تجمعهم القهوة ويفرقهم فيسبوك
نعاني هذه الأيام من “التباعد الاجتماعي”. صار لزاما على الجميع الإبقاء على مسافة من الآخرين. كورونا فرض واقعا اجتماعيا جديدا. ثمة إجماع بأن هذا الواقع مزعج وأنه لن يدوم. هناك حركات احتجاج ضده وهناك ما يكفي من التمرد على السلطات التي تسعى لفرضه. الإنسان، الكائن الاجتماعي، يريد أن ينجو بأهم إنجاز حققه على مدى العصور: المجتمعات.
"التباعد الاجتماعي" مبرر بالخوف من المرض ومن الموت. المرض والموت رعبان دائمان في تاريخ البشرية. ثمة جهود جبارة بذلتها الإنسانية للإتيان بعلاج لكل مرض. وثمة جهود عقلية متواصلة للاستئناس بالإيمان وتعليق الأمل على القيامة ما بعد الموت. الثورات العلمية والصحية والفكرية تدور في فلك الحرص على البقاء. لكن هذا البقاء لا شك غير مرتبط بالعزلة، أي ليس البقاء لغاية البقاء، بل بنوعية الحياة التي نحياها بين الناس. لعل هذا هو مبعث فكرة “التقارب الاجتماعي” التي نريد أن نفرضها للرد على رهاب “التباعد الاجتماعي”.
لكننا ابتدأنا “التباعد الاجتماعي” منذ عقود. التباعد الحالي هو مشهد مرتبط بالوباء. لكن مظاهر التباعد معنا صارت مرسخة وتعيد صياغة حياة الناس كل يوم. كل خطوة سلوكية جديدة تنشأ بوجود تقنية حديثة، سنجد فيها الفردانية والذاتية وفرض المسافات.
مشاهد “التباعد الاجتماعي” واضحة. قد لا يحس بها العربي الذي يعمل في مدينة عربية مزدحمة. ستوهمه أفواج الناس التي تستخدم وسائل النقل العامة بأنه قريب من الجميع. لكن الصورة تتضح أكثر في المدن العربية ذات الكثافة السكانية الأقل، أو في المجتمعات العربية المغتربة.
نبدأ من الغربة. في المدن الغربية الكبرى كان هناك شيء اسمه “الجالية”. هذه الجالية كانت تلتقي في مناسبات واجتماعات. كانت هناك أندية اجتماعية عربية، وكانت هناك ملتقيات دورية لبحث مختلف القضايا. كان البعض يتعمد الحضور في هذه الترتيبات لكي يعطي أولاده الفرصة للقاء أولاد الآخرين، ليتعارفوا، بل ويتزوجوا من “أمثالهم” من عرب أو من جنسيات محددة. جاءت الفضائيات، ففرضت تكاسلا في الحضور. صار المغترب جزءا من مجتمع عراقي أو مصري يشاهده على شاشة الفضائية. ثم جاءت الإنترنت لتمعن في شق الجاليات على أنفسها، ولتبدأ الأندية الاجتماعية والجمعيات والتجمعات بالتآكل. مع وصول تقنيات الشبكات الاجتماعية، وخصوصا فيسبوك، إلى كل كمبيوتر وكل أيباد وكل هاتف ذكي، كانت تلك التوليفات الاجتماعية قد انتهت وحل “التباعد الاجتماعي” بديلا عنها. “التقارب” اليوم هو “صداقة” على فيسبوك. وبين حين وآخر، تأتيك مبادرة للّقاء الحقيقي، في مقهى أو جمعية أو ندوة، وعادة لا تأخذها محمل الجد. لعل التجمعات الدينية في المساجد والكنائس كانت القليلة القادرة على الصمود. لكن حتى هذه التجمعات سيتحدث لك الأصدقاء عن صعوبة إقناع الأجيال الشابة بالذهاب وأداء الصلوات أيام الجمع والآحاد، بل وحتى الأعياد.
المشهد في دول الاغتراب واضح. لكن جرّب أن تركز أكثر في المشهد ببلداننا. هناك مجالس للقاءات. إما مجالس في المقاهي والكافيهات والمولات، كما في دول شمال أفريقيا والهلال الخصيب، أو مجالس الرجال أو النساء في البيوت في الخليج. سترى الناس يلتقون. يتبادلون الأحاديث ويشربون القهوة والشاي معا. بعد قليل ينصرفون إلى متابعة آخر البوستات والتغريدات على هواتفهم الذكية. يبتسمون للشاشات أكثر من تبادل ابتساماتهم مع من يجالسهم في المقهى والمجلس. التقارب الاجتماعي هنا شكلي، لأن الجميع يمارس نوعا من التباعد الاجتماعي الافتراضي. تحتاج إلى شخصية كاريزمية تشغلهم في حديث، أو إلى مباراة ساخنة لكرة القدم تجبرهم على الانقطاع عن التحديق في شاشات الهواتف. تجمعهم القهوة ويفرقهم فيسبوك.
التباعد الاجتماعي” كوصفة حكومية للحفاظ على الصحة العامة وتجنب الإصابة بالوباء بالتأكيد مزعجة. لكننا كنا مستعدين لها تماما وانسجمنا معها من أول أيام العزل والحجر. لو أن أحدا قال قبل كورونا إن بوسعك أن “تأسر” أكثر من 7 مليارات إنسان في منازلهم لأشهر، ما كان بوسعنا تصديق الأمر. لكن هذا ما حدث بالضبط لأننا “متباعدون اجتماعيا” منذ وقت ليس بالقصير.
أسمع الكثير من الأصوات الآن التي تتحدث عن العمل عن بعد وعن الاستغناء عن المكاتب وعن وظائف بمنظومة عمل أساسها التطبيقات الإلكترونية. هذا كله مفيد، لكنه لا يغني عن الجلوس سوية والعمل سوية والمشاركة الوجدانية سوية. هذا التفتت الإنساني غير مقبول. نحن نضيّع أجمل ما أنجزناه خلال عشرات الآلاف من السنين: أن نأنس لبعض وأن نتفاهم.
“التباعد الاجتماعي” الالزامي لعله فرصة لإعادة النظر في “تباعدنا الاجتماعي” الاختياري. العالم الافتراضي جميل وممتع وباعث على الكسل. لكننا كائنات اجتماعية نكتسب قيمتنا وقوّتنا من التقارب مع الآخرين. نحتاج إلى التقارب من جديد وإعادة تعريف كنه العلاقة البشرية مع الآخر.