تجربة مبكرة في مفهوم التطريس
سردية الشاعر ديك الجن الحمصي الذي كتب مرثية حبيبته ورد، بعد أن فتك بها بدافع الغيرة سبق أن حولها الكاتب اللبناني رئيف خوري إلى نص مشوّق. كما قام عمر أبوريشة ونزار قباني وعبدالوهاب البياتي بكتابة ثلاث سرديات متمايزة للقصيدة، أعاد هؤلاء الشعراء إنتاجها في ما سأدعوه بـ”تجربة مبكرة في التطريس″.
مفهوم “التطريس″ أو الطرس (palimseste)، (أي اللوح الأسود الذي نمحو عنه نصا لنضع بدلا منه نصا مماثلا ومغايرا في الوقت نفسه) يحيلنا في التجربة المبكرة التي نستعرضها في هذا البحث، إلى نمط من التناص يحتفي بسرديات شعرية تشترك في بلورتها لمفهوم “المونولوغ الدرامي”. وأما مصطلح “التطريس″ فقد وضعه الناقد الفرنسي جيرار جينيت (1930-2018) أحد أبرز الذين بحثوا في نظرية الأخبار الأدبية.
أبدأ حديثي عن المونولوغ الدرامي الذي سأمثل عليه بقصيدة ديك الجن الحمصي الشهيرة في رثاء حبيبته ورد، أبدأ بالوقوف قليلا عند غياب مفهوم “الدراما” في النقد العربي القديم.
هناك قصة قصيرة لخورخي لويس بورخيس، أعتقد أنها تصلح لإلقاء الضوء على هذا الغياب الصريح.
هذه القصة عنوانها “البحث عن ابن رشد” يتخيل فيها بورخيس الكاتب حالة الحيرة التي انتابت ابن رشد عندما أراد ترجمة كلمتين وردتا في كتاب “الشعريات” لأرسطو. هاتان الكلمتان المفتاحان هما “التراجيديا” و”الكوميديا”.
يروي بورخيس في قصته أن ابن رشد سمع جلبة وضوضاء من خارج البيت، فلما حاول معرفة ما حدث رأى مجموعة من الصبيان يلعبون. وقد سمع أحدهم يقول “أنا المؤذن” وحاول تسلق ظهر صبي آخر كان يتظاهر بأنه “مئذنة”.
وأما بقية الصِبية فقد كانوا يتدافعون وكأنهم يمثلون جمعا حاشدا من المصلين. وبعد أن ألقى ابن رشد نظرة عليهم عاد إلى كتبه وأوراقه ليفكر في معنى “التراجيديا” و”الكوميديا”.
وفي مقطع آخر من القصة، هناك تاجر اسمه أبوالقاسم، كان يروي لمستمعيه حكاية غريبة عما شاهده في “كانتون” بالصين.
يروي أبوالقاسم أنه شاهد بأمّ عينيه بيتا خشبيا فيه صالة كبيرة مليئة بالشرفات والكراسي. وقد كان المكان مزدحما بالناس الذين كانت أبصارهم مشدودة إلى منصة يقف عليها قرابة عشرين شخصا يضعون على وجوههم أقنعة ويمتطون خيولا.. ولكن لم تكن هناك خيول. وكانوا يتبارزون دون أن يحملوا سيوفا.. بل كانوا يموتون دون أن يموتوا فعلا. وقد أوضح أبوالقاسم أن هؤلاء لم يكونوا مجانين وإنما ممثلون يمثلون قصة.
لم يفهم ابن رشد ما رواه أبوالقاسم على وجه الدقة. فقال أبوالقاسم “دعنا نتخيل امرأ يقوم بعرض قصة بدلا من أن يرويها.. ألا يمكننا أن نتخيل قصة معروضة بدلا من قصة مروية؟”.
فكرة عرض القصة هذه، أي تمثيلها، هي التي كان التاجر أبوالقاسم العائد من الصين يحاول شرحها للفيلسوف الأندلسي ابن رشد.
ويعلق أمبرتو إيكو الروائي الإيطالي وعالم السيميولوجيا على ذلك بقوله إن ابن رشد كان من خلال تمرسه بشرح كتاب “الشعريات” لأرسطو يمتلك الإطار النظري الذي يساعده على معرفة المقصود من مصطلحي التراجيديا والكوميديا. وأما الحضارة الغربية فقد كانت لا تملك هذا الإطار النظري خلال القرون الوسطى. فقد كانت أوروبا آنذاك تجهل شعريات أرسطو والإطار النظري للمسرح. هذا في الوقت الذي كانت تعرف المسرح وتمتلك تجربة العرض المسرحي نفسه.
وأما المونولوغ الدرامي موضوع حديثنا، فهو يمثل صيغة بسيطة من صيغ العرض المسرحي الذي يؤدّى من خلال الشعر. ولكن مصطلح المونولوغ الدرامي لم يرد في النقد العربي القديم على الرغم من الأمثلة التي تشير إلى وجود نموذج من الشعر العربي القديم الذي يتحقق فيه تعريف هذا المصطلح مرفقا بمصادره الغربية المتداولة في الوقت الحاضر.
وهذا التعريف، بتبسيط شديد، يحدده إيكو بالقول “إنه عبارة عن قصيدة قناع لا تكون فيها أنا الشاعر هي التي تخاطب المستمع، وإنما تحل محلها أنا راوي القصيدة الذي يبدو وكأنه يضع قناعا يميز أنا الشاعر من أناه”.
وهذا يقربنا من الفكرة التي وضعها ت.س. إليوت حول ما دعاه بـ”المعادل الموضوعي”. فقد كتب في مقالته حول “هاملت” شكسبير التي ظهرت في عام 1919 يقول “الطريقة الوحيدة للتعبير عن العاطفة في الشكل الفني تكمن في إيجاد معادل موضوعي.. أو بعبارة أخرى إيجاد مجموعة من الأشياء، أو قل موقفا، سلسلة حوادث تكون معادلة لتلك العاطفة بالتحديد”.
إن الشاعر في هذه الحالة لا يعبر عن الذات بشكل مباشر بل يقوم بالهروب من الذات. وهذا ما يحدث في قصيدة “أغنية العاشق بروفروك” التي تعدّ قصيدة مونولوغ درامي بامتياز. وقد كان لها -كما هو معروف- أثرها الملموس في الشعر العربي الحديث. ومن الجدير بالذكر أن المونولوغ الدرامي اشتهر في الأدب الإنكليزي لدى شعراء العصر الفيكتوري وبخاصة شعر روبرت براوننغ.
وينتمي النموذج المبكر نسبيا لاستخدام المونولوغ الدرامي وتقنية القناع في الشعر العربي الحديث إلى مرحلة تحول في الحساسية الفنية كان الشاعر عمر أبوريشة قد دشنها في قصيدته “كأس″ التي نشرت في عام 1940، واستعاد فيها عبر علاقة تناص وتماه، أسطورة ديك الجن الحمصي الشاعر الذي قتل جاريته الحسناء حبا لها وغيرة عليها قبل أن يجبل كأسه من جثتها المحروقة.
ولا شك في أن معرفة أبي ريشة المباشرة بمصادر الشعر الإنكليزي، وبخاصة أعمال براوننغ وتنيسون، هي التي نبهته إلى المونولوغ الدرامي الذي تربطه بتقنية القناع علاقة اقتران.
غير أن تقنية القناع والمونولوغ الدرامي لم تتحول إلى ظاهرة فنية، يمكن رصدها وسبرها واستكناه دواخلها ودلالاتها وأشكال تجلياتها، إلا مع تبلور حركة الشعر الحديث على أيدي الشعراء الرواد من أمثال السياب والبياتي ونزار قباني وأدونيس وخليل حاوي وصلاح عبدالصبور. وسواء كان هؤلاء الرواد، على ما في مواقفهم الفكرية والجمالية من ائتلاف واختلاف، واعين أو غير واعين نقديا بتقنية المونولوغ الدرامي والقناع وأصولها في الشعر الإنكليزي، فإن ظاهرة الأقنعة في الشعر العربي الحديث تومئ إلى جملة من المؤشرات التي سنحاول أن نثير بواسطتها بعض الأسئلة الجوهرية التي تتصل بأسباب وعوامل ظهور تلك التقنية الشعرية بامتداداتها الحضارية، وآليات المثاقفة والتناص التي اقترنت بها، قبل أن تنحسر انحسارا شبه كلي لدى الأجيال التي أعقبت جيل الشعراء الرواد.
وقد بدأ الالتفات الإرادي والمتعمد إلى تقنية المونولوغ الدرامي والقناع مع ظهور الحركة التموزية في الشعر العربي الحديث لدى خليل حاوي وأدونيس والسياب ويوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا.
كما تجلى هذا الالتفات في محاولة الحركة إعادة اكتشاف الذات من خلال البحث عن مصادر حضارية بديلة. كانت ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لفصل من كتاب “الغصن الذهبي” للأنثروبولوجي السير جيمس فريزر بمثابة تأكيد على اهتمام الشعراء التموزيين بدور الأسطورة في الأدب.
ولأن القناع، على حد تعبير فريزر، يكشف بقدر ما يخفي، فإن تلك المصادر الحضارية البديلة التي ركزت على تراث منطقة الهلال الخصيب وبلاد الرافدين قبل الإسلام، أعادت ربط الشعر العربي بينابيع مستكشفة ألقت أضواء جديدة على التكوين النفسي والأسطوري لذات الشاعر ومخزونها الرمزي.
من هذا المنطلق يمكن القول إن عمر أبوريشة، ونزار قباني، وعبدالوهاب البياتي، نظروا إلى مرثية ديك الجن الحمصي لحبيبته ورد، باعتبارها أسطورة، تصلح لأن تستعاد بصيغة مونولوغ درامي لا ينطق بلسان الشاعر مباشرة كما هو الشأن في شعر المتنبي على سبيل المثال.
وفي رأيي إن مرثية ديك الجن الحمصي التي سأسرد نصها يجب النظر إليها كأسطورة لاعتبارين: الأول لأنها مستحيلة الحدوث، إذ لا يعقل أن يقتل ديك الجن زوجته ويعلن عن ذلك بتفاصيل دقيقة دون أن يحاسبه أحد على ذلك، أو لأنه فرّ من سلطة الحاكم.
والثاني: لأن ورود المرثية في مصادر عربية متعددة وذيوع صيتها قمنا بأسطرتها وتحويلها إلى مادة أسطورية متداولة كان من نتائجها، كما ورد في إحدى الروايات، أن شقيقة ورد التي فتك بها ديك الجن ورثاها، كتبت ردا عليه ليستكمل تلك المرثية.
* * *
هاكم نص المرثية (الأسطورة) كما ورد في إحدى الروايات: جاء في “ذم الهوى” لابن الجوزي: اسم ديك الجن عبدالسلام بن رغبان، وإنما لقب بديك الجن، وقد روي عن ابن الحسين الأصبهاني أن ديك الجن هوى نصرانية، فدعاها إلى الإسلام، فأسلمت وكان اسمها وردا فتزوجها وكان له ابن عم يبغضه، وأشاع أنها تهوى غلاما لديك الجن، فضربها بالسيف فقتلها فطلبه السلطان فهرب، ثم علم كيف جرى الأمر، فأقام على البعاد وقال:
ياطَلْعَة طَلَعَ الحِمامُ عليها وجنى لها ثَمَرَ الرَّدى بيدَيها
رويتُ من دمِها الثَّرى ولطالما رَوَّى الهوى شَفَتيَّ من شَفَتيْها
قد باتَ سيفي في مجالِ وشاحِها ومدامعي تَجْري على خَدَّيْها
فوحقِّ نعليها وما وطئ الحصى شيءٌ أعزُّ عليَّ من نعليها
ما كانَ قتليها لأنّي لم أكنْ أَبْكِي إذا سَقَطَ الغُبارُ عليها
لكن ضَنّنتُ على العُيُونِ بِحُسْنها وأَنِفت من نَظَرِ الحَسودِ إلَيها
وفي رواية ابن السراج في “مصارع العشاق”، أنه كان رجل من العرب تحبه ابنة عم له، وكان لها عاشقا، وكانت امرأة جميلة، وكان من عشقه لها أنه كان يقعد في دهليزه مع ندمائه، ثم يدخل ساعة بعد ساعة ينظر إليها، ثم يرجع إلى أصحابه عشقا لها، فطن لها ابن عم لها، فاكترى دارا إلى جنبه، ثم لم يزل يراسلها حتى أجابته إلى ما أراد، فاحتالت وتدلت إليه، ودخل الزوج كعادته لينظر إليها فلم يرها، فقال لأمها: أين فلانة؟ فقالت: تقضي حاجة، فطلبها في الموضع فلم يجدها، فإذا هي قد تدلت، وهو ينظر إليها، فقال لها: ما وراءك؟ والله لتصدقنني، قالت: والله لأصدقك، من الأمر كيت وكيت. فأقرت له، فسلّ السيف فضرب عنقها، ثم قتل أمها، وهرب، وأنشأ يقول:
يا طلعة طلع الحمام عليها وجنت لها ثمر الردى بيديها
وقال ابن السراج: فجنى لها.
رويت من دمها الثرى، ولطالما روى الهوى شفتي من شفتيها
حكمت سيفي في مجال خناقها ومدامعي تجري على خديها
ما كان قتليها لأني لم أكن أخشى إذا سقط الذباب عليها
لكن بخلت على العيون بحسنها وشفقت من نظر العيون إليها
وأضاف ابن السراج: وأنفت من نظر العيون إليها.
أضاف ابن السراج في روايته فقال إن معشوقة ديك الجن كانت لها أخت شاعرة، فقالت تجيبه.
لو كنت تشفق أو ترق عليها لرفعت حد السيف عن ودجيها
ورحمت عبرتها وطول حنينها وجزعت من سوء يصير إليها
من كان يفعل ما فعلت بمثلها إن طاوعتك، وخالفت أبويها
فتركتها في خدرها مقتولة ظلما، وتبكي، يا شقي، عليها
II
قصيدة “كأس″ لعمر أبوريشة
وقد كتبت كما أسلفنا في أربعينات القرن الماضي، هي إحدى أروع نماذج المونولوغ الدرامي، وقد قدمها بتلخيص نثري لأسطورة ديك الجن الحمصي، جاء فيه:
“يروى أن ديك الجن الحمصي قتل جاريته الحسناء حبا بها وغيرة عليها، وجبل من بقايا جثتها المحروقة كأسه، وكان ينشد بين شربه وبكائه أبياتا من الشعر”.
دعها فهذي الكأس ما مرت على شفتي نديم
لي وقفة معها أمام الله في ظل الجحيم
دعها فقد تشقيك فيها لفحة البغي الرجيم
وتنفس الشبح الشقي على جذى حب أثيم
مالي أراك تطيل في تأمل الطرف الرحيم
أتخالني أهذي؟ وخمري صحوة القلب الكليم
اشرب! ولا تترك جراح السر تعوي في رميمي!
. . .
كانت تغنيني، وكنت أحس بالنعمى تغني!
هيفاء، لم يبلغ مدى إغرائها وهمي وظني
كيف ارتضت دنياي دنياها على قلق وأمن
كيف استقت حبي وقصت فيه أجنحة التمني
ما غرها مني؟ وماذا أبقت الأيام مني
ألشيب مرَّ بلمتي وأقام في عجزي ووهني
والشوق أحلام مخضبة تموت وراء جفني!
. . .
نادى هواها، فالتفتُّ وما رددتُ له جوابا
وشبابُها الظمآن بين يدي يستجدي السرابا
فوجمت، مجروح الرجولة، أخفض الطرف اكتئابا
ورجعت للأكواب، أملأها على غصص شرابا
وأعبها حمى من الأهواء تصطخب اصطخابا
فإذا دمي، في مثل وهج الجمر، يلتهب التهابا
والنجم أسطع وهو يهوي عن سماواته اغترابا
. . .
مالت علي وطرفها في يأسه يتضرع
وعبيرها، ما سال من صدر الربيع، وأمتع
فضممتها، فتنهدت غُصصُ، وصكَتْ أضلعُ
هي نشوة، لم يبق لي من بعدها ما يُطمع
كم ظبية قعدت بعبء جراحها تتوجع
لما رأت في خشفها الجوع الملح يُروِّعُ
زحفت، لترضعه وماتت وهو باق يرضع!
. . .
نامت! وخلف نديّ جفنيها.. حياة تحلم!!
طورا تقطب حاجبيها تارة تتبسم!!
وعلى ارتعاش شفاهها الحمراء بوح مبهم!
فدنوت أصغي، علها في همسة تتلعثم!
ورجفتُ.. خشية أن تطالعني بما لا أعلم
ورجعت أمشي القهقرى وجوانحي تتضرم
وعلى خطاي أرى بقايا سلوتي تتحطم!!
. . .
نامت! وجنح الليل جنَّ وغيرتي الهوجاء غضبى
أنا لن أعيش غدا فأروي قلبها الظمآن حبا!
من أين؟ والدنيا طوت أظلالها الفيحاء وثبا
ومراكب الأيام شقت جبهتي دربا فدربا!
نامت! وأشباح الغد الباكي أدفعهن رعبا!
أيضم غيري هذه النعمى!! متى وسدت تربا!؟
ويحي!! لقد جف الرضى رطبا وضاق الكون رُحبا!!
. . .
قبلتها!! والليل يَنْفُضُ عنه أسراب النجوم
ومدامعي تجري، وكفي فوق خنجري الأثيم
هي وقفة رعناء، ضاق بهولها حلم الحليم
فحملت شِلو ضحيتي والنار حمراء الأديم
وجَبلت من تلك الجُذى كأسي ومن تلك الكُلوم
وغدا أحطمها، أمام الله في ظل الجحيم
فأشرب ودعها، فهي ما مرت على شفتي نديم!
1940
لاحظوا كيف سرد عمر أبوريشة أسطورة ديك الجن بحذافيرها تقريبا. ولكنه استطاع أن ينجز قصيدة جديدة كل الجدة، قصيدة استخدم فيها أنا الشاعر قناعا يختبئ وراءه كما فعل ت.س. إليوت عندما اختبأ وراء قناع بروفروك في مونولوغه الدرامي “أغنية العاشق بروفروك”. فإذا نحن القراء أمام مونولوغ درامي يبدو فيه أبوريشة وقد ابتعد عن أناه للوهلة الأولى قبل أن تتماهى هذه الأنا خلسة مع أنا ديك الجن.
ولا أعتقد أنني أغالي عندما أرى في هذه القصيدة واحدة من عيون الشعر العربي الحديث. فهي، كما أسلفنا، نموذج مبكر ومتمكن لاستخدام تقنية المونولوغ الدرامي، والقناع.
وأما العينة الثانية من طرق استخدام أسطورة ديك الجن في قصيدة المونولوغ الدرامي فلا شك أن من أبرز نماذجها المتأخرة وأشدها تميزا قصيدة نزار قباني “ديك الجن الدمشقي”. هذه القصيدة المتضمنة في ديوان “الرسم بالكلمات” الصادر في سبعينات القرن الماضي، يحيلنا عنوانها في عملية تلبس بارعة إلى ديك جن دمشقي الهوية، يشبه ديك الجن الحمصي، شبها ظاهريا ولكنه يختلف عنه اختلافا يكاد يكون جذريا.
في مرثية ديك الجن تنتهي عملية القتل التي تحركها الغيرة بندم لا نهاية له. وأما في مرثية نزار فإن عملية قتل الحبيبة تنتهي بقتل أنا الراوي التي لا يمكن اعتبارها ممثلة للآخر. فالقتيل والقاتل هنا يتماهيان. فكأن قتل الحبيبة ليس في حقيقته قتلا للآخر فحسب، بل قتل للذات.
يقول نزار في “مرثية ديك الجن الدمشقي”، وهو يضع في هذا المونولوغ الدرامي قناع أسطورة ديك الجن الحمصي:
III
ديك الجن الدمشقي
(نزار قباني – ديوان الرسم بالكلمات – الطبعة 6 – 1973 – بيروت)
إني قتلتك.. واسترحت يا أرخص امرأة عرفت..
أغمدت في نهديك.. سكيني وفي دمك اغتسلت..
وأكلت من شفة الجراح ومن سلافتها شربت..
وطعنت حبك في الوريد.. طعنته.. حتى شبعت
ولفافتي بفمي.. فلا انفعل الدخان.. ولا انفعلت
ورميت للأسماك.. لحمك لا رحمت.. ولا غفرت
لا تستغيثي.. وانزفي فوق الوساد كما نزفتُ
نفذت فيك جريمتي ومسحت سكيني.. نمتُ
ولقد قتلتك عشر مراتٍ ولكني.. فشلتُ
وظننت، والسكين تلمع في يدي، أني انتصرتُ
وحملت جثتك الصغيرة طي أعماقي وسرتُ
وبحثتُ عن قبرٍ لها.. تحت الظلام فما وجدتُ
وهربتُ منكِ.. وراعني أني إليك.. أنا هربتُ
في كل زاويةٍ.. أراكِ وكل فاصلة كتبت
في الطيب، في غيم السجائر، في الشراب إذا شربت
أنت القتيلة.. أم أنا حتى بموتك.. ما استرحت
حسناء.. لم أقتلك أنت.. وإنما نفسي.. قتلت..
من الواضح أن عملية التلبس والتي تتماهى فيها أنا الذات بأنا الآخر، أنا العاشق بأنا المعشوق، والتي تختتم بها قصيدة نزار هذه تختلف جذريا عن عملية التلبس التي تُستهل بها القصيدة.
فأنا الراوي في بداية المونولوغ الدرامي ترتدي قناع راوٍ يمكن أن نصفه بأنه دون جوان أو قيس من زماننا. أما في نهاية المونولوغ فإن أنا الراوي ترتدي قناعا آخر هو قناع أنا العاشق المتيم التي قد تنتمي إلى كل زمان.
نصل إلى النموذج الثالث الذي يمثله عبدالوهاب البياتي في قصيدته “ديك الجن”. هذه التجربة تقدم لنا مونولوغا دراميا يستعيد أسطورة ديك الجن عبر استخدام اسمه بهدف استدراج مشاركة القارئ واستدعائها، باعتبارها تجربة تتكئ على المعرفة المشتركة لأسطورة ديك الجن بين الشاعر والمتلقي.
وهي بذلك تشحن المونولوغ الدرامي باعتباره قناعا للانا، بتقنية إشارية أسرف إليوت في استخدامها هي تقنية “الإلماعة”: ترجمتي لمصطلح “Allusion” أي استدعاء المعرفة المشتركة بين الشاعر والمتلقي، وهي تتحقق هنا بتكرار اسم ديك الجن، وبالتالي تجعل المتلقي يستدعي بمخليته الأسطورة المرتبطة به.
وقد كان إسراف إليوت في استخدام الإلماعة يهدف إلى إغناء النص بشبكة من علاقة التناص، ومنحه أبعادا تسبغ على الأنماط الأصلية العليا والرموز والشخصيات التراثية التي تستدعيها الإلماعة دلالات جديدة تكتسبها من خلال تموضعها في النص الجديد.
وفي المقاطع التالية من قصيدة البياتي ما يفسر تقنية الإلماعة
IV
ديك الجن
عبدالوهاب البياتي
رأيت ديك الجن في الحديقة السرية
يضاجع الجنية
يغمرها بالقبل الندية
يسحقها بيده الصخرية
ويشعل النيران
في جسمها المبتهل العريان
لكنها تفر قبل ذروة العناق
تعود للأعماق
تاركة قميصها وحسرهْ
وخصلة من شعرها وزهرهْ
تموت في جزائر المرجان
عارية محترقهْ
مسحوقة كزنبقهْ
يسقط عن جبينها الإكليل
ها هي ذي في القاعْ
تزحف فوق وجهها جحافل الديدان
رأيتُ ديكَ الجن في القاع بلا أجفان
على جواد عصره المهزوم
يقاتل الأقزام
مهاجرا في داخل المدينهْ
من شارع لبيت
على جواد الموت
مدينة الخناجر الخفيهْ!
ها هي ذي الجنيهْ
تعود بعد موتها صبيهْ
جارية روميهْ
إياك والوقوع في حبائل النساء
قتلتها، مزقتها بالسيف
تحت سماء الصيف
مرنحا سكران
أشعلت في أشلائها النيران
صنعت من رمادها فراشة ودمية
وقدحا مسحور
لا أرتوي منه، فيا خمار حانِ النُّور
ماذا لنار بعثها أقول؟
فهذه الطبيعة الحسناء
قدَّرَتِ الموتَ على البشر
واستأثرت بالشعلة الحية في تعاقب الفصول
غدا -أمام الله- في الجحيم
أحطم الدمية والقدح
أتبعها عبر الممرات إلى الفرات
أبحث في مياهه عن خاتم ضاعَ وحب ماتْ
أنام في الضفاف
صفصافة تنتظر العراف
والبرق والعصفورْ
وراقصات النور
أنا أميرُ حلبِ اليتيم
مهاجر في داخل المدينة
من شارع لبيت
على جواد الموت.
V
أختتم هذه التأملات بالسؤال التالي الذي حاولت الإجابة عنه:
هل عرف الشعر العربي القديم الجنس الأدبي الذي أُطلق عليه في الآداب الأوروبية مصطلح المونولوغ الدرامي؟ ولماذا لم يرد هذا المصطلح في النقد العربي؟
لا شك أن أسطورة ديك الجن الحمصي في نماذجها الاستعادية الثلاثة لدى أبوريشة ونزار والبياتي، تجيب عن هذا السؤال.
فهي تذكرنا بأن الشعر القصصي في التراث العربي غني جدا بنماذج تصلح لأن تُعدّ بمثابة إرهاص بقصيدة الحب الدنيوي المؤداة بالمونولوغ الدرامي. ولكن عدم وجود الاسم لا ينفي وجود المسمى.
تجربة قصيدة المونولوغ الدرامي في الشعر العربي الحديث كانت حصيلة لعلاقتي المثاقفة والتناص بين الشعر العربي الحديث والمصادر الإنكلو-ساكسونية ممثلة في الشعر الإنكليزي بنماذجه القناعية المبكرة التي قرنت بين القناع والمونولوغ الدرامي كما تجلى في بعض قصائد براوننغ.
ومن الجوهري الإلحاح على علاقة الاقتران هذه، نظرا لأن التمييز الاصطلاحي القائم في الأدب الإنكليزي بين القصيدة الغنائية الدرامية والمونولوغ الدرامي ليس سجاليا، بل واضح لا لبس فيه. ولهذا، اعتبرت بعض قصائد جون دون، كقصيدة “The Canonization” أي “التطويب” وهي كلمة مسيحية تعني عملية إسباغ القداسة، مثلا، غير محققة لشروط المونولوغ الدرامي، وذلك لأن القناع الناطق الذي تتحدث أنا الشاعر من خلاله لا يُقدم في القصيدة عبر بؤرة تبرز الخصائص الشخصية المميزة له.
تطور هذا التمييز الاصطلاحي في وقت لاحق، كما هو معروف، في شعر ييتس وإليوت وباوند، ومارست بعض قصائد هؤلاء الحداثيين بنماذجها القناعية المحكمة تأثيرها، بقدر أو بآخر، على مثيلاتها، لدى رواد الشعر العربي الحديث. إلا أن النقد العربي، عموما، لم يولِ دراسة تقنية القناع ما تستحقه من اهتمام. فهو كثيرا ما يهمل التعرف لعلاقة القناع بالدراما، مكتفيا بالمعنى اللغوي للكلمة في العربية، ومعرضا عن سبر المعنى الاصطلاحي النقدي لكلمة “Persona” التي تربطها بالمسرح أكثر من وشيجة، وتعود بأصولها إلى المسرح الكلاسيكي حيث تشير إلى الشخصية الدرامية تحديدا.
وكان من نتائج ذلك أن مصطلح القناع كثيرا ما يوظف في النقد العربي الحديث باعتباره كلمة ذات محددات لغوية عامة، وليس اصطلاحا نقديا ينطوي على محمول معرفي خاص وواضح المعالم.
والتمييز بين هذا الاستعمال وذلك ضروري. فهو يذكرنا بمسرحية القناع عبر صيغة إجرائية تستمد مرجعيتها من نظرية الأجناس الأدبية بمؤشراتها الوصفية أو قل الواصفة، التي تساعد الناقد على أن يسبر أغوار النص بدلا من أن تقتصر مرجعيتها على الاجتهادات الشخصية وحدها.
أخيرا أختتم حديثي بالقول إن التأكيد على أن قصيدة المونولوغ الدرامي إنكلو-ساكسونية، من حيث النشأة والتطور، لا يعني أننا مقيدون بالضرورة بتوصيفها المستمد من الأدب الإنكليزي.
وبعبارة أخرى يمكن القول إن وجود مفهوم عربي للمونولوغ الدرامي، كما يتبين من النماذج التي استعرضناها، مفهوم متحرر من المحددات القاعدية المستمدة من الآداب الأوروبية هو حقيقة تتمتع بقدر وافر من الرصيد السجالي.