تذكير بالأساتذة
لماذا التذكير؟ التذكير مواجهة للتناسي، فالتذكير قول لآخرين مفاده لا تتناسوا، والفرق بين النسيان والتناسي فرق بين حال عفوية وأخرى إرادية. فمن وظائف الدماغ النسيان، ومن مواقف العقل التناسي. أربعة اخترت التذكير بهم، أجيال تلقت المعرفة منهم انشغل بهم الموت أو انشغلوا بالموت، وأجيال أخرى تريد أن تسدل الستار عليهم، وأجيال لا يعنيهم الوفاء .
ليس الوفاء للأساتذة تبعية لهم، ولا السير على طريقهم الفكري، بل الوفاء هنا موقف أخلاقي، بمعزل عن قتل الأب فرويدياً، فقتل الأب لا يقوم به إلا أولئك الذين شقوا طريق الاستقلال العقلي، وفي حالنا، الاستقلال الفلسفي، الذي لا يتعارض مع الوفاء الأخلاقي. أن تعلن بأنك لم تعجب بأستاذ، فهذا حق، تماماً كإعلانك بأنك معجب بآخر.
أن تكتب عن أساتذة تركوا أثراً في مسيرتك، فهو تذكير بالأثر، ومد الذاكرة الوطنية بأعلام تركوا بصمات كل على أجيال توالوا على تدريسها .
وليس السؤال لماذا اخترت هؤلاء الأربعة سؤالاً غير وجيه، اخترتهم لأنهم جزء لا يتجزأ من سيرة وعيي الفلسفي. دون أن ننكر حق أحد في خياراته الأخرى.
لقد اخترت التذكير بهؤلاء استعادة لتجربتي معهم، وليس سرداً أكاديمياً، فهذا التذكير شكل من الوفاء لهم. دون أن يفسد حبي لهم أحكامي عليهم الموضوعية بشأنهم.
عبدالكريم اليافي
قصير القامة، عريض الصدر، بريء الوجه، ذكي العينين يدب دباً في مشيته، لم تصدر عنه أيّ كلمة سلبية بحق أي طالب. علته الوحيدة أنه لسعة علمه كان لا يكف عن التداعي، فتراه ينتقل من الحديث عن ابن خلدون وعظمته في تأسيس علم الاجتماع، إلى الحديث عن المتنبي أو كسينجر. كان درسه أشبه بسرد قصة ممتعة. وراء تواضعه الظاهر والجم اعتداد شديد بنفسه وشعوره أنه علم من أعلام الحياة الأكاديمية في الوطن العربي والعالم بلا منازع.
لم يشارك في أيّ معارك فكرية أو شخصية داخل قسم الفلسفة، لكن كان يكن البغضاء لزميل واحد من جيله. ويتهمه بالجهل.
وفي الوقت الذي كان غيره من الأساتذة يدرسنا كتبا مترجمة، أو أمالي جامعية بعضها مؤلف وبعضها مترجم، كان هو يدرسنا كتبه فقط. وهي على التوالي “تمهيد في علم الاجتماع”، “علم السكان”، “الفيزياء الحديثة والفلسفة”، “دراسات اجتماعية ونفسية”، “دراسات فنية في الأدب العربي”، “الشموع والقناديل في الأدب العربي”، “تقدم العلم”.
إن كتابه “تمهيد في علم الاجتماع”، رغم مضي زمن طويل على تأليفه فمازال يحتفظ براهنيته وأهميته. فهو سفر يرصد تاريخ علم الاجتماع والفكر الاجتماعي منذ أهل اليونان وحتى آخر مدرسة معاصرة من هذا العلم.
مع اليافي وهذا الكتاب تعرفنا بشكل مبكر على أهم أفكار أرسطو الاجتماعية والسياسية، وابن خلدون ومونتسكيو وروسو سبنسر وماركس وماكس فيبر ودركهايم وباريتو وآخرين. كان مقرر علم الاجتماع هو بالنسبة إلينا اليافي فقط، رغم من كان يشاركه هذا المقرر في التدريس. أما اللغة التي كتب فيها هذا الكتاب فتكاد تكون نادرة لا تساويها إلا لغة زكي نجيب محمود. وأسلوبه العربي مبين بحيث لم نكن نجد صعوبة في قراءة هذا السفر بل كنا نستمتع بقراءته (على الأقل بالنسبة إليّ).
وفي مقرر علم السكان، وهو مقرر جاف، وأنا لا أطيقه فقد حببه لنا بكتاب بعنوان “دراسات اجتماعية ونفسية”، إلى جانب كتاب “علم السكان”. مازال عالقا في ذهني دفاعه عن وجهة نظر ماركسية ضد المالتوسية. فإذا كان مالتوس يرى المشكلة في تزايد السكان بمتوالية هندسية فيما تزايد الغذاء بمتوالية عددية، وبالتالي سيجد البشر أنفسهم في وضع عدم القدرة على تلبية الحاجات، فإن اليافي كان يرى بأن سوء توزيع الثروة هو الأخطر. وعندي الآن بأن الأمرين متداخلان معاً.
أما في مقرر فلسفة العلم حيث درسنا كتابه “تقدم العلم”، فلقد قادنا اليافي في رحلة ممتعة إلى تاريخ تقدم العلم، وليس هذا فحسب، بل قام بقدِ مصطلح غير مألوف بالعربية للدلالة على اللاحتمية في الفيزياء الحديثة وهو مصطلح علائق الارتياب. كما أطلق على الجزيء من الأشعة السينية. مع اليافي تعرفنا على مفهوم جديد لم يستخدمه أحد سماه تتامية بور للإشارة إلى الطبيعة المزدوجة الحبيبة والموجية للنور.
والأهم أن كتابه “تقدم العلم”، والذي هو تاريخ العلوم ومنطقها ومشكلاتها ما زال فريداً في مكتبتنا العربية.
أما الأثر الأجمل الذي تركه في نفسي فهو كتابه دراسات فنية في الأدب العربي. فقد كان هناك مقرر مستقل بهذا الاسم. نبهني هذا الكتاب، بلغته الجميلة، إلى مكانة أبي تمام في الشعر العربي. فقد كنت كغيري مولعاً بأبي الطيب المتنبي، والنظر إليه على أنه ملك الشعر العربي بلا منازع. فلقد عدّ اليافي أباتمام مؤسس شعر الباروك في تاريخ الشعر العربي. بل واعتبر أن كلمة باروك الإسبانية ذات أصل عربي مأخوذة من كلمة برّاق.
وبعد تأمل في شعر أبي تمام فيما بعد لم أعد أطيق أغلب شعر المتنبي. وانظر إلى أبي تمام وأبي نواس شاعرين من المرتبة الأولى.
لا شك أني وأنا أكتب كل هذا من الذاكرة عن اليافي، بعد خمسين عاماً، أدرك مدى الأثر الذي حفره هذا الأستاذ في عقلي ووجداني.
وهناك حالة قد لا يعرفها الكثيرون عن اليافي، ألا وهي ميله للتصوف والمتصوفين. فكان شديد الميل للبسطامي وابن عربي، وكان يذكرهم دائماً في استطراداته. وأذكر بأنه قد شرح لنا قصيدة “النفس” لابن سينا التي مطلعها: هبطت إليك من المكان الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع.
واليافي كان معتداً بانتمائه العربي، ولغته العربية حد التعصب.
وبالمناسبة: كان اليافي خجولاً، وقد حدثني كيف تعلقت به فتاة فرنسية في الحرب العالمية الثانية في باريس، وكيف أنه لم يستطع أبداً أن يبادلها الحب خجلاً.
أما الصفة الثانية، فإن اليافي لشدة اعتداده بنفسه، كان نادر الاعتراف بأهمية أحد من بأبناء جيله، ولولا حرصي على ألاّ أبوح بآرائه التي سمعتها منه عن زملائه لذكرتها. ولكنّ هناك رأياً كان لا يخفيه، ألا وهو عدم تمتع أغلب أعضاء مجمع اللغة العربية في دمشق بالأهلية التي تسمح لهم باكتساب هذه العضوية.
كتب اليافي شعراً عادياً، ليس فيه تألق، وموضوعاته كلاسيكية.
بديع الكسم
حين سألنا في الأيام الأولى لدخولنا قسم الفلسفة: أين الدكتور بديع الكسم، الذي إن ذكرت قسم الفلسفة آنذاك لا بد لك أن تذكره، قيل لنا بأنه معار إلى جامعة الجزائر .
في السنة الثالثة عاد الأستاذ، دخل قاعة الدرس، رجل قصير القامة، نحيف، أنيق، ذو وجه سمح، بالكاد يصل صوته إلينا، وكأنه يحدث نفسه. إن خطرت له فكرة ينظر إلى النافذة ويقولها. الأستاذ يلقي علينا محاضرات في مقرر مشكلات فلسفية، أما الموضوع الذي يطرح هو الحقيقة الفلسفية.
نحن أمام أستاذ مدهش في طرح الأفكار، لكنه في الوقت نفسه ذو لسان سليط إذا لم يعجبه رأي أو فكرة، قال لواحد من أنجب طلاب دفعتنا حين عارضه بالرأي: سأثبت لك بأنك لا تفكر. وكان هذا القول قاسياً لأنه صدر عن الدكتور بديع.
لم يكن متواضعاً أبداً، سألتْ الدكتورة فاطمة الجيوشي صديقنا الدكتور يوسف سلامة مرة: كيف نجوت أنت وأحمد من سلطة وسطوة بديع الكسم القاسية. نحن لم نستطع أن نكتب خوفاً من بديع.
أجل، كان بديع يتمتع بسلطة الأستاذ الذي لا يرحم. وليس هذا فحسب، فهو يندر أن يمتدح أحداً من أهل الفلسفة العرب. حتى أنه جاءنا بكتاب لفيلسوف مصري مشهور هو يحيى هويدي بوصفة مثالاً على الكتابة الفلسفية الهزيلة. لم يكن على عداء مع أحد. وكانت معرفته العميقة والغنية واهتمامه بمستقبل المتميزين عنده، وكرمه بالكتب على من يريد الاستزادة، وزهده، من الأسباب التي تغفر له قسوته.
كان ذا نزعة طبقية ومدينية مترفعة. لهذا تجده متأففاً دائماً، لديه احتقار للسلطة وخوف شديد منها.
حين كان حامد خليل عميداً لكلية الآداب وهو أستاذ في قسم الفلسفة كان حريصاً على راحة أساتذته بشكل خاص ومنهم بديع الكسم، وحامد شخص مهذب ومؤدب، ولكنه لا يرحم إن أضمر شراً لأحد. جاءه بديع الكسم يوماً إلى مكتب العميد لأمر ما، وهو أمر نادر أن يفعله. ورحب به حامد أيما ترحيب، وقرر أن يلاطفه ويبدي الاهتمام به. قال حامد لبديع: يا دكتور بديع أنت أستاذنا وأستاذ الكل، قل لي ما الذي يرضيك لأفعله، إذ يبدو عليك عدم الرضى دائما. أجابه بديع ما يرضيني لا تستطيع أن تفعله. قال حامد: قل ماذا وسأحاول.
فأجاب بديع: هل باستطاعتك أن تعيد القرويين من دمشق إلى قراهم. ههه. أجابه حامد هذه لا أستطيعها.
إن المفهوم الأرأس الذي كان هاجساً أصيلاً لدى بديع الكسم هو الإنسان بوصفه أنا مستقلاً.
في رسالته ومقالات أخرى نعثر عل جملة مفاهيم حاضرة دائماً لديه: الإنسان، الذات، الأنا، وجملة من الصفات الدالة على الإنسان الذات الأنا كالحقيقة والحرية والقناعة والإرادة والوجدان والمسؤولية والحرية والتمرد والتضحية والقلق والتجرد والنـزاهة.
لا شك أن هذه المفاهيم وردت في سياقات.
يكتب بديع الكسم في «البرهان والفلسفة» يقول «إن الإنسان في جانب أصيل وعميق من جوانب كيانه الروحي، صبوة إلى الحقيقة، والحق أن ذاتاً دفينة في أعماق الإنسان تتصور المثل الأعلى في المعرفة، معرفة تحيط بكل ما هو موجود، بل إن الرؤية التي يتجلى فيها الموجود والمطلق، بكل ما تبعثه في النفس من غبطة وفرح، تظل قاصرة عن ملء فراغها، عاجزة عن تلبية حاجاتها إلى العيني المحسوس.
ها نحن أمام مفاهيم ثلاثة في نص قصير. الإنسان، الذات، النفس، وهي غير مترادفة بل متشابكة. فالإنسان مفهوم كلي يبدأ به الإنسان صبوة إلى الحقيقة، فالحقيقة هاجس إنساني. كأنما أراد الكسم أن يعرف الإنسان بأنه ذلك الكائن الباحث عن الحقيقة.
وفي كل إنسان ذات داخلية هي التي تعينه، الذات تحوله إلى معنى مشخص، وبالتالي الذات تشخص الحقيقة. فيما النفس هي المنفعلة: هي التي تفرح وتحزن وتتلذذ وتتجه إلى المحسوس ينتقل بديع من الإنسان كائناً مجرداً إلى الإنسان المتعين حين يتحدث عن المفكر.
يكتب بديع عن المفكر قائلاً «من هنا كان المفكر – في التعريف – سادناً للحقيقة، وكل راع مسؤول عن رعيته، فالمفكر إذاً مسؤول ولكن المسؤولية عبء لا يحمله إلا الأحرار. إنها تفترض الحرية وتزول بزوالها. الفكر إذاً حرية، والمفكر الحر هو وحده المفكر، وهنا لا بد أن نسقط من عالم الفكر كل فكر زائف تخلى عن هويته، ذلك أن من باع حريته فقد إيمانه بالحقيقة، وكل من لا يصدر في أحكامه عن حرية داخلية، عن قناعة وجدانية لا يمكن أن يكون وفياً للحقيقة.
في تأكيد الكسم الترابط الضروري بين المفكر والحرية انتصار للحقيقة والحرية والأنا – المفكر، ينتصر الكسم للضمير الأخلاقي للوجدان السامي.
عبثاً يحاول من تخلى عن حريته أن يصل إلى الحقيقة، لأن الأنا الحر وحده الذي يجعل من حريته طريقاً للوصول إليها. الأنا الحر لم يكلفه أحد بمسؤولية البحث عن الحقيقة، الأنا الحر يستجيب لندائه الداخلي، وهو يحوّل هموم البشر إلى همومه ويتحمل مسؤولية الكشف لهم عن الحق.
الحرية هنا ليست شرطاً خارجياً، إنها وعي ذاتي بالحرية وإذا كان هناك من ينفي الحرية عن المفكر أو يحاول أن يكبله بالأغلال، فإن المفكر عصيّ على الأسر. كأني به يستعيد كلمات بروميثيوس «لخير لي ألف مرة أن أكون مكبلاً بصخرة من أن أكون خادماً لزيوس”.
أجل الحرية ليست فكرة إنها واقع متعين، إنها ظهور الأنا الدائم، وأي ظهور أرفع من ظهور الأنا الباحث عن الحقيقة.
لا يقتصر قول الكسم في الحرية على حرية المفكر. وإنما يدفع قدماً بفكرة الإنسان الحر. في مقال له بعنوان «الإنسان حيوان ناطق» يكتب بديع الكسم قائلاً «إن الإنسان هو ما ليس هو، فالإنسان يتجاوز ذاته باستمرار، فهو إذاً تعلق بالمستقبل ونفي للماضي. فالإنسان إذاً لا يرضى عن واقعه، فإنه يرفضه ليتمرد بقول لا فالإنسان إذاً يتعين دائماً. إنه متمرد، صانع، سياسي، فيلسوف، عالم، عابد، ثائر، عاشق، فنان، وجوده سابق على ماهيته، إنه يصنع ذاته على نحو مستمر.
لا شك أن الكسم يستعير الفكرة من سارتر، لكن للاستعارة هذه معنى عميقاً. إنه وقد أخذ فكرة أسبقية الوجود على الماهية بالمعنى السارتري ليدافع عنها، فإنه اتخذ موقفاً من الإنسان من الماضي من الحاضر من المستقبل وفوق هذا وذاك من الحرية. إنه في هذه اللحظة من الوعي وجودي بامتياز.
فالأنا وقد وقفت موقفاً غير راض عن العالم، فإنها تشفع هذا الموقف باللا. وما اللا إلا دلالة التمرد. بل الإنسان وجود متمرد، حتى ليمكن القول إن كوجيتو جديد يعلنه الوجودي «أنا أتمرد إذن أنا موجود». إن التمرد هنا هو تعبير عن التجاوز الدائم للوجود، للحاضر فالأنا الحر يعيش في المستقبل لماذا لأنه يعين ذاته باستمرار، لأنه ليس هوية ناجزة، ليس جوهراً ثابتاً، إنه يصنع ذاته باستمرار كما يقول الكسم.
ربما كان الكسم يختزن هذه اللا في صدره، ربما كان صمته ناتج من أنه لا يملك إلا اللا، لكنه لم يستطع أن يعين هذه اللا. حسبه أن يدعو إليها. وهو إذ اختار نماذج من تعيين الإنسان، من الإنسان الذي لا يكف عن التعين: التمرد، الصانع، السياسي، الفيلسوف، العالم، العابد، الثائر، العاشق، الفنان، فإنه أراد أن يقول هو ذا الإنسان متمرد على العالم لأن كل شخوصه التي ذكر هي شخوص متمردة.
إن دفاع الكسم عن التمرد أمر مفهوم، إذ لا انفصال بين التمرد والحرية، بل قل الحر وحده قادر على التمرد. هل كان الكسم يحلم بمجتمع أحرار. أجل هو ذا أس فكر الكسم الذي ضمته صفحاته القليلة.
أحببت بديع وأحبني، سألته مرة لماذا أقلعت عن الكتابة مبكراً، وأنت مقل بالأصل؟ أجابني لمن أكتب يا أحمد. لم أعلق لأن سؤالي كان خاطئاً فلا يُسأل الكاتب لماذا تكتب أو لماذا لا أساتذتي.
أنطون مقدسي
منذ دخوله قاعة الدرس لا تثبت عيناه على مكان، لم يكن يلقي درساً علينا، كان يقوم برحلة، ويقودنا معه بهذه الرحلة، تحس بأنه ليس موجوداً معنا، أيّ سحر يمارسه أفلاطون على هذا الرجل، بل كنت على يقين بأنه رغم إقامته في دمشق لكنه كان يعيش في أثينا قبل الميلاد، ولم يغادر أكاديمية أفلاطون ولا رواق أرسطو. أجل درسنا الفلسفة اليونانية بحب، وغرسها في وعينا، لا بوصفه أستاذاً محاضراً، بل داعية لها.
وحين سألناه: ما هو الكتاب المقرر يا أستاذ؟ أجاب: محاورات أفلاطون. أصابتنا الدهشة والتأفف وسألناه: أي المحاورات؟ أجاب الجمهورية والثيئتتوس والسفسطائي والمأدبة وراح يعدد. وسأشرحها لكم هي وأرسطو. المطلوب منكم أن تعرفوا أفلاطون وأرسطو.
قال لنا بكل وضوح كل الفلسفة بعد أفلاطون ليست سوى شرح لما جاء به أفلاطون، كل أسئلة الفلسفة طرحها أفلاطون.
لا أنسى ما حييت أغرب سؤال في امتحان الفلسفة اليونانية الذي وضعه أنطون مقدسي للإجابة عنه: تحدث عن الفرق بين مُثل أفلاطون وأجناس أرسطو.
كنا ثلة طلاب بلوزيين (نسبةً إلى نايف بلوز)، وكنا دائماً مع الأستاذ، ومولعين بمحاضرات أنطون مقدسي أيضاً، الذي يقف على الضفة الأخرى من الفلسفة. ولم يكن أنطون أستاذاً ذا علاقة مع الطلاب أبداً، وربما لم يعرف اسم أي طالب من طلابه، سوى اسم طالب وحيد كان من المتنفذين في السلطة.
كانت علاقته بماركس علاقة غامضة. يحب من ماركس نقده للرأسمالية، أما الماركسية فلم يكن يعيرها أيّ اهتمام. حين ألقى كلمة رثاء لسعيد حورانية في سينما الحمراء، أشاد به وبإيمانه والدفاع عما يؤمن به.
وتمضي السنون ويقوم سعدالله ونوس بإجراء حوار مع الأستاذ في الكتاب الدوري “قضايا وشهادات” صيف 1990 وفيه يقول :
“أنا أعلم أن الصورة قاتمة ومحبطة، لكني ـ ما دامت لدي القدرة ـ سأظل أعمل وأبدي رأيي. تمر لحظات قصيرة أشعر فيها باليأس، لكني سرعان ما أنحيها قائلاً لنفسي: سأواصل المحاولة حتى مماتي”.
عاش بين جدران أربعة يفكر بحرية وظلّ مشدوداً للمستقبل، يتأمل تجربة الماضي بجمالها وقبحها، بيقظتها وسباتها، بانتصارها وهزيمتها. يتجاوز وعيه بالعالم دائماً، لكنه ظلّ مشدوداً الى الحداثة والعقلانية والديموقراطية.
مثقف الممكن، لم يأسر نفسه في النزعة الأكاديمية الخادعة، ولم ينكص إلى ذاتية يائسة تنال من أحلام الناس، بل ظل مشروعاً يرسم الوجود الآتي. هاجسه الإنسان الحر في الشرق والغرب فلم يتغرب ولم يتشرق.
في مكتبه الصغير في وزارة الثقافة كان يرسم مشروعاً للوعي عبر الترجمة، وتأتي كتب آلان تورين، وألتوسير وهنري لوفيفر، وشاتليه، ورأس مال ماركس. كأنما أراد تجاوز فقرنا الروحي بإثرائنا بالوعي الغربي بالعالم. لكن أنطون ناقد شرس لحداثة الغرب التي أفقرت الإنسان عبر الرأسمالية. أرادها حداثة دون اغتراب لأنه مع الإنسان الذي حلم به ماركس والمسيح.
حسبك أن تستمع إليه حين قال “لقد فجر الإنسان كل غرائزه: الآلة، المجتمع الاستهلاكي، الصور، السينما، التلفزيون.. كل هذا فجّر غرائز الإنسان جميعاً، فصار فقيراً. لم يعد لديه ذلك الفائض. وهنا نقطة ضعف الحداثة. الإنسان في حقيقته فائض عن ذاته. في هذه المجانية التي تطفر منه. الآن ضاعت المجانية. كل قيمة المسيحية أنها استغلت هذه المجانية إلى أبعد حد، أو أرادت أن تهبها. فالفكرة المسيحية، وهي تختلف عن النظام الكنسي والتديّن، مبنية على أن كل ما في الدنيا مجاني، لا ثمن له. لأن الرب مجاني. كل ما في الطبيعة مجاني. الله يحب، يعني أنه يعطي كل شيء. هذه المجانية تلاشت واندثرت.. ما من شيء مجاني في واقعنا الراهن. كلها أسعار وحسابات. حتى الكتابة صارت جزءاً من العملية التجارية الواسعة.. هنا مأزق الرأسمالية، ومكمن الفساد. هذا الوضع أفقر الإنسان”.
هو ماركس يتحدث بلسان المسيح، أو المسيح يتحدث بلسان ماركس. إنها طوباوية ولا شك، لكنها طوباوية التمرد، طوباوية أفضل من واقعية آسنة تدافع عن الواقع. كان ديالكتيكياً ولكن على الطريقة الأفلاطونية، معتقداً بأن أفلاطون هو أبوالديالكتيك في الأصل.
في بداية ربيع دمشق، وعلى أثر خطاب قسم الوريث كتب مقدسي رسالة شجاعة إليه أدان فيها الواقع، ومدافعاً عن الشعب، وطالبه فيها بالعمل من أجل نقل السوريين من حال الرعية إلى حال المواطنة.
في بداية ربيع دمشق اتصل بي رياض سيف، يدعوني فيها لإلقاء المحاضرة الثانية في منتداه، وحين سألته من هو المحاضر الأول، أجاب أنطون مقدسي. وهكذا كان. كانت محاضرته حول المجتمع المدني، وكانت محاضرتي بعنوان: الدولة والمجتمع .وقام رضوان زيادة بنشر جميع المحاضرات لاحقاً في كتاب.
عاد أنطون مقدسي في سنواته الأخيرة إلى إيمان لاهوتي بعيداً عن الفلسفة بما كتبه عن دلالة على ما قيل بأنه انسكاب الزيت من أيقونة للعذراء.
أهم ما كان يميز مقدسي تقديره للاختلاف، وحبه للمحاورة، فهذه الروح الأفلاطونية رافقته حتى النهاية.
أجل، أحب أفلاطون دون عبيد، ومال إلى ماركس دون ماركسية، واحتفظ بالمسيح وروح المسيحية، وظل عروبياً دون تعصب. أحب الأرسوزي ولم يكن أرسوزياً، خان الفلسفة وصدق قصة سيلان الزيت من أصابع أيقونة العذراء في كنيسة الصوفانية. ويبدو بأن هناك علاقة، عند بعضهم، بين الشيخوخة والعودة إلى الإرث الديني.
نايف بلّوز
من هو نايف بلوز؟ قليلون هم الذين إذا ذكرت لهم نايف بلّوز يعرفونه ويتذكرونه، وعندي بأن نايف من ألمع الأساتذة الذين مروا على قسم الفلسفة، لكنه كان مقلاً في الكتابة. وهذا ما حال بينه وبين الشهرة.
كان ذلك في عام 1970، دخل إلى قاعة الدرس، في قسم الفلسفة، رجل أشيب يبدو في عمر الأربعين أو يزيد، ذو ملامح قاسية، جبهة عريضة، نصف صلعة، شارباه شبه معقوفين صغيران، وعرَّف بنفسه قائلاً: أنا نايف بلّوز، سأدرسكم مقرر المدخل إلى الفلسفة.
وراح الأستاذ يلقي علينا من القول دون أن يكون أمامه أي نص ينظر إليه، كنّا أول عهدنا في تلقي العلوم الفلسفية، حيث يقوم عادل العوا مدرس الأخلاق بقراءة صفحات من كتاب ترجمه، وَعَبدالكريم اليافي يحكي لنا قصة علم الاجتماع، وصفوح الأخرس يتلعثم بعرض ما يحلو له من كلام يبدو في علم الاجتماع أيضاً .
وتمضي الأيام، وندرك أننا أمام أستاذ متميز ومختلف معرفة وسلوكاً، لم يحل مزاجه العصبي دون أن نتحلق حوله، نحن مجموعة من الطلاب الأكثر نضجاً في المعرفة، وتقوم علاقة صداقة بين الأستاذ وبيننا .
وسنة وراء سنة يتحول نايف بّلوز إلى أب روحي، وفاعل في صناعة وعينا الفلسفي، ومواقفنا الأيديولوجية .
أجل أصبح نايف أباي الفكري والفلسفي والأيديولوجي، فضلاً عن أنه أصبح الصديق الحميم الذي جعل العلاقة تتجاوز علاقة الأستاذ بالطالب .
لم يكن لنايف كتب حول المقررات التي درسنا إياها، بل كان يستند على ما يسمى آنذاك “بالأملية” المطبوعة على آلة النسخ، وعلى كتب مطبوعة في سوق الكتاب، ففي المدخل إلى الفلسفة كانت أمليته مرجعاً وحيداً، ومحاضراته كانت من الثراء بحيث صار سؤال ما الفلسفة وما هي مشكلاتها حاضراً في وعينا على امتداد السنوات الأربع .
وفي علم الجمال، جاءت محاضراته تقديماً لكتاب جورج لوكاتش الذي ترجمه عن الألمانية “دراسات في الواقعية” (عام1972) وفي الفلسفة الحديثة قرر الرجل علينا كتاب يوسف كرم “الفلسفة الحديثة”. ثم راح يملي علينا زاوية رؤيته الديالكتيكية في كل مسألة من مسائل الفلسفة التي يدرسنا إياها .
كان نايف أول أستاذ يدخل المنهج الديالكتيكي الماركسي إلى قسم الفلسفة، دون أيّ دوغمائية شيوعية، بل كان يسخر مما كان يسميها “النزعة التخطيطية” للمنهج الماركسي المتداول .
مع نايف، عرفنا فلسفة ديكارت وإسبينوزا وكانط وماركس، ومعه ومع لوكاتش عرفنا العلاقة بين الجمال الأدبي والواقع، بعيداً عن الواقعية المبتذلة الموروثة عن الستالينية .
وتمضي السنون ويسافر الفتى أحمد برقاوي إلى الاتحاد السوفياتي، وتجري المراسلات حول ما أنا بصدد كتابته في الأطروحتين “الماجستير والدكتوراه” ، ويكون نايف بمثابة المشرف الصديق إلى جانب المشرف السوفياتي .
وأعود زميلاً للأستاذ، وندرّس معاً “مادتي مناهج البحث في العلوم الاجتماعية، ومناهج البحث في العلوم الإنسانية” وهما المقرران اللذان حضر لهما نايف وجمع كتابين ليسا بالمؤلفين.
كان نايف نهماً في القراءة ومقلاً جداً في الكتابة، بل لم تكن من بين طقوس حياته اليومية طقس الكتابة. في السبعينات، حين استعرت موجة التراثيين العرب، خاض معركة في المنهج في حوار غني مع حسين مروة وسواه، رافضاً رفضاً قاطعاً، نظرية الانعكاس الماركسية، والترابط الميكانيكي بين الوعي والواقع، والفكر والطبقة، ونافياً أن تكون المادية والمثالية معياراً للحكم على هذه الفلسفة أو تلك. لم ير نايف ابن رشد إلا من زاوية روح العقلانية والتنوير، الروح الضرورية للدخول إلى العصر .
سيكتب نايف بلٰوز كتاباً جامعياً لمقرر علم الجمال ”علم الجمال” (المطبعة التعاونية بدمشق1980) وهو الكتاب الأول المكتوب بروح ديالكتيكية – ماركسية في العربية، إلى جانب كتب مترجمة، صحيح بأن الكتاب لم يضف جديدا على ما قدمه عالم الجمال السوفياتي المشهور موسي جاجان، الذي ترجم كتابه الأشهر إلى لغات أجنبية عدة، لكنه وضع بأيدي الطلاب والقرّاء مرجعاً لا غنى عنه للتزود بالمعرفة الفلسفية الجمالية .
وفي دراسة كتبها الدكتور بلوز حول الأمة وألقاها محاضرة، أشار للمرة الأولى إلى الفرق بين القوم والأمة، والترابط بين الدولة والأمة .
كان نايف أنموذجا للأستاذ موسوعي المعرفة، والمهموم بنقلها إلى طلابه بكل إخلاص مهني، ومحاوراً عميقاً مستخدماً مخزونه المعرفي بكل منهجية .
أما على المستوى السياسي، فلم يكن لديه أيّ أوهام حول طبيعة النظام الدكتاتورية، وحتمية وصوله إلى المأزق. وفي حواراتي الدائمة معه كان يؤكد على مسألة مهمة ألا وهي ضرورة أن ينجز حافظ الأسد في حياته إعادة سوريا إلى وضعها الطبيعي، وقال لي مرة نقلاً عن السفير الأميركي إدوارد جريجيان أن السفير قال لحافظ الأسد عند وداعه بعد انتهاء مهمته في سوريا “أنا ذاهب إلى بلادي، ولكن أحب أن أقول لكم بأن الحكم بهذه الطريقة لا يمكن أن يستمر، يجب العودة إلى الوضع الطبيعي .”
وكان هذا هو رأي الدكتور نايف، الرأي الذي نقله بطريقة ذكية إلى حافظ الأسد شخصيا في اللقاء الطويل الذي تم بينهما بناء عل طلب الأخير. ومازلت أتذكر قوله لي بعد اللقاء “لا أمل يا أحمد في التغيير، لا تغيير في سياسته تجاه الداخل ولا تجاه لبنان ولا تجاه الفلسطينيين، حافظ الأسد يكن الكره الشديد لأبي عمار.. ياسر عرفات . “
كان نايف شخصاً مستقيماً، أخلاقياً، قليل المساومة، مدافعاً عما يؤمن به حد العدوانية أحياناً، ورغم ما كان يبدو عليه من سلوك غضبي وعنيف، لكنه كان طيب القلب، لا يحمل حقداً على أحد .
مرض نايف، وفقد جزءًا من ألمعيته وذاكرته، وراح يحدثني عن ضرورة تعويض ما فاته من كتابة، وإنه سيعمل على ذلك، لكن الجسد خانه، كان آخر مما خطه نايف دراسة حول العلمانية وكانت أفضل ما كُتب حولها آنذاك .
رحل نايف وترك خلفه صورة الأستاذ السقراطي بلا منازع.