كيت. لكن كل هذا تغيّر الآن مع التحديثات الذكية.
فجأة بدأ الهاتف يقول لك هذه أيامك الجميلة في مجموعة، وتلك أيامك الأجمل في مجموعة ثانية. الهاتف، وليس عينك ورغباتك، أعاد عملية التصنيف للصور. اللقطات ما عاد يتم ترتيبها زمنيا فقط، بل مع من وضمن أي محتوى. هذه مع زوجتك، وتلك مع ابنتك، والأخرى مع مجموعة الأصدقاء. هاتف منافس آخر، لا يجمع الصور من خلال تدقيقه بالوجوه فقط وتصنيفها، بل يخلق منها مقاطع فيديو ويضيف إليها لمسات صوتية ومؤثرات كما لو أن مونتيرا سينمائيا مرّ عليها.
هذه هي لمسات الذكاء الصناعي (أو الاصطناعي). برمجيات لا تعرف الراحة تشتغل للقيام بمهمة مثيرة كانت حصرا على الذكاء البشري. ألبومات الصور وتصنيفاتها كانت لنا وحسب، ووفق رغباتنا. الآن، ومن دون استئذان، ثمة شيء يقرر شكل ألبومات الصور الخاصة بك.
كيف يمكن تصنيف هذا العصر الذي نقف على أبوابه؟ ماذا نسميه؟ هل هو أنثروبولوجيا جديدة أم تاريخ جديد؟ قبل اللغة والوعي، كان كل شيء ضمن نطاق التحوّل الدارويني نحو عصر البشرية. بعد اللغة والوعي البشري، صار ما يحدث إنما ينتمي إلى التطور التاريخي. الشكل البشري ثبت تقريبا، لكن التطور صار محصورا بتطور العقل. كانت المهمة محصورة بالعقل البشري. التحوّل من إنسان العصر القديم إلى البشر، هو طفرة عقلية في الوعي. الآن نطفر، ولكن ليس بعقولنا ولا حتى بالآلة، بل بشيء جديد تماما غير مسبوق في التاريخ.
الذكاء الصناعي الذي يرتّب صور الهاتف الذكي هو وجه من أوجه التغيّرات الحاسمة. البعض، خصوصا في الغرب، يقلق لأنه سيسرق منه عمله. ثمة برنامج يقود القطارات بين محطات في شرق لندن منذ أكثر من 10 سنوات. لا يوجد سائق في القطار. هو شيء يشبه الانتقال بين طابق وآخر باستخدام المصعد ولكن مع شيء من الحذر والمراقبة. سائق القطار اختفى من شبكة القطارات تلك. وقريبا قد نرى اختفاء سائق السيارة. الذكاء الصناعي يستبدل السائق والطبيب ومحلل البيانات المصرفية والمئات من الوظائف الأخرى. ولكنها تبدو كعملية أتمتة تشبه استبدال الآلة للجهد العضلي. ما يثير التساؤلات الوجودية وتسميات العصر شيء أعمق من هذا بمراحل.
نحن لا نريد أن نسأل عن استبدال الوظيفة، بل عن استبدالنا نحن. عندما لا تصنف أنت ألبوم الصور الخاصة بك، من تكون إذًا؟
التساؤل سيزداد عمقا. هل سيشاهد الذكاء الصناعي الأفلام قبلك ويقول لك هذا يصلح وذاك مليء بالممثلين البليدين؟ ماذا لو لم تعجبه مكتبة الأغاني التي على الهاتف وقرر شطبها لأنها نشاز أو بنوعية رديئة؟ ما هي لغة الحوار ومفرداتها بينك وبين هاتفك؟ برنامج “سيري” المرفق في بعض الهواتف الذكية يحاورك ويرد ويستفسر. بعد فترة يصير فيه الكثير منك. إذا كنت تحب السيارات سيفهم أنك تبحث عن موديل معين على الإنترنت من سيارة تويوتا اسمه “كراون” (تاج) مثلا ولا تبحث عن صورة تاج. عليك أن تعانده للخروج مما صار ينسخه عنك من سلوكيات.
أنا أكتب المقال الآن. لو كان الكمبيوتر الذي أستخدمه في الكتابة ذكيا، فسيقرأ ما أكتبه. ماذا لو لم يعجبه ما أكتب؟ هل سيتسلل من خلال الإنترنت لتعلم أساليب أفضل في الكتابة ثم يعود ويقترح عليّ إعادة الصياغة أو تعديل الفكرة؟ هل سيرفض، مثل أي رئيس تحرير جديّ، بعضا (وربما الكثير) من مقالاتي؟
هذا عصر أعقد بكثير من مجرّد سائق سيارة آلي يتعلم ويتدرّب ويتجنّب الحوادث. فكما أطلقنا على أنفسنا المسميات ووصفنا عصورنا كما نحبّ، قد نجد هذا الشيء الجديد الذي نسميه ذكاء صناعيا، وهو يسمي نفسه بنفسه .